المكتب الإعلامي الفلسطيني في أوروبا

البيّنات المعياريّة لفاشيّة إسرائيل

جنود إسرائيليون يواجهون بالرصاص شبّانا فلسطينيين في أريحا (1/3/2023/فرانس برس)

كتب: جورج كعدي*

“دولة” القتل والحرق والمجازر فاشيّة منذ نشأتها، وليس بدءاً من تاريخ تشكيل حكومتها الحاليّة، على ما “اكتشف” بعض إعلامنا العربيّ الفذّ في الآونة الأخيرة! هي فاشيّة منذ ما قبل إعلانها وتكريسها كياناً استعماريّاً تهجيريّاً احتلاليّاً وإحلاليّاً عنصريّاً عام 1948 (كم أكره تعبير “النكبة” بدلاً من المأساة أو الكارثة أو الفظاعة الهائلة، والألعن تعبير “النكسة” عام 1967، عوض وصفها بخسارة فلسطين وضياعها!). هذا الكيان الوحشيّ فاشيّ منذ جزّاريه الأوائل الذين نالوا الحماية والمباركة لمشروعهم المجرم، البلا شبيه تاريخياً، من الغرب والشرق معاً (بدءاً بالمستعمر البريطاني ووعده المشؤوم، إلى الاحتضان الأميركي التامّ، مروراً بالروسيّ السوفييتيّ من ستالين الذي برّر دعمه عهدذاك بـ”كسب دولة اشتراكيّة” إضافية، ويا للوهم المتهافت!). هذه “الإسرائيل” فاشيّة منذ مجازر “الهاغاناه” ومذابحها، فالمنظمة الصهيونية هذه يعود تاريخ تأسيسها إلى عام 1921 في القدس برعاية المنتدب البريطاني، وكانت تكتّلاً عسكرياً سابقاً على إعلان الدولة الصهيونية، وكان هدفها حماية المستوطنات التي قامت، ويا للأسف المرير، بغفلة من الفلسطينيين والعرب أجمعين، خارج نطاق الانتداب البريطاني. بل كانت هناك، قبل “الهاغاناه” منظمة “هاموشير” التي أنشئت عام 1909، وكانت معنيّة بحفظ الأمن في التجمّعات اليهوديّة في فلسطين، وتتقاضى أجراً سنوياً لقاء “خدمتها” الأمنية لتلك التجمّعات. وفي عام 1936، أصبح عدد المنضوين تحت لواء “الهاغاناه” (الدفاع بالعبريّة) عشرة آلاف مقاتل وأربعين ألفاً في الاحتياط، وتعاون جيش الانتداب البريطاني معها على نحو واسع ودرّبها وسلّحها، قبل أن ينشقّ اليمين المتطرّف عن هذه المنظمة الإرهابيّة الفاشية عام 1937 ويؤسّس منظمة “أرغون” بذريعة التصدّي للقيود البريطانية المفروضة على “الهاغاناه” وازدياد الضغط العربي الفلسطيني. وعقب انتهاء الحرب العالمية الثانية، شنّت “الهاغاناه” حملة معادية للقوات البريطانية في فلسطين (إنّه دوماً منطق الوحش الذي ينقلب ضدّ خالقه)، فحرّرت “المهاجرين” اليهود الذين كانت تحتجزهم القوات البريطانية في معسكر عتليت، ونسفت السكك الحديد بالمتفجّرات، ونظّمت هجمات تخريبيّة استهدفت مواقع الرادار ومراكز الشرطة البريطانية على أرض فلسطين، واستمرّت في تنظيم الهجرات السرّية إلى فلسطين.

أليست هذه بداية للمشروع الفاشيّ، المنقلب حتّى على حُماته وأسياده، وهذا من دون أن نعيد التذكير بالمجازر الرهيبة التي ارتكبتها تلك المنظمة وسابقاتها ولاحقاتها، من مذبحة بلدة الشيخ (1947) إلى مذبحة دير ياسين (1948) إلى مذبحة قرية أبو شوشة (1948) إلى مذبحة قبية (1953) إلى مذبحة قلقيلية (1956) إلى مذبحة كفرقاسم (1956) فمذبحة خان يونس (1956)، وصولاً إلى مذبحة المسجد الأقصى عام 1990، والحرم الإبراهيمي عام 1994، ومخيّم جنين عام 2002، وعدّاد المذابح يسجّل مثلها، وربما أفظع منها، حتى هذه الساعة، عدا المجازر الكبرى خارج الأرض المحتلّة وأبرزها وأشهرها مجزرة قانا في لبنان عام 2006، وقد نال لبنان نصيبه الرهيب من الاحتلالات والاجتياحات والاغتيالات والمجازر القاتلة والتدميرية بسلاح الطيران (سلاح الجُبن من ارتفاع شاهق!).

لندخل من هنا إلى معاينة فاشيّة إسرائيل، لا من منطلقات معياريّة ذاتيّة قد تبدو انفعاليّة وغير علميّة أو موضوعيّة، بل استناداً إلى تعريفات متعدّدة لباحثين عالميين كبار، أمثال Martin Blinkhorm و Roger Eatwell و Roger Griffin و Stanley Payne وآخرين، ولنرَ ما إذا كانت تعريفات هؤلاء المفكّرين والباحثين وتحديداتهم للفاشيّة تنطبق على هذه “الإسرائيل” المخترعة أم لا؟

تسعى الدولة الفاشية إلى مجتمع مُسْتَنْفَر لا يكفّ الشعب فيه عن إظهار ولائه للفكرة والمعتقد

من أولى علامات الفاشيّة وأسسها، أنّها تنهض على التعصّب القوميّ (وهذا ينطبق مائة بالمائة على الكيان اليهوديّ الصهيونيّ الذي يتباهى بتعصّبه القوميّ والدينيّ ويجاهر بذلك، أليس الأمر كذلك؟). إلى النهج التوسّعي الذي يسم كلّ مشروع قوميّ فاشيّ (إسرائيل المخترعة هي “دولة” بلا حدود)، فالعنصريّة، وهي دين اليهود الصهاينة وديدنهم، ولعلّها تتفوّق في هذا الجانب على سائر العنصريّات القوميّة والعرقيّة، وفي مقدّمتها تلك الآريّة النازية، لأنّ العنصريّة الصهيونية تقوم على عنصريّتي القوميّة والدين معاً، لا على العرق وحده. وترتبط الفاشيّة ارتباطاً وثيقاً بالرأسمالية (في التعريف الماركسيّ الذي تؤكده الفاشيّة الإسرائيلية لكونها على أشدّ ارتباط بالرأسمال وبالليبراليّة المتوحّشة التي تشيعها الولايات المتحدة، حامية إسرائيل الأساسية اليوم مع النظم الأوروبية الرأسمالية، ولا تخجل البتّة بهذا الارتباط بالعالم الرأسماليّ الممتدّ جذوراً إلى جوهر العقيدة اليهودية المادية منذ ألوف السنين)، بل هي تخدم المصالح الرأسمالية كقاعدة متقدّمة للغرب الرأسماليّ (المتخفّي بخبث مرعب خلف قناع “الديمقراطية الغربية”، وكم زعمت إسرائيل وتزعم أنّها “دولة ديمقراطية رائدة ووحيدة” في شرقنا العربيّ الحزين!)، حتى إنّ الماركسية ترى أنّ الرأسمالية هي السبب في ظهور الفاشية، ويرى علماء معاصرون عديدون أن القوميّة المتطرّفة (إسرائيل نموذج ساطع في هذا المجال) هي جوهر الأيديولوجيا الفاشيّة. ويعتبر روجر غريفن أنّ الفاشيّة من أشكال “التعصّب القوميّ الشعبويّ” (الشعبويّة الدينية واضحة في الكيان الصهيونيّ)، وأنّها “بعثٌ من تحت الرماد” (ماذا يفعل الصهاينة غير بعث أساطيرهم الخرافيّة كشعب مختار، متفوّق على سائر الأغيار أو “الغوييم” ديناً وعرقاً ونَسَباً وجينات موروثة؟!). ثمّة قواسم عديدة مشتركة تجمع الفاشيّة والأصوليّة الدينية.

تسعى الدولة الفاشية إلى مجتمع مُسْتَنْفَر لا يكفّ الشعب فيه عن إظهار ولائه للفكرة والمعتقد، وتلك حال إسرائيل التي فيها دولة لجيش، لا جيش لدولة، أي إنّها في حالة استنفار دائم، متوثّب للقتل بحجّة الدفاع عن “وطنه” (كأنّ هذا الوطن ملك أبيه!)، عدوانيّ إلى أقصى الحدود، متوحّش، يرتكب المجازر بلا أدنى شعور بالذنب أو بمخالفة المبادئ الإنسانية (ألا يؤمن بأنّ “يهوه” في معتقده الخرافيّ البالي كأنه يخاطبه “اقتل، اقتل، فربّك يرعاك”!). يقتل الصهيونيّ الفاشيّ مطمئنّاً إلى أنّ “إلهه” الخاص يسامحه، بل يفوّض إليه قتل سائر الأغيار، لأنّه هو “شعبه المختار” ومنحه وعداً بأن يرث الأرض كلها وما عليها. معتقد دينيّ جنونيّ من صنع مخيّلات بشرية محض، يفضي حتماً إلى مشروع قوميّ فاشيّ، مطابق لما رأيناه تاريخيّاً وما فتئنا نراه ونكابده حتى الساعة.

إسرائيل لا تعارض جماعاتٍ غير يهودية خلقها الرب فقط، بل تسلبها الأرض وتهجّرها لتقيم المستوطنات عنوةً، وبقوّة الإجرام المتغوّل

لكون الفاشيّة أيديولوجيا قوميّة عرقيّة ودينيّة متعصّبة، فهي بالتالي عنصريّة بلا خجل، فالفاشيّون لا يتعاملون مع جميع سكان دولةٍ ما أنّهم مواطنون أو بشر أصحاب حقوق متساوية (ألا ينطبق هذا حرفيّاً على كيان الصهاينة المحتلّين؟!)، فالمواطنة وما تستتبع من حقوق، تُمنح أو تُمنع على أساس مطابقة الفرد سماتٍ بعينها، ثقافية كانت أو دينية أو سياسيّة. وتغلب القوميّة والعنصريّة على كلّ جوانب الممارسة الفاشيّة، من توفير الرعاية الاجتماعية إلى الحقوق المدنيّة والسياسيّة. أما الذين يُعتبرون خارج الانتماء الدينيّ أو القوميّ، فيواجهون مستقبلاً أسود ذروته الإبادة. إنّه ما تقوم به هذه “الإسرائيل” الفاشيّة العنصرية المتعصّبة بحذافيره، ولا تجد غضاضة في وصف نفسها بالعنصرية، إذ انحطّ هذا الوصف إلى حدّ أنّ من يدّعيه يفاخر به. تماماً مثلما فعل نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا.

منذ مطالع القرن العشرين، نظر المثقفون الأوروبيون إلى مفهوم “العِرق” من ناحيتي التاريخ والثقافة. فالفرد ينتمي إلى أمّةٍ ما إذا كان يسكن أراضيها التاريخية، أو يتحدّث لغتها القومية، أو يؤدّي شعائر دينها. وبالتالي، لا يمكن أن يكون المرء مواطناً يتمتع بحقوق متساوية، ما لم تنطبق عليه خصائص الأغلبية دينياً وثقافياً. ولا ترتدع إسرائيل الكاذبة أيضاً، فوق صفات الوحشيّة والقتل والتمييز العنصريّ المقيت، عن ترويج صورة مضلّلة، زائفة، دنيئة ووقحة عن ذاتها على أنّها “دولة ديمقراطية”، تحتضن اليهود وغير اليهود، وأنّها دولةٌ غير عنصريّة، مثلما فعل الحزب القومي البريطاني ذات يوم، حين ادّعى أنّه ليس عنصريّاً، معلّلاً ذلك بالديباجة الآتية: “العنصرية أن تكره جماعة عرقية أخرى، ونحن لا نكره السود، ولا نكره الآسيويين، ولا نعارض أي جماعةٍ عرقيةٍ بسبب ما خلقها الرب عليه، فهم من حقهم أن تكون لهم هويّتهم الخاصة بقدر ما لنا نحن الحقّ في ذلك. كل ما نريد أن نفعله، أن نحافظ على الهوية العرقية والثقافية للشعب البريطاني. إننا ننشد الحقوق الإنسانية ذاتها، شأننا شأن سائر الآخرين …”! وهذا تماماً ما تفعله إسرائيل المختَرَعة و”البريئة”، فهي لا تكره جماعة عرقية أخرى (وإن كنّا لا نعتبر بالتأكيد أنّ الشعب الفلسطيني عرق، بل هو شعبٌ عريقٌ من الشعوب الكنعانيّة الراسخة في الجغرافيا والتاريخ، وهو صاحب الأرض الفعليّ تاريخيّاً، وللتاريخ شواهد لا تُحصى، بل غير قابلة للبحث والمناقشة والمراجعة).

إسرائيل الفاشيّة العنصريّة هذه ليست قاتلة فحسب، بل فاجرة، وقحة، كريهة، ولا تفيها أقبح الصفات ما تستحقّ

إذن، إسرائيل الفاشية هذه لا تكره الآخر … بل تقتله. وهي لا تعارض جماعاتٍ غير يهودية خلقها الرب، بل تسلبها الأرض وتهجّرها لتقيم المستوطنات عنوةً، وبقوّة الإجرام المتغوّل، فوق أرضٍ تدّعي معتقداتها الدينية الملفقة أنّها ملكٌ تاريخيّ لها، فيما يؤكّد التاريخ الموضوعيّ الذي دوّنه كبار المؤرّخين، أمثال توينبي وآخرين، أنّ اليهود مرّوا قبل ألوف السنين مرور القبائل، بل القبائل المتناحرة التي يقاتل بعضها بعضاً آخر بلا هوادة، ولم تكن لهم يوماً دولة يهوديّة خاصة على أرض فلسطين. فكيف تُمسي القدس قدسهم والضفة ضفتهم (“يهودا والسامرة” يخترعون بوقاحة ما بعدها وقاحة وفجور ما بعده فجور) والجليل وسائر المدن الفلسطينية والبلدات العريقة وذات التاريخ السحيق في القدم، مثل عكا وحيفا ويافا وأريحا ونابلس، والقدس في مقدمتها، والناصرة وبيت لحم والجليل … مثالاً لا حصراً. فأتى المشروع الصهيونيّ الفاشيّ المجرم ليدّعي ملكاً ضائعاً وأرضاً “موعودة” (النكتة الأكثر سماجة، خصوصاً أنّها من النوع “الإلهي” المخترع) لـ”شعب بلا أرض في أرضٍ بلا شعب” (نكتة أكثر فأكثر سماجة وغلاظة ونفاقاً طالما أنّ الشواهد العمرانية والثقافية والاقتصادية والزراعية تثبت عبر التاريخين، القديم والحديث، وعينيّاً، عكس ذلك).

إسرائيل الفاشيّة العنصريّة هذه ليست قاتلة فحسب، بل فاجرة، وقحة، كريهة، ولا تفيها أقبح الصفات ما تستحقّ. إسرائيل هذه التي عانى بعضٌ من ذريّتها الدينيّة من الوحشيّة النازيّة، ها أبناءٌ وأحفادٌ من أبناء معتقدها يتحوّلون من ضحيّةٍ إلى جلّاد أوحش من جلّادها، وعندما تتحوّل الضحيّة إلى جلّاد وقاتل يوميّ، تتماهى مع هذا الجلّاد وتتفوّق عليه عنصريّةً وفاشيّةً، فلا نعود نرى أدنى فرقٍ بين عتاة النازيّة وعتاة الدولة الإسرائيليّة الذين يذبحون الشعب الفلسطيني يوميّاً، وعلى مرأى من “العالم المتحضّر” الساقط إنسانيّاً وأخلاقيّاً.

* كاتب وناقد فني وصحفي وأستاذ جامعي لبناني

Exit mobile version