الرئيسيةمتفرقاتثقافةالرؤية والواقع: قراءة في رواية "نساء الظل" لخالد صافي

الرؤية والواقع: قراءة في رواية “نساء الظل” لخالد صافي

كتب: ناهـض زقـوت

يقول اميل زولا: “إننا نحن الروائيين قضاة تحقيق عن البشر وأهوائهم”.
ينفتح عالم الرواية الفلسطينية الجديدة في قطاع غزة على تناول القضايا الاجتماعية، والغوص في أعماق المجتمع للكشف عن المسكوت عنه، وذلك بعد أن استنفذ الكتاب الفلسطينيون موضوعاتهم في النكبة والنكسة، فاتجهوا إلى الكتابة عن القضايا الحياتية والمعيشية، وما طرأ على المجتمع الفلسطيني من تغيرات بعد الانقسام، وتداعيات هذا الانقسام على حياة الناس. فكتبوا عن البطالة والفقر، والهجرة العكسية، ومسيرات العودة، وقمع الحريات، وعدم احترام آدمية الإنسان، وإحياء ذاكرة المكان، والغوص في أعماق التاريخ، وظاهرة العملاء، وغيرها من القضايا في محاولة للتعبير والاقتراب أكثر من هموم الناس وتأثيرات هذه القضايا على حياتهم ومعيشتهم وسلوكهم الاجتماعي.
بين أيدينا رواية “نساء الظل” الصادرة عن مكتبة سمير منصور بغزة عام 2021، للكاتب خالد محمد صافي، يطرح من خلالها قضية اجتماعية مسكوت عنها، لم يتم طرحها روائياً بشكل كبير، اللهم إلا رواية واحدة للكاتبة هيام قبلان في روايتها “رائحة الزمن العاري – القاهرة 2010”. ألا وهي قضية النساء الأرامل وتداعياتها في المجتمع الفلسطيني. تمثل هذه الرواية التجربة الأولى للكاتب خالد صافي الأستاذ الجامعي المتخصص في التاريخ المعاصر، ومن قبلها كتب القصيدة الشعرية والقصة القصيرة.
يمثل العنوان “نساء الظل” المدخل للرواية الذي يشد القارئ بالسؤال، ماذا يعني هذا العنوان؟، ومن هن تلك النساء التي تعيش في الظل؟. وحين يغوص القارئ في أعماق الرواية يكتشف أنه أمام رواية واقعية مستمدة من واقع غزة المؤلم والقاسي، فنساء الظل هن الأرامل اللاتي رحل أزواجهن إلى السماء، وتركن للعيش في واقع لا يرحمهن. نماذج بشرية حية نراها أمامنا كل يوم دون أن نشعر بمعاناتها، فتلك المعاناة لا تظهر إلا للمقربين من تلك النماذج، لذا سلط الكاتب الضوء عليها وسبر أغوارها النفسية والاجتماعية، وكشف عن أسباب وتداعيات معاناتها سواء على المستوى الاجتماعي أو العائلي.
إن مشهد غزة بعد الانقسام، وتعرضها لأكثر من عدوان اسرائيلي، ترك المئات من النساء أرامل بعد استشهاد أزواجهن، تحمل المأساة لوحدهن، مشهد موجوع، فكل شخص في غزة له حكايته الخاصة من الوجع والمأساة، التي لا يرويها، وإن رواها قد لا تثير اهتمام الآخرين، لأن حكايته قد يكون وجعها أقل قسوة من حكاية الآخر. غزة عالم مفتوح بالحكايات على مساحة الفضاء، تخفيها العيون والبيوت والأقنعة دون أن تكشف عن نفسها.
يتشكل البناء السردي للأحداث من خمس حكايات لنساء أرامل (نادية، فاطمة، أسماء، نسرين، وغادة) عبر الكاتب من خلالهن عن معالم الحياة القاسية اللاتي يعشنها بسبب الظروف الاجتماعية في قطاع غزة بعد رحيل أزواجهن. وقد جاءت هذه الحكايات مفككة غير مترابطة، إذ أن الروابط أو العلاقات بين هذه الشخصيات معدومة تماماً كي يشكلوا رواية واحدة، فنادية مثلاً لا تعرف غادة أو فاطمة وليس ثمة علاقة تربط بينهم على المستوى الاجتماعي، فهي ليست صديقتها أو زميلتها من أيام الدراسة أو زميلتها في العمل، لكي يتم تواصل بينهما من خلال السرد الروائي، كذلك باقي الشخصيات الأخرى.
لهذا كل واحدة تحكي أو تروي حكايتها منفصلة أثناء انتظارهن أمام إحدى الجمعيات الخيرية، دون أن تقاطعها الأخريات بسؤال أو استفسار، وإذا أعطينا كل واحدة من تلك النسوة ساعة للحديث عن تفاصيل حياتها كما جاء في السرد، فنحن أمام خمس ساعات متواصلة من السرد الحكائي دون ملل أو تأفف، مما يدخل إلى نفوسنا شيء من الغرابة والدهشة في البعد الزمني للسرد، كذلك دون أن نعرف ردات الفعل لدى الأخريات عن سرد إحداهن.
لهذا جاءت الرواية عبارة عن لوحات قصصية دون رابط يجمعها إلا المصير المشترك أو الحالة الاجتماعية التي تعاني منها كل واحدة منهن وهي حالة الترمل، وقد تنبه الكاتب لهذه المسألة فعمل على تقطيع السرد بين تلك الشخصيات حتى لا تصبح كل حكاية قصة منفصلة إذا تم سردها بالكامل، فنجد (نادية) سردها في ست لوحات، و(فاطمة) في ست لوحات، و(أسماء) في لوحتين، و(نسرين) في لوحتين، و(غادة) في ثلاث لوحات، ومن هنا كانت حبكة الرواية ضعيفة، ومرهقة للقارئ، لأن الكاتب استخدم طريقة السرد المتقطع حيث يأتي على سرد كل من نادية، وفاطمة، وأسماء، ونسرين، وغادة كل واحدة فيما عنونه برقم (1)، ثم يعود إلى نادية وصولاً إلى غادة في رقم (2) وهكذا. وقد كان بالنسبة لي لكي أجمع خيوط وتفاصيل كل شخصية اضطررت لقراءة كل شخصية مستقلة. في رأينا لو جمعت كل حكاية داخل الرواية لم يحدث أي خلل، إذ تصبح حكايات أو قصص منفصلة، تشكل قصص قصيرة متوحدة في موضوعها.
ولم يكتف السارد/ الكاتب بالهيمنة على السرد باستخدام ضمير الأنا المتكلم، وحين شعر أن دوره أصبح أكبر من دور الشخصيات، خلق حواراً في السرد، إذ جعل لكل شخصية صديقة تتحاور معها، فنجد (نادية) صديقتها ليلى، و(فاطمة) صديقتها صفاء، و(أسماء) صديقتها فاطمة، و(نسرين) صديقتها هدى.
لقد أتعبني الكاتب وأرهقني في الاضافات التفسيرية التي كان يضيفها على السرد الروائي، والتي لا تفيد الرواية والقارئ بشيء، إنما هو تزيد لا طائل منه، مما أضعف البناء السردي، ويدفع القارئ إلى الملل من هذه الشروحات والتدخلات. لقد تدخل الكاتب في السرد بشكل كبير يتجاوز نصف الرواية، حيث يقدم شرحاً وتفسيراً للكثير من الأحداث التي لا تستدعي الشرح إنما يكفي التلميح بشأنها ليفهم القارئ، فنجده يشرح عن الأنفاق على الحدود والهدف من ورائها، وانتقاد التعليم في المدارس، ويشرح العدوانات على غزة وتأثيرها، وتفسير معنى المرابطة على الحدود، وشرح الانقسام الفلسطيني، وموقف المجتمع من المطلقات والأرامل، وبلوك الأرامل في المخيم بشكل تقريري صحفي، ومعلومات عن قانون الأحوال الشخصية، وشرح مستفيض عن الحجاب وزمن وجوده وأنواعه، وقد وصل به الأمر إلى الشرح عن أنواع المفتول، حتى أصدر بياناً في ختام الرواية بما يشبه طريقة تقارير حقوق الإنسان يتعلق بحقوق تلك النساء الأرامل. منذ الصفحات الأولى وحتى نهاية الرواية والكاتب يتدخل في السرد بشكل فج ليس له علاقة بالرواية ولا يضيف شيئاً لها، إنما التاريخ يعشش في ذهن الكاتب بحكم تخصصه فلم يستطع التخلص منه على قاعدة أن “الروائي ليس مؤرخاً”، فهو خالف هذه القاعدة، وجعل من روايته أداة لاستعراض معلوماته وثقافته سواء الاجتماعية أو التاريخية في السرد، وجعلها كأنها رواية تعبر عن أفكار الكاتب، وهذه النماذج ما هي إلا أدوات الكاتب لاستعراض أفكاره ورؤاه السياسية والتاريخية.
لقد حددت الرواية مكان السرد وهو غزة، حيث تجتمع خمس نساء أمام إحدى الجمعيات الخيرية دون سابق معرفة، وكل واحدة منهن تسرد حكايتها أمام الأخريات، بكل تفاصيلها الاجتماعية والأيروسية. جاء في افتتاح الرواية: “جمعتنا مأساة واحدة، مأساة الفقد، مأساة رحيل السند والشريك … اتفقنا أن نحكي نفضفض همساً أو بوحاً أو صراخاً، نعالج به كبت الذات، وقمع النفس، لكل منا حكاية”. ثمة خطاب جماعي هنا لمأساة جماعية، ويستمر هذا الخطاب الجمعي في السرد “ونحن نطرق أبواب هذه الجمعيات … بدأنا نفتح قلوبنا لبعضنا البعض … جمعنا صخب لقمة العيش … اتفقنا أن نبوح فيما بيننا”.
هذا الخطاب الجمعي هو الذي يجمع بين شخصيات الرواية، اللاتي تتشكل حكاياتهن بعد رحيل أزواجهن، فإذا كان المكان جمعهن، فقد تباين الزمن في كل حكاية من حكاياتهن، فنجد زمن (نادية) استشهاد زوجها في قصف اسرائيل للحدود والأنفاق، وزمن (فاطمة) استشهاد زوجها في عدوان 2008- 2009، وزمن (أسماء) استشهاد زوجها في عدوان 2012، وزمن (نسرين) استشهاد زوجها في عدوان 2014، وزمن (غادة) استشهاد زوجها في مسيرات العودة.
ثمة قواسم مشتركة بين تلك الأرامل، وتقارب همومهن وقضاياهن من حيث جميع أزواجهن شهداء، ومحاولات سيطرة أهل زوجها على أموال الأيتام ومساعداتهم، ودفعهن إلى الزواج من أخو الشهيد أو أحد أقاربه، ونظرة المجتمع إلى المرأة الأرملة، وقمع المشاعر والأنوثة، والبحث عن بدائل لإرواء رغبات الجسد. لهذا نأخذ نموذجاً من تلك الحكايات وهي (نادية) للتعبير عن حالة الأرملة في المجتمع.
ـنادية: أرملة رحل زوجها وترك لها أربعة أطفال، وكان زوجها من المرابطين على الحدود الشرقية في مواجهة العدو، تعيش معه في بيت العائلة، واستشهد زوجها في قصف للطائرات الاسرائيلية. يظهر طمع حماها في راتب زوجها ومساعدات الجمعيات الخيرية لأطفالها، وملاحقته لها في كل مكان للاستيلاء على المساعدات، فيأخذ الصراع بينهما ابعاداً عديدة من محاولة تزويجها من أخو الشهيد تحت دعاوي المحافظة على حقوق الأطفال، ثم عرض بتزويجها من ابن عم زوجها، كل ذلك بهدف النيل من أموال أطفالها، ولكنها رفضت كل العروض للزواج مؤكدة رغبتها في احتضان أطفالها ورعايتهم. تمكنت من جمع مبلغ من المال استطاعت به شراء منزل مستقل، وتنازلت عن شقتها في بيت العائلة لكي تبعد عن مناكفة حماها، وتستقل بذاتها وأطفالها، وعملت في روضة للأطفال، ورغم ذلك استمرت تدخلات حماها وأسلافها في شؤونها تحت حجة رعاية الأطفال. وقد كبتت مشاعرها ورغبات الجسد، وأصبحت تعيش على ذكريات الماضي، التزاماً بتقاليد المجتمع ونظرتهم إلى المرأة الأرملة.
تلتقي في إحدى زياراتها للبنك لصرف شيك المساعدات بموظف يطيل النظر إليها، مما أدى إلى تفجر أنوثتها المكبوتة، وتصف مشاعرها واحتياجات الجسد التي تقمعها بممارسات شاذة. بعد عودتها لمنزلها تجد الموظف “فارس” يضع لها ورقة تحمل عنوانه على الفيس ورقم جواله، وتتطور العلاقة بينهما على الفيس بوك، وحكى كل منهما للأخر حكايته، حيث نجد فارس يشعر أيضا بالحرمان لمرض زوجته، ومع تواصلها بالحديث على الماسنجر مع فارس الذي استطاع أن يروي حرمانها وعطشها طوال سنوات، ويعيد خلق الأنثى داخلها. تقول لصديقتها ليلى: “إن كلانا ينجرف بقوة نحو مقارعة الحرمان، وتحدي قضبان المجتمع الذي فرض علي العزلة والانطواء على أولادي”. لم يكن المجتمع هو الذي فرض عليها العزلة، بل هي التي فرضت على نفسها العزلة من أجل تربية أولادها، ولكن رغبات الجسد جعلتها تتراجع عن هدفها نحو اشباع حرمانها.
في مقابل نادية في السرد نجد شخصية “ليلى” صديقتها المطلقة عن زوجين، وتكره الرجال تقول: “أنت عارفة أني قدت لزوجي الأول أصابعي العشرة ولكن طلع المنيل محكوم لأمه، ربنا يخليني أشوف فيها يوم، دارت وراي غيرة مني حتى جعلته يطلقني، وشفت الثاني وراني الويل، شتيمة وضرب وعصبية”.
يتفق فارس ونادية على الزواج سراً حتى يترتب وضعه مع زوجته، ولكي يخفي موضوع علاقته بها، يطلب منها أن يزوج ابنه من ابنتها. وكان هو يسعى لكي يبقى الزواج سراً، وأخذ يلتقي بها في شقة ابنتها المجهزة لزواجها، وحين سألتها ليلي قالت: “رويت عطش روحي وجسدي بعد طول غياب”. ينكشف أمر فارس أمام زوجته المتسلطة عليه، فيبتعد عنها، وتصاب بصدمة حين يدعي أمام حاجز المرور بسؤال الشرطي أنها أخته، فلم يجرأ أن يقول زوجتي. مما جعلها تندم على تجربتها مع فارس.
إن نادية نموذج حي لكل الأرامل، امرأة سلبية ينحصر تفكيرها في مساعدات الجمعيات الخيرية لرعاية أطفالها، والبحث عن شهوتها، وكذلك باقي الشخصيات، ولم تسع أي واحدة منهن أن تبني حياتها على ما تحمله من شهادة جامعية، إذ كان حالتها طوال السرد في صراعها مع أهل زوجها، أو في التفكير لإشباع رغبتها الجنسية، وقد استطاع الكاتب من خلالها أن يجمع كل القضايا التي تعاني منها المرأة سواء على المستوى الاجتماعي أو المشاعر النفسية.
رغم كل ما انتقدناه في هذه الرواية تبقى تجربة أولى للكاتب حاول من خلالها رسم معالم روائية، فأخفق في بناء سرد روائي متكامل، وإن ما كتبناه لا يغني عن قراءة الرواية، فهي تحمل دلالات ومواقف سردية تعبر عن رؤى وأفكار قد نتفق معها على المستوى الاجتماعي وقد نختلف معها، ويبقى الأدب وجهة نظر على المستوى القراءة والنقد.
استطاع الكاتب أن يغوص في عالم اجتماعي غير مطروق أدبياً، وهو عالم النساء الأرامل اللاتي يعشن في الظل دون أن يتحدث عنهن أحد أو يكشف مأساتهن ومعاناتهن سواء على المستوى الاجتماعي أو العائلي، أو على مستوى الذات الأرملة حيث يطرح بكل جراءة لموضوعات تمس حالة المرأة الأرملة من كبت وحرمان، والبحث عن بدائل لإشباع الرغبة الجنسية، والأحلام والتخيلات التي تنتابها ليلاً تحمل دلالات جنسية. لقد تمكن الكاتب من سبر أغوار الأرملة النفسية، وكشف ما تعانيه بكل جدارة وقوة في التحليل النفسي لهذه الشخصيات.

أخبار ذات علاقة

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

أهم الأخبار

اخترنا لكم

المكتب الإعلامي الفلسطيني في أوروبا