117 حلماً بالدفن

تتمنى رجاء حثناوي، أن يتسنى لها استصدار تصريح يخولها لزيارة جثمان نجلها الشهيد المحتجز لدى سلطات الاحتلال الإسرائيلي، منذ أكثر من عام.

وإذا ما تحقق لها ذلك، رغم إدراكها دُنوَّه من درجة الاستحالة، ستأخذ رجاء بطانية تلف بها ابنها، علّها تقيه ولو القليل من برد الثلج المتراكم على جسده منذ ارتقائه برصاص الاحتلال، على أرض قرية برقين جنوب غرب جنين، أواخر أيلول/ سبتمبر 2021.

يوسف صبح، هو أصغر شهيد محتجز في ثلاجات الاحتلال، كبر عاما وهو محاط بالثلوج، وأصبح الآن يبلغ 16 عاما، وكان الأخ الوحيد لأربع شقيقات.

تقول أمه: “منذ سنة وشهرين ونحن نخرج في وقفات للمطالبة بحق استعادة جثمان يوسف المحتجز، ولم نترك باب مسؤول أو مؤسسة إلا وطرقناه ننشد دعم مسعانا. وإذا ظن المحتل أن الملل سيتسلل لنا ويصيب مطلبنا فهو مخطئ”.

قطعت رجاء وعدا ليوسف بأنها ستنتزع جثمانه من الثلاجة وستحتضنه حتى يذوب الثلج عنه، وتزفه في برقين وأن تكرم جسده بدفنه تحت ترابها الذي تعطر بدمه.

“كان حلمي الوحيد أن أزف ابني عريساً، والآن أحلم فقط بأن أقوم بمواراته الثرى” تضيف رجاء حثناوي.

هذا الحلم تتشاطر فيها عائلات 117 شهيدا، تختطفهم سلطات الاحتلال في ثلاجاتها منذ 2015، آخرهم الشهيد محمد صوف، من بلدة حارس شمال غرب سلفيت، الذي ارتقى برصاص قوات الاحتلال قرب مستوطنة “أرائيل” المقامة على أراضي المحافظة.

كفاح شديد، والدة الشهيد الفتى هيثم مبارك (17 عاما) من قرية أبو فلاح، شمال شرق رام الله، وقفت أمام الصحفيين مساء الخميس الماضي في مجمع فلسطين الطبي برام الله تتحدث عن اختلاط مشاعرها، بعد تلقيها نبأ قرار سلطات الاحتلال الإفراج عن جثمان نجلها بعد احتجازه لأكثر من شهرين.

وأضافت: “اختلطت المشاعر لدي، بين السعادة والحزن، السعادة باستعادة الجثمان والحزن على الفقد. ولكن بنفس الوقت انتابني شعور بالراحة لأن ابني اصبح عندي ودفن في تراب وطنه، وأصبح لديه قبر يمكن لي ولأصدقائه زيارته وقراءة الفاتحة على روحه والدعاء له”.

لم تكن تتوقع كفاح، أن يتم الإفراج عن جمثان هيثم، بعد يومين فقط من مشاركتها في الوقفة الاحتجاجية التي نظمت الأربعاء الماضي برام الله، للعشرات من ذوي الشهداء المختطفة جثامينهم لدى سلطات الاحتلال للمطالبة بتسليمهم.

ومن ضمن المحتجزة جثامينهم، 9 شهداء أسرى ارتقوا داخل سجون الاحتلال الإسرائيلي، و13 طفلاً وشهيدتان.

والكثير من هذه العائلات تتقاسم كذلك وجع المصير المجهول لأبنائها، إذ لم تردها سوى معلومة تنقل لهم من خلال الارتباط حول ارتقائهم برصاص الاحتلال، ولم يتسن لهم التأكد من تلك الحقيقة، لا صورة ولا فيديو يوثق ذلك، ولا استدعاء لإلقاء نظرة تحدد بها الهوية.

وحسب الحملة الوطنية لاسترداد جثامين الشهداء والكشف عن مصير المفقودين، فإن هيئة الشؤون المدنية تنقل معلومة لوزارة الصحة بوجود شهيد، بعد تلقي بلاغ بذلك من جيش أو شرطة الاحتلال.

إلا أنه ومنذ عام 2018، أصبحت هذه المعلومة في غالب الحالات تصل غير مرفقة بدليل ملموس حول هوية الشهيد.

وأكدت الحملة، أن الاحتلال أوقف في كانون الأول/ ديسمبر 2015؛ العمل بآلية كان يستدعي بموجبها ضابط مخابرات الاحتلال أحد أقرباء الشهيد لمعاينة الجثمان.

وكانت عائلة الشهيد عساف أبو حبسة، من مخيم قلنديا شمال القدس، آخر من تمكن من معاينة جثمان شهيد، وكان ذلك في كانون الأول/ ديسمبر 2015.

ثم عمد الاحتلال لإرسال صورة الشهيد المحتجز لتؤكد عائلته هويته، قبل أن يتوقف أيضا عن العمل بهذه الآلية كليا في 2018، إلا في حالات معدودة استدعى فيها الاحتلال ذوي شهيد للتعرف عليه من خلال صور تلتقط بعد ارتقائه.

وفي تشرين الأول/ أكتوبر 2015، استأنفت سلطات الاحتلال سياسة احتجاز جثامين الشهداء في الثلاجات، ضمن قرار صدر عن المجلس الوزاري الإسرائيلي المصغر الـ”كابنيت”، لقمع الهبة الشعبية التي اندلعت آنذاك.

كما تواصل سلطات الاحتلال احتجاز جثامين 256 شهيدا فيما تسمى “مقابر الأرقام”، معظمهم استشهدوا قبل عام 2015، فيما وصل عدد المفقودين 68، حسب بيانات صادرة عن الحملة الوطنية لاسترداد جثامين الشهداء والكشف عن مصير المفقودين.

أزهار أبو سرور، والدة الشهيد المختطف جثمانه عبد الحميد أبو سرور، وإحدى مؤسسات حملة “بدنا ولادنا”، قالت إن الجهود الواسعة التي تبذل على كافة الصعد في ملف استعادة الجثامين، تصطدم بـ”لا” كبيرة تعكس تعنت حكومة الاحتلال في هذا الملف.

وتشير إلى أن حكومة الاحتلال تعمل على احتجاز كافة الجثامين دون الاستناد إلى معايير وُضعت إسرائيليا تتعلق بالانتماء السياسي وطبيعة العملية التي قام الشهداء بتنفيذها، دون وجود تشريع أو قانون يجيز احتجاز الجثامين.

وأضافت: “المحكمة العليا تبنت موقفا أجاز احتجاز الجثامين بشكل مؤقت لغايات تسليمها في (صفقات تبادل) مقبلة، وإذا سلمنا جدلاً بذلك وحاولنا الاقتناع بأنه لا يوجد حل إلا بمسار سياسي أو بصفقة؛ فإن ذلك لا يعفي المؤسسات المختصة والحقوقية من السعي وراء ما يمكن القيام به”.

وتؤمن أبو سرور بأن هناك مطالب يمكن أن تستجيب لها سلطات الاحتلال إذا ما تضافرت الجهود لتحقيقها مع استمرار اختطاف الشهداء، كالسماح للعائلات بزيارة جثامين أبنائهم، وأن يعلموا أين تحتجز وفي أي ظروف، وأن يكون هناك اثبات حول طبيعة وكيفية الاستشهاد مدعومة بملف طبي كامل.

عبد الحميد أبو سرور، الذي يعد الآن أقدم شهيد محتجز لدى الاحتلال منذ استئناف العمل بسياسية احتجاز الجثامين؛ ارتقى في 18 نيسان/ أبريل 2016 جنوب القدس المحتلة، وقام الاحتلال باختطاف جثمانه وأودعه ثلاجاته لمدة عام، ثم ادعى أنه نقله إلى ما تسمى بمقابر الأرقام.

وتقدمت والدته، مؤخرا بطلب هو الثاني من نوعه لزيارة قبره، إلا أنها وإلى الآن لم تتلق ردا على ذلك.

أما الطلب الأول، فصدر فيه رد مضمونه أن السماح بالزيارة من شأنه أن يضعف ما أسمتها سلطات الاحتلال بـ”عقوبة الردع” والمتمثلة باحتجاز الجثمان.

وقالت أزهار أبو سرور في هذا السياق، “من حقنا أن نعيش في اليقين بأن أبناءنا موجودون في الثلاجات أو في مقابر الأرقام، ولنا كامل الحق في التأكد من أن هذا القبر يخص ابني، ويجب أن تكون هناك معاينة وهذه أبسط الحقوق. بواقعية نحن لا نتأمل أن يرد الاحتلال بالإيجاب إذا لم يترافق ذلك مع ضغط على كل المستويات يجبر الاحتلال على وقف هذه الجريمة بشكل كامل”.

كما تقدمت أبو سرور قبل أسبوعين، بطلب لنيابة الاحتلال لإعادة النظر في قرار المحكمة “العليا” حول احتجاز الجثامين، وأخذ تفسير حول معنى “الاحتجاز المؤقت” وما الذي تعنيه بذلك، واستندت إلى نصوص قانونية دولية لتحديد الفترة الزمنية المؤقتة الواردة في قرار العليا.

وفي 9 أيلول/ سبتمبر 2019، أقرت المحكمة “العليا” الإسرائيلية، بجواز استمرار احتجاز قوات الجيش لجثامين فلسطينيين قاموا بتنفيذ عمليات منذ 2015، وذلك لاستخدامها في عمليات تبادل لاحقة.

ووافقت المحكمة بأغلبية 4 قضاة من أصل 7، على التماس قدمه جيش وشرطة ونيابة الاحتلال بالسماح لهم بالاحتفاظ بجثامين الفلسطينيين الذين استشهدوا برصاص جنود لدى تنفيذهم عمليات “لاستخدامها في مفاوضات مستقبلية مع التنظميات الفلسطينية وفقا لـ”لوائح طوارئ أقرت عام 1945”.

وتقدم جيش وشرطة ونيابة الاحتلال، بطلب عقد جلسة إضافية للمحكمة العليا، بعد قرار أصدرته في 14 كانون الأول/ ديسمبر 2017، وقضى بأن “سياسة احتجاز الجثامين غير شرعية بموجب القانون المرعي”.

وقبل ذلك، قبلت المحكمة الإسرائيلية “العليا”، التماسا تقدمت به هيئة شؤون الأسرى والمحررين ومركز القدس للمساعدة القانونية وحقوق الإنسان، نيابة عن 6 عائلات تحتجز سلطات الاحتلال جثامين أبنائها.

وارتأت المحكمة أن قرار المجلس الوزاري المصغر في تل أبيب باحتجاز جثامين الشهداء كورقة تفاوض هو أمر غير قانوني، معلنة للمرة الأولى بأن اللائحة 133 (3) للوائح الطوارئ من عام 1945، والتي تستند إليها الحكومة كأساس قانوني لاحتجاز جثامين الشهداء، لا تخول القائد العسكري بشكل صريح وواضح بالقيام بذلك.

وعوضا عن إصدار حكم بالإفراج الفوري عن الجثامين المحتجزة، تبنت المحكمة قراراً يمنح الاحتلال 6 أشهر لسن قانون يسمح بشكل مباشر وواضح وصريح باحتجاز الجثامين.

وشكل ذلك ضوءا أخضر للحكومة الإسرائيلية ومحاولة من المحكمة لتبييض سياسات الحكومة وتوفير مخرج “قانوني” لها للاستمرار في انتهاك حقوق أساسية للإنسان.

وقرر مجلس الوزراء الفلسطيني في جلسته رقم 41 المنعقدة بتاريخ 3 شباط/ فبراير 2020، تشكيل فريق وطني للعمل على استعادة جثامين الشهداء المجتجزين لدى الاحتلال، والمتابعة مع المؤسسات والمنظمات المحلية والإقليمية والدولية، وفضح انتهاكاته وممارساته في هذا الإطار والعمل على تدويل هذه القضية من خلال سفارات فلسطين ومكاتبهات التمثيلية والجاليات في الخارج.

وفي 23 أيار/ مايو 2022، سلم وكيل وزارة الإعلام يوسف المحمود، وزير العدل محمد شلالدة، ملفا إعلاميا يلقي الضوء على الشبهات في سرقة الاحتلال لأعضاء جثامين الأسرى الشهداء، ويوثق لها ولمعاناة ذوي الشهداء ضمن الحملة الإعلامية القانونية التي تهدف لإثارة هذه القضية ودعم جهود استرداد جثامينهم.

وخلال جلسة لمجلس الوزراء في 4 من يوليو/ تموز 2022، تحدث رئيس الحكومة محمد اشتية، عن معلومات مؤكدة تثبت أن بعض كليات الطب في الجامعات الإسرائيلية تقوم بسرقة جثامين الشهداء الفلسطينيين، دون معرفة ماذا يدور في كواليس هذه الجريمة.

وقال: “تزيد سلطات الاحتلال من آلام المفجوعين على فقد أبنائهم باحتجاز جثامينهم، حيث تبين لنا أنه يتم استخدام تلك الجثامين في مختبرات كليات الطب بالجامعات الإسرائيلية، في انتهاك صارخ لحقوق الإنسان وللقيم والمبادئ والأخلاق العلمية”.

وطالب الجامعات العالمية بمقاطعة الجامعات المتورطة في احتجاز الجثامين، والضغط على سلطات الاحتلال للتوقف عن انتهاكها لجثامين الشهداء، وأن تقوم بالإفراج الفوري عن جميع جثامينهم المحتجزة لديها، كي يتمكن ذووهم من وداعهم، بما يليق بهم ويحترم مشاعرهم.

ويمثل احتجاز جثامين الشهداء إما في مقابر جماعية أو في ثلاجات الموتى، إجراء يخالف اتفاقية لاهاي لعام 1907 واتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949، والبروتوكول الأول لعام 1977.

وأكدت لجنة الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب، ان ممارسة احتجاز الجثامين ترقى إلى مستوى سوء المعاملة المحظورة، ودعت إلى تحقيق العدالة والمساءلة لوضع حد لإفلات إسرائيل من العقاب.

وفا – رامي سمارة

أخبار ذات علاقة

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

أهم الأخبار

اخترنا لكم

المكتب الإعلامي الفلسطيني في أوروبا