الرئيسيةمختاراتتقارير وتحقيقاتأبراهام سرفاتي في حوار يُنشر بعد 30 عاماً: كيهودي لا أقبل بالظلم...

أبراهام سرفاتي في حوار يُنشر بعد 30 عاماً: كيهودي لا أقبل بالظلم الواقع على الفلسطينيين

المصدر: مجلة الدراسات الفلسطينية العدد 134 – ربيع 2023

أجرى المقابلة: حسّان البلعاوي

خلال زيارة لأُسرتي في عمّان في صيف سنة 2019، عمدت إلى التنقيب فيما تبقّى من أرشيفي الشخصي الذي تبعثر هنا وهناك في أكثر من بلد، ومنها الأردن، وعثرت على بضع أوراق وصور قديمة شرعت أقرأها، فعادت الذاكرة بي إلى الوراء 28 عاماً بالتمام والكمال، كأن الحدث جرى بالأمس.

الزمان هو منتصف أيلول / سبتمبر 1991، وهي سنة محورية في تاريخ العالم ومنطقتنا العربية، فقد شهدت انتهاء الحرب الباردة واستفراد الولايات المتحدة بقيادة العالم بعد انهيار الاتحاد السوفياتي؛ وفي هذه السنة أيضاً هُزم العراق عسكرياً أمام الولايات المتحدة التي قادت تحالفاً من 30 دولة، وما تبع ذلك من أحداث قادت لاحقاً إلى مؤتمر مدريد لعملية السلام العربية – الإسرائيلية المزعومة.

المكان هو ضاحية لاكورنيف في باريس، والتي تشهد كل عام مهرجان “عيد الإنسانية” (L’Humanité)، نسبة إلى اسم جريدة الحزب الشيوعي الفرنسي، والتي كانت قد توقفت حديثاً عن الصدور كنسخة ورقية جرّاء الأزمة المالية الخانقة التي تعانيها، وذلك على غرار العديد من الصحف المعروفة في عدة أماكن من العالم. وهذا العيد كان وما زال، وعلى مدار 3 أيام تقريباً، موعداً سنوياً مهماً لجميع الأحزاب الشيوعية في العالم ولحركات التحرر الوطني، وفي الطليعة بطبيعة الحال منظمة التحرير الفلسطينية التي كانت قد احتلت جناحاً ضخماً تحت اسم “فلسطين الثورة”، المجلة المركزية لمنظمة التحرير الفلسطينية، والتي توقفت عن الصدور في سنة 1994.

الحدث هو أن مهرجان “الإنسانية” يستقبل، بشيء من الاحتفال، شخصية سياسية مغربية معارضة شغلت وسائل الإعلام وأوساطاً سياسية ومنظمات حقوق الإنسان والمجتمع المغربي؛ إنه المعارض السياسي الشهير أبراهام سرفاتي الذي كان معتقلاً سياسياً منذ سنة 1975، وكانت السلطات المغربية قد أفرجت عنه عقب أحداث داخلية عرفها المغرب، فغادر وطنه ووصل إلى فرنسا مع زوجته الفرنسية.

أبراهام سرفاتي، للتذكير، هو مهندس وسياسي مغربي، يهودي الديانة، معادٍ بشدة للحركة الصهيونية، وقد انتمى في أواخر ستينيات القرن الماضي، إلى أحد التنظيمات اليسارية التي كانت محظورة في المغرب، الأمر الذي تسبب باعتقاله في سنة 1975 والحكم عليه بالسجن المؤبد، قبل الإفراج عنه في سنة 1991 وإبعاده إلى فرنسا. وكان معروفاً عنه علاقته الوطيدة بالثورة الفلسطينية، ودعمه الكامل لقيام دولة فلسطينية.

من باب المصادفة، كنت حاضراً في ذلك المشهد بتفصيلاته كلها كمندوب لمجلة “فلسطين الثورة”، إذ كنت قد بدأت قبل أشهر العمل في جهاز “الإعلام الموحد” لمنظمة التحرير الفلسطينية، والذي كان مقره في تلك الفترة في تونس، على غرار قيادة منظمة التحرير الفلسطينية ومؤسساتها المتنوعة. وخطر في بالي فوراً، كمحرر يبدأ تجربته العملية بعد الانتهاء من دراسته الجامعية، إجراء حوار صحافي مع هذه الشخصية المغربية اليهودية اللامعة، والمؤيدة بالعمق لفلسطين موقفاً وكتابة، لاستجلاء وعيه بالقضية الفلسطينية، وعلاقته بالثورة الفلسطينية، في مراحل متنوعة، من دون التطرق من قريب أو بعيد إلى الوضع الداخلي في المغرب، وخصوصاً أن الحديث الذي أرغب في إجرائه هو لوسيلة إعلام رسمية، أي المجلة المركزية لمنظمة التحرير الفلسطينية، الملتزمة حكماً بالخط الرسمي للمنظمة التي تعلن جهاراً عدم التدخل من قريب أو بعيد بالشؤون الداخلية للدول العربية. وفعلاً تقدمت نحو المناضل أبراهام سرفاتي وعرّفته بنفسي وبالمجلة التي أمثلها، فوافق فوراً على إجراء المقابلة، وكان سعيداً بذلك ومتأثراً، ومن دون أدنى عناء، فهم أن حديثي معه سيبقى منحصراً في الشأن الفلسطيني.

أُجريت المقابلة باللغة الفرنسية، وما زلت أذكر جزءاً مهماً من تفصيلاتها، ولا سيما عندما كان ضيفي أحياناً يتحدث والدموع تغطي عينيه، وذلك بعدما قرر المجلس الوطني الفلسطيني المجتمع في سنة 1976، منحه الهوية النضالية الفلسطينية، وعندما كتب هاني الحسن، عضو المجلس الثوري لحركة “فتح” آنذاك والمستشار للرئيس ياسر عرفات، مقدمة لكتاب عن سرفاتي.

في المقابلة التي أجريتها معه، عاد المناضل التقدمي المغربي، المولود في سنة 1926، إلى وعيه المتقدم بطبيعة القضية الفلسطينية منذ نكبة 1948، وخصوصاً هوية الحركة الصهيونية التي رأى فيها، منذ البداية وهو اليهودي، خطراً ليس فقط على الشعب الفلسطيني والشعوب العربية، بل على يهود العالم كافة أيضاً.

خلال الحديث مع سرفاتي، وهو المناضل اليساري الراديكالي، عاد إلى علاقته الأولى بالمقاومة الفلسطينية عامة، وحركة “فتح” خاصة، وذلك عندما زار قواعدها في الأردن في سنة 1968، وكيف استمرت علاقته بها. وفي الحديث أيضاً قدّم تحليله لبداية العملية السلمية، وهو أمر أرى فائدة كبيرة الآن في إعادة قراءته بعد مرور 31 عاماً.

عدت إلى تونس حاملاً معي المقابلة وفي اعتقادي أنني حصلت على صيد ثمين، وقمت بتفريغ ما سجلته على آلة التسجيل على الورق، ثم سلّمته إلى الزميلات في قسم الطباعة في مقر “الإعلام الموحد”، قبل إرسالها بالفاكس إلى هيئة تحرير مجلة “فلسطين الثورة” في قبرص. بعد قليل جرى استدعائي بشكل عاجل إلى مكتب “الإعلام الموحد” الذي كان يضم في حينه جميع وسائل إعلام منظمة التحرير الفلسطينية: وكالة الأنباء؛ الإذاعة؛ مؤسسة السينما؛ الصحيفة المركزية؛ الإعلام الخارجي؛ وكان يرأس الجهاز الأخ أحمد عبد الرحمن الذي كان أيضاً يشغل منصب الناطق الرسمي لمنظمة التحرير الفلسطينية. فوجئت بغضب الأخ أحمد، إذ كيف لي أن أُجري مقابلة مع شخصية معارضة لسلطة في دولة عربية، وهي مقابلة إن تم نشرها فقد تتسبب بأزمة دبلوماسية بين المملكة المغربية ومنظمة التحرير الفلسطينية؟ وذلك بحسب ما قاله عبد الرحمن الذي أمر فوراً بوقفها، منبهاً إياي بحدة بأني أعمل في جهاز إعلامي رسمي له ضوابطه وخطوطه الحمر الممنوع تجاوزها، وبأنني لم أعد ناشطاً في الحركة الطلابية الفلسطينية في فرنسا حيث كنت أتمتع بهامش من المبادرة والحركة. امتثلت للأمر وذهبت إلى البيت حاملاً مقابلتي مصحوبة بمشاعر الخيبة والحزن، وهناك وضعت أوراق الحوار مع سرفاتي مع أوراق ومنشورات أُخرى، في خزانة وأقفلت عليها.

مرت الأيام ونسيت الموضوع، إلى أن وقعت أحداث مهمة غيرت كثيراً من معالم تلك المرحلة، ودقت ساعة العودة إلى فلسطين، فتوجهت في تموز / يوليو 1994 من تونس إلى عمّان، حيث يوجد منزل للأسرة أيضاً، حاملاً حقيبة احتوت جميع الأوراق التي أفرغتها على عجل من خزانة مكتبي في بيتنا في تونس، فأفرغت الحقائب ووضعت الأوراق مجدداً في خزائن في عمّان، وبعد أشهر قليلة، وتحديداً في مطلع سنة 1995، انتقلت إلى غزة.

بقيت هذه الأرواق مع غيرها من وثائق ومجلات وصور حبيسة الخزائن في عمّان لأعوام، من دون أن يفتحها أحد، إلى أن شاءت المصادفة أن تكشف أسرارها المنسية لدى زيارتي للأردن في سنة 2019، حين قادني الفضول بعد منتصف ليل، وبعد أن نام الجميع ولم أجد ما يسليني في القنوات التلفزيونية، إلى أن أفتح إحدى هذه الخزائن وأُخرج بهدوء محتواها وأبدأ بقراءتها ورقة تلو الأُخرى. عثرت على أشياء كثيرة أعادتني ربع قرن إلى الوراء، وحمدت الله على الفوضى التي كنت أعيشها، والتي جعلتني أنسى هذه الاوراق ولا آخذها معي إلى غزة لأني لا أعرف ماذا كان سيكون مصيرها هناك، مثلما لا أعرف الآن، مصير العديد من الأوراق والكتب والصور والأشرطة التلفزيونية التي تركتها في غزة، والتي أتمنى أن تكون في الحفظ والصون.

بين تلك الأوراق المنسية، وجدت المقابلة السجينة، مع السجين المغربي الشهير أبراهام سرافاتي. طبعاً جرت مياه كثيرة منذ ذلك التاريخ حين أجريتُ المقابلة في أيلول / سبتمبر 1991، فأبراهام سرفاتي عاد إلى وطنه المغرب في أيلول / سبتمبر 1999 بعد أن سمح له بذلك الملك محمد السادس الذي اتخذ قراراً استراتيجياً بطيّ صفحة من تاريخ المغرب المعاصر.

سمح الملك الشاب الذي كان للتو قد تولى العرش خلفاً لوالده الراحل الملك الحسن الثاني، للمعارض المغربي، بالعيش في ظروف محترمة، وأعاد إليه جواز سفره المغربي، كما بادر إلى ردّ الاعتبار إليه بتعيينه مستشاراً لدى المكتب الوطني للأبحاث والتنقيب عن النفط. وعاش سرفاتي مع زوجته المحامية الفرنسية كريستين في مدينه المحمدية، ونشر عدة كتب منها “كتابات حول فلسطين من السجن” يطرح فيه رؤية سياسية إنسانية أخلاقية للقضية الفلسطينية، وهو كتاب قيّم جداً أتمنى أن يكون ما زال في مكتبتي في غزة.

فارق المناضل أبراهام سرفاتي الحياة في 18 تشرين الثاني / نوفمبر 2010، في إحدى مصحات مراكش عن عمر ناهز 84 عاماً بعد مسيرة حافلة، لها ما لها وعليها ما عليها، لكن بالنسبة إلى فلسطين كان هذا المناضل صوتاً شجاعاً دافع عنها في أحلك الظروف، وقدّم نموذج إنسان حر يناضل من أجل العدالة لفلسطين؛ فلترقد روحه بطمأنينة وسلام.

علم فلسطين مرفوعاً خلال مواراة المناضل سرفاتي الثرى في الدار البيضاء

أخيراً تواصل معي الدكتور ساري حنفي، وأوصلني بهيئة تحرير “مجلة الدراسات الفلسطينية”، بعد أن عرض على المجلة فكرة نشر المقابلة، ليُطلق سراح هذه المقابلة الحبيسة منذ 31 عاماً مع صورة أخذتها حينها بكاميرتي المتواضعة، لسرفاتي وهو يتصفح مجلة “فلسطين الثورة” التي كان مفترضاً أن تنشر المقابلة التي لم تفقد قيمتها على الرغم من السنوات التي مرت، سوى أن الراحل كان يجب أن يقرأها في “فلسطين الثورة” في حينه. وفيما يلي نص المقابلة، والذي سيكون في معظمه مثلما كُتب أول مرة، لكن مع تعديلات طفيفة يستوجبها النشر بعد 31 عاماً.

سرفاتي يقرأ أحد أعداد مجلة “فلسطين الثورة” الذي قدمته له خلال إجراء المقابلة

اتصال أول بالمقاومة

كان المناضل أبراهام سرفاتي سعيداً بإجراء لقاء مع مجلة “فلسطين الثورة”، وتحدث عن بدايات ارتباطه بفلسطين، فقال: “إن علاقتي بالقضية الفلسطينية هي علاقة في الدم، فالشعب الفلسطيني مضطهد حتى من قبل سنة 1948، والاعتداء عليه جرى ويجري باسم الديانة اليهودية، وهذا ما لا يمكنني أن أقبله بأي شكل من الأشكال. فوالدي كان مؤمناً بالدين اليهودي، وكان يؤمن بعمق الديانة اليهودية القائمة على احترام الإنسان واحترام حق الشعوب، وأنا كبرت وتربيت على احترام حق الإنسان والشعوب.”

وأضاف: “الشعب المغربي كان واقعاً تحت نير الاحتلال الفرنسي، كما أن سائر الشعوب تعاني جرّاء الاحتلال، بمَن فيها الشعب الفلسطيني الذي يعاني عدواناً من طرف الصهيونية العنصرية التي تتاجر بعذابات اليهود في أوروبا. وأنا كإنسان وكيهودي ومغربي لا يمكن أن أقبل بهذا الظلم.”

وأوضح قائلاً: “إطلالتي الأولى على المقاومة الفلسطينية كانت في حزيران / يونيو 1967، وقبلها كنت مناضلاً في الحركة الوطنية المغربية، وعلاقتي بفلسطين كانت من خلالها، ولم يكن لي علاقة مباشرة بالمقاومة الفلسطينية التي بدأت تبرز في سنة 1960، ثم أُعلنت في سنة 1965؛ إطلالتي تلك في سنة 1967 جاءت من خلال بيانات ‘فتح’ في فترة كانت الحركة الوطنية المغربية قد انزلقت في تصور عنصري للمشكلة الصهيونية، ولم تكن تفرق بين اليهودية والصهيونية. لقد كانت الحركة الوطنية الفلسطينية هي الأولى التي فرقت بين الصهيونية واليهودية، ومن وقتها سعيت للالتقاء بها، ولا أنسى أول مناضل فلسطيني التقيت به في الرباط وكان اسمه (أحمد)، ثم التقيت بمسؤولين من حركة (فتح) في الرباط أيضاً. وحين دُعيت إلى حضور ملتقيات تضامن مع المقاومة الفلسطينية في عمّان في بداية سنة 1970، أحسست بالفخر والسعادة، ولا سيما أنني التقيت بعدد من القيادات الفلسطينية، وتعرفت إلى أوضاع الشعب الفلسطيني في الأردن، وخصوصاً في مخيم الوحدات.”

ولدى سؤاله عن الهوية الفلسطينية التي منحها إياه المجلس الوطني الفلسطيني في سنة 1976، ردّ المناضل المغربي بتأثر قائلاً: “نعم قرر المجلس الوطني الفلسطيني منحي الهوية الفلسطينية ولم أكن أعلم بذلك، فقد كنت في عزلة تامة ولم أعلم بذلك إلّا بعد أعوام، وكان ذلك أكبر وسام في حياتي، كما قرأت ما كتبه الأخ هاني الحسن في مقدمة كتاب عني، وكنت سعيداً جداً بذلك.”

تطرف اليهود المغاربة والتوتر مع المسلمين

يعود سرفاتي إلى زمن هزيمة حزيران / يونيو 1967، حين كان الوضع متوتراً بين المسلمين واليهود في المغرب، فيقول: “في سنة 1967، كانت الطائفتان المسلمة واليهودية في المغرب منقسمتَين بشدة وبشكل محزن للمرة الأولى في تاريخ المغرب، وكنت اليهودي المغربي الوحيد الذي اتخذ موقفاً ضد إسرائيل وضد الصهيونية، وربما الوحيد بين يهود الشرق الذين يختلفون عرقياً وثقافياً عن اليهود الغربيين، ويتم استغلالهم وقمعهم بشكل بشع من طرف المؤسسة الصهيونية الحاكمة ورأس المال اليهودي في العالم المرتبط بالإمبريالية الأميركية، لأن الصهيونية في الأساس هي عبارة عن أيديولوجيا جاءت من أوروبا الوسطى حيث مورس القمع هناك ضدهم، وهذه الأيديولوجيا أصبحت عنصرية تمارس القمع والاحتلال في فلسطين. لكن هذه الأيديولوجيا الصهيونية غريبة تماماً عن اليهودية العربية التي لم تلقَ قط الاضطهاد مثلما حدث لليهود الأوروبيين. وقد جرى اقتلاع اليهود العرب، وخصوصاً المغربيين، من بلادهم، وذلك من خلال عملية مشتركة بين البورجوازية الحاكمة في هذه البلاد والحركة الصهيونية العالمية، وجُلبوا إلى فلسطين ليكونوا وقوداً ضد الشعب الفلسطيني، وعمالاً مياومين تستغلهم الرأسمالية التي تتحكم في دولة إسرائيل، وقد حاولت دراسة هذه العوامل كلها في كتابي.

بالعودة إلى سؤالك عن سبب تطرف اليهود المغاربة الذين هاجروا إلى إسرائيل ويعانون القهر والحرمان، وهذا أمر كان يزعج المسلمين والحركة الوطنية، فقد قال لي أحد رفاقي، وكان من القلائل الشديدي الوضوح في ذلك الحين، بعد 25 عاماً سنقول لك الحق معك بشأن تحليلك لأسباب تطرف اليهود من أصل مغربي، لكن قبل ذلك بكثير، هناك مَن أعطاني الحق فيما كنت أقوله، وهو أمر لن أنساه أبداً، وكانوا إخواني الفلسطينيين والمقاومة الفلسطينية التي كانت الأولى في العالم العربي التي فرقت بين اليهودية والصهيونية.”

وفسر سرفاتي تطرف اليهود القادمين من المغرب إلى الكيان الصهيوني تجاه العرب، وهو أمر عالجه في كتاب له، وقال: “نعم، إن أحد الأهداف الأساسية من كتابي هو دراسة هذه المشكلة بشكل معمق، لأنه يجب التمعن جيداً في التناقضات الداخلية للكيان الصهيوني، ولدولة إسرائيل، من أجل محاربة الصهيونية، وأعتقد أن المقاومة الفلسطينية لم تأخذ حتى الآن بعين الاعتبار تلك التناقصات. فمع أن هذه المقاومة تدعو دائماً اليهود التقدميين داخل إسرائيل إلى مشاركتها النضال، إلّا إنها لم تأخذ بشكل كافٍ الفارق بين يهود أوروبا، واليهود القادمين إلى فلسطين ‘الذين اضطُهدوا هناك’، وهو ما قلت فيه إن المضطهِد لا يكتفي فقط بممارسة الاضطهاد على المضطهَد، بل يفرغه من هويته. وقد دُرست هذه الإشكالية في البرازيل، وهي صحيحة في معظم دول العالم الثالث، وهذا ما يحدث تماماً في إسرائيل، ولذلك نجد كثيراً من اليهود المغاربة يُدلون بأصواتهم لمصلحة الليكود.”

ليس جميع المتدينين صهيونيين

فرّق سرفاتي بين مجموعة يهودية دينية متطرفة وأُخرى، مضيفاً: “لكن مع ذلك فإن الأفكار تتقدم، وقد قرأت مؤخراً أنه بالنسبة إلى الأحزاب الدينية فإن حزب ‘الأشكنازية’ هو حزب صهيوني حتى العمق، مقارنة بحزب شاس الديني الممثل لـ ‘السفاردية’، والذي هو في الحقيقة ليس صهيونياً، بل هو الحزب الوحيد من الأحزاب الدينية الذي دعم فكرة (الأرض في مقابل السلام). طبعاً هذا الموقف معتدل ويسير في اتجاه الضغط على إسرائيل للانسحاب من الأراضي التي احتلتها في سنة 1976 وتركها للشعب الفلسطيني.”

وتابع: “ممّا لا شك فيه أن اليهود السفارديم لديهم تأثير ما، والحكومة الإسرائيلية تأخذ في عين الاعتبار هذه المسألة في موقفها، وهي تستخدم ‘تكتيكاً’ معروفاً تجاه اليهود السفارديم، وهذا يسير في طريق تلبية طموح الفلسطينيين.”

نضال مشترك

وعن الدور السياسي لليهود الشرقيين في معارضة الصهيونية، أشار المناضل المغربي إلى أن الهدف هو إقامة دولة فلسطينية ديمقراطية، وقال: “يمكننا أن ندعو هؤلاء اليهود إلى أن يناضلوا في مرحلة أولى لإسرائيل غير صهيونية، أي لدولة غير صهيونية لا يكون فيها ثقل لليهود الأوروبيين، وتكون إلى جانب دولة فلسطينية. وهكذا يمكننا الاندماج في الشرق الأوسط، ويمكننا أن نصبح دولة شرق أوسطية، وهذا الحل سيكون مرحلة مثلما قلت في كتابي، نحو فلسطين واحدة ديمقراطية، وذلك طبقاً لمشروع المقاومة الفلسطينية بإقامة دولة فلسطينية ديمقراطية، لكن هذا المشروع ما زال لا يحظى بصدقية من طرف اليهود الإسرائيليين. وفي المقابل يمكن إقناع هؤلاء اليهود الإسرائيليين، وخصوصاً اليهود الشرقيين، بضرورة النضال كي تصبح دولة إسرائيل دولة غير صهيونية، وبالتالي تسمح لدولة فلسطينية بأن تنشأ بجانبها.”

مفاوضات مدريد

تناولت المقابلة مع سرفاتي مفاوضات مدريد التي كانت قد بدأت آنذاك، وقد أبدى خشيته من أنها تشكل خطراً على القضية الفلسطينية، قائلاً: “أخشى أن تؤدي هذه المفاوضات إلى انخراط المقاومة الفلسطينية في حل لا يكون في الحقيقة حلاً فعلياً، وأنا شخصياً أفضّل ألّا يشارك الطرف الفلسطيني في هذه المفاوضات قبل وضوح الأمور، وإحداث تغيير ما في ميزان القوى. لكن بما أن المحادثات بدأت على الرغم من كل شيء، فإنها سمحت للطرف الفلسطيني بأن يُعرِّف الرأي العام أكثر بالقضية الفلسطينية، وأن يطالب بشكل أكثر فاعلية بإيقاف بناء المستعمرات الإسرائيلية في الأراضي المحتلة منذ سنة 1967، وتفكيكها إن أمكن، وعدم إصدار قوانين عنصرية جديدة. وأعتقد أن هذا هو الحد الأدنى الذي من دون تحقيقه ليس هناك أي معنى للمفاوضات.”

العرب والقضية الفلسطينية

عن رأيه في مواقف المعارضة العربية تجاه الانتفاضة الفلسطينية والحرب على العراق، قال سرفاتي: “للأسف إن وضع الحركة الوطنية العربية ازداد سوءاً بعد حرب الخليج، لكن وضع الحركة كان كارثياً منذ عدة سنوات، وأتذكر في سنة 1982 خلال الغزو الإسرائيلي للبنان، لم تخرج تظاهرة واحدة في العالم العربي للتضامن مع الشعبين الفلسطيني واللبناني، بل إن التظاهرة الكبيرة الوحيدة التي حدثت كانت في الجزائر، لكن للاحتفال بفوز المنتخب الجزائري لكرة القدم في المسابقة الدولية لأبطال كرة القدم.”

وأضاف: “الطريق طويل، وعلينا كمناضلين عرب أن نشقّه كي تساند الشعوبُ العربية المقاومة الفلسطينية بشكل فعلي، كما أن على المقاومة الفلسطينية ألّا تراهن فقط على الأنظمة، بل على الجماهير أيضاً، والانتفاضة الفلسطينية في هذا الشأن هي عمل بطولي يجب البناء عليه، ويجب العمل أيضاً على تناقضات الكيان الصهيوني. ونحن نحثّ الرأي العام الغربي عامة، والحركات اليسارية خاصة، على التضامن مع القضية الفلسطينية.”

وتابع: “أعتقد أن موقف الحركات اليسارية في أوروبا جيد بصورة عامة، لكن يجب تطويره، وفي هذا الشأن أود أن ألفت نظر إخوتنا الفلسطينيين إلى إحدى العقبات التي تعوق تطوير حركة التضامن مع الشعب الفلسطيني في فرنسا، وهي أن هذه الحركة تجد نفسها مضطرة منذ فترة إلى عدم وضع الأيديولوجيا الصهيونية موضع الشك. وكثيرون من المناضلين الفرنسيين مع فلسطين قالوا لي: ‘نحن لا نهاجم الصهيونية لأن منظمة التحرير الفلسطينية قالت لنا إنه في التكتيك الحالي يجب عدم مهاجمة الصهيونية’، وأعتقد أن هذا خطأ جسيم، إذ يجب علينا التفريق بين اليهودية والصهيونية، وهذا واضح تماماً ومنذ فترة طويلة، وعلينا الاستمرار في النضال الأيديولوجي والسياسي ضد الصهيونية، حتى لو كان هناك صعوبات في البداية في بلد مثل فرنسا؛ يجب إظهار الحقيقة، وهي أنه ما دامت إسرائيل دولة صهيونية، فإنه لا يمكن صنع سلام حقيقي في الشرق الأوسط، وأعتقد أنه بعد ذلك يستطيع المتضامنون مع القضية الفلسطينية التقدم بشكل أفضل داخل المجتمع الفرنسي.”

كلمة من سجين سابق إلى الأسرى الفلسطينيين

أخيراً، ولدى سؤال المناضل سرفاتي والسجين السابق، عن الكلمة التي يود أن يقولها للمعتقلين الفلسطينيين الذين كانوا قد بدأوا إضراباً بطولياً، اختتم سرفاتي كلامه والدموع في عينيه، قائلاً: “نحن كسجناء مغربيين تعلّمنا دروساً رائعة من مقاومة الشعب الفلسطيني، وخصوصاً مقاومة السجناء الفلسطينيين والشعب الفلسطيني الذي هو طليعة الأمة العربية. إن المعتقلين الفلسطينيين هم المناضلون الطليعيون للشعب الفلسطيني، وأنا أحييهم وأقول لهم أنني متضامن معهم من أعماق قلبي.”

المصدر: مجلة الدراسات الفلسطينية العدد 134 – ربيع 2023

 

أخبار ذات علاقة

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

أهم الأخبار

اخترنا لكم

المكتب الإعلامي الفلسطيني في أوروبا