الرئيسيةمختاراتتقارير وتحقيقاتبعد 74 عاما من النكبة.. "شلبي" ينتظر لقبا جديدا

بعد 74 عاما من النكبة.. “شلبي” ينتظر لقبا جديدا

حملت سارة شلبي طفلها عبد الوهاب، ابن التسعة أعوام، لتساعده على الصعود لإحدى الشاحنات التي أحضرتها قوات الاحتلال الإسرائيلي لتهجير أهالي قرية أسدود، تحت فوهات البنادق، أواخر أكتوبر 1948، بعد عدة معارك دارت حول القرية في أوقات سابقة.

تسلقَت الأرملة سارة الشاحنة هي وأمها، عائشة يونس، وطفلها عبد الوهاب، و[انحشروا] بين أكوام من عجزة ونساء وأطفال القرية، بعد أن تم نقل الشباب كأسرى حرب في شاحنة منفصلة.

يقول عبد الوهاب زكريا شلبي (84 عاما) في لقاء مع “وفا” إن بلدته “أسدود” هُجّرت بالقوة في الثامن والعشرين من أكتوبر 1948، فيما كانت قرى ومدن أخرى كثيرة قد سقطت قبلها بشهور.

وأضاف شلبي، يتيم الأب حينها، أن قوات الاحتلال ألقت بهم على مشارف مدينة المجدل ليكمل مسيرته مشيا على الأقدام إلى غزة (20 كم على الأقل).

كانت القرية آمنة وصامدة يتمتع أهلها بالثقة بسبب وجود قوة عسكرية مصرية قادرة على حمايتهم، فقد كانت مصدر أمان، سيما بعد أدائها البطولي في التصدي لقوات الاحتلال، خصوصا في معركة الرمل”، قال شلبي.

انشغل أهل القرية في لملمة ما استطاعوا، كانوا مذعورين، أمهات يبحثن عن أطفالهن في الحقول والحواكير، ورجال يحمّلون دوابهم بما خف وغلا ثمنه، وأطفال انطلقوا ينادوا على آبائهم في الحقول وأغلقت المحال والمقاهي أبوابها، وفقا لشلبي.

“جريت إلى منزلنا، حملت شنطتي المدرسية القماشية وعلقتها في رقبتي، وحملَت أمي بعض الملابس… انطلقنا مشيا باتجاه الشمال، كنت أشد ثياب أمي من التعب، وصلنا إلى قرية حمامة ونمنا تحت شجرة جميز.”

وأشار شلبي أن أحد أسباب الخوف هو أخبار مجزرة ارتكبها الصهاينة في قرية دير ياسين، قرب القدس، والتي لا زالت تتردد.

وكانت القوات الصهيونية قد ذبحت مئات القرويين في “دير ياسين”، خلال مجزرة بقروا فيها بطون الحوامل في أبريل 1948، الأمر الذي أثار الذعر في أوساط القرى الفلسطينية.

واقترفت “العصابات الصهيونية خلال مرحلة “النكبة” أكثر من 70 مجزرة أدت إلى استشهاد ما يزيد عن 15 ألف فلسطيني. وشرّدت ما يربو عن 800 ألف من أصل 1.4 مليون، واستولت على 774 قرية ومدينة دمرت منها 531 وما تبقى خضع لقوانين الاحتلال، وفقا لبيان صدر عن الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني في الذكرى الرابعة والسبعين للنكبة.

ويقول شلبي إنه وفي اليوم التالي للرحيل، جاء أحد أعيان أسدود، عبد الله ربيع زقوت، وكان يعمل مدرسا، وطالب أهلها بالعودة لبيوتهم، وطمأنهم أن الجيش الأردني قادم وسيكونون تحت حمايته، عاد جزء من أهل القرية، منهم هو وعائلته، لكن الجزء الأكبر واصل المسير إلى الجنوب.

بعد عودة عدد من أهلها بأيام، حاصرت قوات الاحتلال القرية، واقتحموها تدريجيا بمدرعات وعربات عسكرية، وكانت حينها قد هدأت حرب 1948 عن ذي قبل وأعلن الاحتلال قيام دولته منتصف مايو، وهو اليوم الذي يحتفلون فيه تحت عنوان “استقلال”.

احتلت قوات الاحتلال القرية وفرضت منع التجوال، ونهب الجنود كل ما وقعت عليه أيديهم، وقتلوا كل من حاول الخروج من البيت، “ذكر أن عبد الحميد محيسن خرج من بيته فأطلقوا عليه النار وقتلوه على باب البيت،” وفقا لشلبي.

ويقول وليد الخالدي في كتابه “كي لا ننسى” إنه لم يتم احتلال “بلدة” أسدود إلا عند نهاية الهدنة الثانية في أكتوبر 1948، بعد تعرضها لهجوم واسع على يد لواء “جيفعاتي” الإسرئيلي.

فقد قُصفت فجرا بحرا وجوا في بداية عملية “يوآف”، وسقطت في يد الإسرائيليين في المرحلة الأخيرة من هذه العملية، وفقا للخالدي. [يواف اسم عملية عسكرية صهيونية سقط فيها مدن وقرى فيما كان يُعرف بلواء غزة].

في اليوم التالي للاحتلال جُمع أهل القرية في مقهى “مطر” وسأل الجنود عن الثُوار على رأسهم شخص يُكنى بـ”علي جُخة”، اشتهر بمقاومته للعصابات الصهيونية، لكنهم لم يجدوه.

وكان “على جخة” وأهله ميسوري الحال، وذات يوم -والحديث لشلبي- نصب الإسرائيليون كمينا له وهو في سيارة، وطرزوها بالرصاص، قُتل أهله جميعا لكنه نجا وفر.

مكث أهل القرية 4 أيام تحت منع التجوال، ثم أحضر جنود الاحتلال الشاحنات وألقوا بهم جنوبا. ويذكر عبد الوهاب شلبي أن الثُّوار، كانوا يلقبون بـ”المناضلين”، خاضوا أكثر من معركة قبل انسحاب القوة المصرية، لم ير المعارك بعينه آنذاك، لكنه شهد أبرزها التي عُرفت باسم “معركة الرمل”.

“تطاير الرصاص في بيتنا، كنت أسمع أزيزه، وسمعت صوت انفجارات عنيفة، كنت أرتجف خوفا،” قال شلبي.

وأضاف أن المناضلين الفلسطينيين من قرية أسدود وحمامة وعرب أبو سويرح وغيرهم اشتبكوا مع قوات إسرائيلية حاولت احتلال القرية، وشاركت القوة المصرية بالمدفعية وإطلاق النار، الأمر الذي حال دون سقوط القرية.

“كان للقوة المصرية المتموضعة قرب القرية دور رئيس، أوقع خسائر في القوات الإسرائيلية وكانت تشكل دعما لوجستيا ومعنويا للمناضلين…”

ويذكر شلبي أن المعركة بدأت بتسلل قوة اسرائيلية لمنزل من عائلة “الناطور”، وقتلوا أفراد العائلة ذبحا. واكتشف المناضلون قوة متسللة من البحر واشتبكوا معهم، وانطلق أحدهم ليبلغ القوة المصرية التي تدخلت بالمدفعية، وأوقعت فيهم خسائر فادحة.

ويؤرّخ الكاتب عبد الرحمن عوض الله في سيرته الذاتية (من فيض الذاكرة: قمح الخوابي الضائعة) لمعركة الرمل وذكر فيها أن 1150 جنديا صهيونيا حاصروا أسدود من الشرق والجنوب والشمال، واستطاعت مفرزة منها دخول بيت محمد الناطور وذبحوا ثمانية أفراد بالسكاكين، وأفلت منهم ابنه صبحي بأعجوبة، ثم داهموا بيت أحمد العروقي فقتلوه وأسرته جميعا.

ويشير عوض الله لشجاعة القوات المصرية في المعركة التي قُتل فيها أكثر من خمسين إسرائيليا، بينما استشهد 57 فلسطينيا وأصيب أكثر من 170.

وقال الباحث ناهض زقوت، المقيم في غزة، لمراسل “وفا”، إن عدد الشهداء من قرية أسدود خلال المعارك سنة 1948 بلغ ما يزيد عن 70 شهيدا فيما سُجل 21 مواطنا كمفقودين.

وبلغ عدد الشهداء الفلسطينيين والعرب منذ النكبة عام 1948 وحتى اليوم (داخل وخارج فلسطين) نحو مائة ألف شهيد، وفقا للجهاز المركزي للإحصاء.

ومن بطولات المعركة التي يذكرها شلبي هو طريقة أسر جندي اسرائيلي على يد أحد المناضلين.

“كان حسين أبو حرب يحمل بندقية قديمة غير أوتوماتيكية، طارد إسرائيلي يحمل رشاشا أوتوماتيكيا، ارتبك الإسرائيلي وأخذ يجري في الحقول، قبض عليه أبو حرب وسلمه للقوة المصرية”.

وبعد السيطرة عليها وطرد أهلها أنشأ الاحتلال على أراضي أسدود أربع مستوطنات هي “سدي عزياهو” و”شتولم” و”بني دروم” و”غان هدروم”، وفقا لوليد الخالدي.

ويرجع تاريخ أسدود، وفقا للموسوعة الفلسطينية، إلى القرن السابع عشر قبل الميلاد، وسكانها الأولون هم العناقيون، وهم من القبائل الكنعانية التي سكنت الساحل الفلسطيني وجنوب فلسطين في العصور القديمة.

وتقع أسدود على بعد 40 كم شمال شرق غزة، 53 كم غرب القدس، وتبعد 5 كم عن البحر المتوسط. وكانت ترتبط بالقدس بطريق معبدة. فيها محطة سكة حديد يمر بها خط القنطرة – حيفا.

ولم تغب القرية عن ذاكرة شلبي فيذكر كرم العنب الخاص بعائلته، ومطحنتي قمح “وابور الطحين”، إحداها لعائلة الأدعس (أبو شحتوت) والثانية لعائلة الدعالسة وأكثر من معصرة زيتون ومحل حسن غنام لتصليح الدراجات الهوائية، ومقاهي تملكها عائلات “غَبن” و”كتّوع” و”جودة” و”مطر”.

وتميزت أسدود عن باقي القرى بالمساحة وبعض المظاهر الأكثر، لذا يُطلق عليها في أكثر من مصدر وصف “بلدة”.

ووفقا للباحث زقوت، الذي ينحدر من قرية أسدود، تميزت بالمساحة واحتوائها لبعض المنشآت غير الموجودة في القرى الأخرى مثل مدرستين ابتدائيتين واحدة للبنين وأخرى للبنات، ومصنع للقرميد والأسمنت ومباني سكنية حجرية ومسجدين أحدهما مبني بالحجر. وفي الفترة ما بين 1947-1948 بلغ عدد المباني 1303، دمرتها إسرائيل سنة 1948.

وأشار زقوت، الذي أرّخ للقرية في كتابه “أسدود… تاريخ الأرض وأملاك السكان”، أن عدد السكان أواخر 1948 بلغ حوالي 8000 نسمة، امتلكوا 47,871 دونما (الدونم ألف متر مربع)، ناهيك عن أرض “مشاع” تابعة للقرية بلغت 12,479 دونما.

عاش عبد الوهاب شلبي في خيمة بمخيم النصيرات للاجئين، وحمل لقب “لاجي”، وكان قد أنهى الصف الثاني في أسدود، فأكمل تعليمه وأنهى دراسته الابتدائية فالثانوية والتعليم المتوسط، وانتقل للعمل كمدرس في الكويت.

بعد “النكبة”، كانت غزة تحت الإدارة المصرية، وعام 1967 سقطت بيد الاحتلال الإسرائيلي، فلم تسمح قوات الاحتلال له ولا لمئات الآلاف من الفلسطينيين بالعودة، ولا حتى لغزة، فحمل لقب “نازح”، وأكمل حياته في الشتات.

بعد عام (1990)، انتقل إلى اليمن، وكان قد تزوج وأنجب 7 أبناء وبنات، 3 طبيبات و4 مهندسين. لم يدخل إلى غزة إلا بعد اتفاق أوسلو، ويرفض أن يسميها عودة، “أنا في انتظار العودة الحقيقية لبيتنا في أسدود كما عاد غيري في بلدان أخرى.”

ولم يخف شلبي غيظه مما أسماه “الحَوَل” الذي يعتري الأسرة الدولية؛ فاللاجئين الأوكرانيين يتم استقبالهم بكل حفاوة في أوروبا وتيسرت لهم سبل الراحة والدعم العسكري والاقتصادي الدولي لحمايتهم والعمل على عودتهم، على عكس الفلسطينيين كما قال.

وعبر شلبي عن تعاطفه مع الشعب الأوكراني وتمنى أن يعودوا لبيوتهم بسلام، لكنه لم يكتم “غيظه”.

“لماذا لا يتعاملون معنا بنفس الطريقة، لماذا ألقي بنا في العراء دون مأوى، ولم نلق من يعمل على اعادتنا لبيوتنا منذ 74 عاما؟” قال شلبي.

“لا نريد حربا، أريد فقط أن أعود لبيتي كباقي البشر، لقد تعبنا من الترحال، وحمْل ألقاب مثل لاجئ ونازح وغيرها، لن أرضى إلا بلقب عائد.”

وفا- سامي أبو سالم

أخبار ذات علاقة

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

أهم الأخبار

اخترنا لكم

المكتب الإعلامي الفلسطيني في أوروبا