المكتب الإعلامي الفلسطيني في أوروبا

العلاقات الإيرانية – الإسرائيلية: أبعد من الأيديولوجيا ج(1) ج(2)

العلاقات الإيرانية – الإسرائيلية: أبعد من الأيديولوجيا (1)

مركز المزماة للدراسات والبحوث
بقلم: عبدالقادر نعناع

مقدّمة:

تتشابك العلاقات الإقليمية في المشرق العربي، بين قوى إقليمية تسعى إلى استحصال مجالات نفوذ وتوسيعها، ضمن مجموعة مصالح تتَّفِق مع سياق القوة لدى كل دولة منها؛ونعني بالتحديد هنا (إيران، إسرائيل، تركيا)، ويبدو ظاهريّاً أنّ لكلّ منها مشروع يتضادّ مع الأخريات، ويدفع إلى التصادم في لحظة تاريخية معينة، ترتبط بقدرة التوازنات فيما بينها على الاحتفاظ بمسافات القوة.
وكلّما استطاعت إحدى هذه القوى، الحصول على مكاسب إضافية في بيئة الصراع هذه، فإنّها تسعى إلى تعزيز مصالح ومكاسب أخرى، بناء على القيمة المضافة التي طرأت على قوتها؛ وبالطبع، فإنّ مكسباً لإحداها هو خسارة للأخريات؛ وهنا تتجلّى عملية التنافس، التي قد تبدو أحياناً – في بعضها – على شكل صراع أيديولوجي صفري يستعصي على المساومة.

اعتمدت إسرائيل في تنافسها مع القوى الإقليمية الأخرى، على عامل القوة الصلبة (الاحتلال والعدوان) بشكل رئيس، مدعوماً من قبل الولايات المتحدة إلى أقصى حد، فيما احتفظت تركيا حتى عهد قريب باعتمادها على (العامل الاقتصادي) والذي أدخلت عليه لاحقاً عامل القوة المرنة (الثقافي والدبلوماسي)، مع لجوء محدود إلى التهديد أو دعم جهات مقاتلة وحملات عسكرية محدودة بين فينة وأخرى؛ بينما تنوَّعت الآليات الإيرانية بين القوة الصلبة المطلقة (حرب الخليج الأولى)، وبين دعم اقتصادي واسع (حكومتا الأسد والمالكي)، وإنشاء ودعم ميليشيات واسعة في المنطقة، إلى تفعيل العامل الثقافي الهُويّاتي (المذهبي) ضمن سياسة تصدير الثورة، وإعادة تشكيل الولاءات الهُويّاتية-السياسية، في محاولة خلق عالم شيعي يمتد إلى المتوسط غرباً وإلى اليمن جنوباً، مروراً بدول الخليج العربي.

وحيث تختلف المصالح القومية بين هذه القوى الثلاث، فإنّ أنماط العلاقات فيما بينها شهدت تنوّعاً ساهم في إعلاء حالة التوتر في المجال العربي، كانعكاس لسلوكها تجاهه؛ فحينما تقاربت تركيا وإسرائيل طيلة الفترة اللاحقة لقيام إسرائيل، شهدت علاقات الطرفين توترات عديدة في السنوات الأخيرة دون أن تصل إلى مرحلة القطيعة الكاملة؛ بالمقابل انتقلت إيران من مرحلة التقارب المكثف مع إسرائيل، إلى مرحلة العداء الاستراتيجي الأيديولوجي بعد قيام ثورتها 1979، وإلى عملية تحشيد مستنبَطَة من ذلك، للمنطقة بأسرها، مُستَغِلَّة انكسار القوة العربية في العراق لاحقاً، غير أنّ هذا العداء افتقر إلى وقائع مادية تثبت طبيعته.
وراوحت العلاقات الإيرانية-التركية بين تقارب وفتور طيلة العقود الماضية، دون أن تشهد توتراً يقود نحو قطيعة، إذ غالباً ما تمّ إعلاء المصالح المشتركة على العوامل المؤثرة الأخرى، سواء الأيديولوجية أو التحالفية، بل شهدت السنوات الماضية ارتفاعات كبيرة في الميزان التجاري بين الدولتين، وسعياً تركياً لحلّ إشكالية الملف النووي الإيراني، قبل أن تُعيد الثورة السورية تأزيم العلاقات وبشكل محدود بين الدولتين.

ويتجلّى من ذلك سؤال مركزي: ما هي طبيعة العلاقات الإيرانية-الإسرائيلية، وما الذي يكمن خلف الأيديولوجيا الظاهرة؟

ويسعى هذا البحث إلى الإجابة عن هذا السؤال، من خلال محاوره الآتية:

القسم الأول:

التمظهر العلني للعلاقات البينية.

مبدأ التقيّة في العلاقة مع إسرائيل.

تقاطع المصالح في البيئة العربية.

في تداعيات عدوان 2006، وما تلاه في غزة.

القسم الثاني:

المشاريع المشتركة بين الطرفين.

ما بعد جنيف.

الالتقاء في سورية.

أولاً- التمظهر العلني للعلاقات البينية:

طالما رفعت إيران الخمينية شعار “الموت لأمريكا.. الموت لإسرائيل”، في كافة خطب قادتها، وجعلت من ذلك قاعدة لإنشاء تحالفاتها الإقليمية، التي أُطلِق عليها “محور المقاومة”، في مواجهة إسرائيل تحديداً وفقاً لأصحاب هذا المحور؛ ليجتذب غالبية التيارات القومية واليسارية العربية إلى مشروع شرق أوسط إيراني “إسلامي”، تتصدّره إيران بعد أن تزيح القوة الإسرائيلية عنه افتراضياً؛ ودافع أنصار هذا المشروع طويلاً عن الجرائم التي ارتُكِبت بحق شعوب المنطقة، وعن حالة التردي المعاشي والاقتصادي التي لحقت بالدول العربية (دول المقاومة)، تحت شعار “لا صوت يعلو على صوت المعركة”.
وألهمت إيران من جانبها حماس أنصارها في المنطقة، عبر استعراضات عسكرية، واستعراضات لفظية، وأخرى عقائدية، يتصدّرها المرشد الإيراني، أو الرئيس الإيراني، عبر تهديد بإزالة إسرائيل من المنطقة وحرقها أو رميها في المتوسط.
من ذلك على سبيل المثال لا الحصر، ما ذهب إليه الرئيس الإيراني السابق، محمود أحمدي نجاد، من أنّ وجود إسرائيل “إهانة للبشرية جمعاء”، ومواجهة إسرائيل تأتي في إطار جهود “حماية كرامة جميع البشر”. واعتباره أنّ إسرائيل “ورم سرطاني سيزول قريباً”، وأنّ “دول المنطقة ستُنهِي قريباً وجود المغتصِبين الصهاينة على أرض فلسطين”؛ وكذلك ما ذهب إليه من أنّ “الغرب يقول إنّهم يريدون شرقاً أوسط جديداً، ونحن أيضاً نريد شرقاً أوسط جديداً، لكن في شرق أوسطنا لن يكون هناك أثر للصهاينة”؛ وأضاف أنّ “الصهاينة سيرحلون والهيمنة الأمريكية على العالم ستنتهي (1)”.
كما توعّد المرشد الإيراني، علي خامنئي إسرائيل، بتدمير تل أبيب وحيفا في حال هاجمت بلاده: “يهدّد النظام الصهيوني بين الحين والآخر بغزو عسكري، لكنهم يعلمون أنّهم إذا ارتكبوا أيّ خطأ فإنّ الجمهورية الإسلامية ستسوي تل أبيب وحيفا بالأرض (2)”.

فيما تبادر إسرائيل بدروها للردّ بتصريحات مباشرة، وتهديدات مستمرة، وتحريض على عمل عسكري أمريكي ضد إيران؛ من ذلك –على سبيل المثال- ما دعا إليه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو: “لابدّ من توجيه ضربة لإيران لوقف برنامجها النووي”، وحذّر بدوره إيران من أنّ بلاده سوف “تفعل ما هو ضروري” لمنع طهران من امتلاك أسلحة نووية (3).

وقد شهدت العلاقات العلنية للطرفين، منذ عام 1979، حالة عداء تحريضي قلّما شهدته العلاقات الدولية بهذا الشكل غير المترافق مع أعمال عدائية فعلية تجاه بعضهما البعض، وخاصة أنّ خطاب الطرفين يستند إلى تصفية الطرف الآخر كلّياً وإزالته عن الخارطة.
وأتت عملية الاستعداء الأيديولوجي تلك، عقب الإطاحة بالنظام الشاهنشاهي –الملكي-، إذ كانت علاقات الطرفين تتعزز في ظل الحكم السابق باضطراد، ولم يكن بإمكان النظام الخميني أن يستند إلى ذات المنهجية، وخاصّة أنّه كان في صدد مشروع تصدير ثورة “إسلامية” تتمدّد في محيطه العربي، في وقت ما زالت فيه غالبية الدول العربية –باستثناء مصر- في حالة حرب مع إسرائيل.

ثانياً- مبدأ التقيّة في العلاقة مع إسرائيل:

بالابتعاد عن التعبئة الأيديولوجية، والخطاب التحريضي، والبحث واقعياً في مسارات العلاقات بين الطرفين منذ عام 1979، تتجلى أبعاد براغماتية، تختلف كلياً عمّا يتصدّر المشهد من حالة عداء، وتظهر أفق تعاون مباشر وغير مباشر بين الطرفين.
فرغم أنّ التوترات بين إيران وإسرائيل أخذت منهجاً تصعيدياً، منذ عام 1979، إلّا أّنه حصل في الوقت نفسه تعاون سرّي أيضاً بين الجانبين، هذا الأمر الذي يعود إلى اندلاع الحرب بين العراق وإيران في سبتمبر/أيلول عام 1980. وبينما أيّد العالم الغربي بأسره تقريباً في هذه الفترة الجانب العراقي، فإنّ إسرائيل وقفت إلى جانب خميني، إذ اعتبرت نظام صدام حسين مصدر الخطورة؛ ويقول هنري فورتخ في هذا السياق: “نفذت في مستهل الثمانينيات احتياطيات إيران من الأسلحة والذخائر والإمدادات.. وكانت إسرائيل مستعدة لتزويد طهران باحتياطيات جديدة من الإنتاج الأمريكي.. وعندما انتشرت في مستهلّ الثمانينيات شائعات تقول إنّ العراق يسعى إلى بناء قنبلة نووية، اعتبرت إسرائيل وإيران على حدٍّ سواء أنّه لا يمكن قبول ذلك؛ وعليه، فإنّ الاستخبارات الإيرانية قدمت إلى السلاح الجوي الإسرائيلي معلومات مهمّة مكنته عام 1981 من إلقاء القنابل فوق مفاعل أوزيراك العراقي لعرقلة تنفيذ البرنامج النووي العراقي لعدة سنين”. ويضيف: “إنّ جميع الأطراف حاولت كتمان الأمر.. إلّا أنّه اتضح في نوفمبر/تشرين الثاني 1986 أنّ واشنطن قامت ببيع صواريخ لطهران على مدى عدة سنين؛ لتمويل عمليات المتمردين اليمينيين في نيكاراجوا، وأنّ تنفيذ قسم كبير من الصفقات بهذا الشأن تمّ عن طريق إسرائيل (4)”.
كانت شحنات السلاح تنطلق في تلك الفترة، من دمشق وتل أبيب معاً إلى طهران، في عملية إسناد نظام خميني، وخاصة في الفترات التي كان فيها العراق يحرز تقدماً عسكرياً، خشية انتصار العراق، وخروجه بكامل قوته العسكرية، وتحوّله بالتالي إلى قوة عربية كبرى تفرض واقعاً جديداً في الشرق الأوسط.

كما أنّ حزب الله الذي نشأ في ثمانينيات القرن الماضي، نشأ بعد تفاهمات أمريكية-إسرائيلية-إيرانية فترة حكم شاه إيران؛ لمواجهة اليسار اللبناني، وشكَّل الشيعة آنذاك قوامه الفكري والثقافي؛ وكان مصطفى كمران المنسق الأمني بين جماعة موسى الصدر وطهران وتل أبيب، وعندما قامت الثورة الإيرانية، لم يجد خميني -رغم اعتراضات بعض رجال الدين- سوى كمران ليولّيه وزارة الدفاع الإيرانية (5).

ثالثاً- تقاطع المصالح في البيئة العربية:

من خلال ملاحظة محددات وأدوات كلّ من المشروعين الإسرائيلي والإيراني في المجال العربي، تظهر تقاطعات تكاد تجعل المشروعين متماثلين في كثير من تلك المحددات والأدوات، أيّ متنافسين على ذات الهدف في ذات البيئة الجغرافية (البيئة العربية).

فنتيجة الاصطناع الغربي للكيان الإسرائيلي في المنطقة العربية، ظلّت إسرائيل تعاني من إشكالية أمنها القومي، ووقوعها تحت ضغط تهديد شنّ حرب عليها، ضمن مجالها الجغرافي الضيق، وحاولت الاستعاضة عن ذلك من خلال نقل خطوط المواجهة مع جوارها العربي إلى عمق الأراضي العربية لتلك الدول، عبر توسيع المساحات المحتلّة المحيطة بالنواة الإسرائيلية (تل أبيب- حيفا- يافا)، ضمن مشروع صهيوني يبقى مؤجلاً حتى الآن –إسرائيل الكبرى- والتي تمتد في المشرق العربي ومصر.

في المقابل، فإنّ هيمنة النظام الإيراني على الأقاليم والشعوب المحيطة بالمركز الفارسي (طهران-قم-يزد)، والتي شكّلت في مراحل زمنية سابقة دولاً مستقلة، فإنّه اكتسب بذلك عمقاً جغرافياً واسعاً يحيط بالمركز الفارسي، إلّا أنّه اشترك مع إسرائيل في المنطق الاحتلالي –احتلال الأحواز- بل سبقها إلى ذلك منذ عام 1925 باحتلال الأحواز؛ ويمتلك بدوره مشروعاً توسُّعياً احتلالياً في المشرق العربي والخليج العربي –إيران الكبرى- ضمن سياسة تصدير الثورة الخمينية.

وهنا تُشكِّل منطقة المشرق العربي بالتحديد مجال منافسة وتصادم مصالح بين القوتين الإسرائيلية والإيرانية، استطاعت إيران أن تنجز فيها كثيراً من مصالحها، عبر الهيمنة على العراق وسورية ولبنان، فيما لم يتجاوز المشروع الإسرائيلي حدوده في فلسطين والجولان، بل شهد تراجعات جغرافية منذ عام 1982؛ في المقابل، فشلت محاولات إيران المتكررة للتغلغل في مصر، خاصة بعد إسقاط نظام الرئيس السابق محمد مرسي، والتحسن الذي طرأ على العلاقات المصرية-الإسرائيلية.
فالبيئة العربية تُشكِّل مجالاً حيوياً لكلا الطرفين، سواء استراتيجياً أو أيديولوجياً، أو لناحية العامل الديموغرافي، الذي اعتمدت فيه إسرائيل على عملية استيراده من الخارج، بينما سعت إيران إلى استيلاده داخل هذه البيئة ضمن مشروع تشييع المنطقة، وخلق عالم شيعي فيها.
واعتمدت كلا القوتين على فكرة الاندماج القسري داخل المجال العربي، عبر إنشاء وكلاء لهما في المنطقة -سورية في حالة إيران، ومصر في حالة إسرائيل- واعتبارهما قاعدة للانطلاق عربياً، عبر توظيفات إعلامية واقتصادية ونخبوية، طالما شكّلت عامل تأزّم داخلي في مواجهة المجتمعات العربية؛ كما تمّ توظيف البعد السياسي في خلق توترات عربية بينية، وإنشاء محاور داخل العالم العربي، تستطيع من خلالها، تشتيت أيّ جهد عربي لتدعيم الأمن القومي المشترك، وإعاقة نهوض قوة عربية، من خلال الإعلاء من قيمة الاستقطابات السياسية تلك.

فإدراك كل من إيران وإسرائيل للتهديد الوجودي، ينبع في الأساس من البيئة العربية المجاورة لهما، وليس من ذواتهما تجاه البعض؛ لذا كان مشروع إخراج مصر عن النسق العربي منذ اتفاقية كامب ديفيد، وإنهاك العراق في حرب السنوات الثمان –الخليج الأولى-، ثم استغلال جريمة احتلال الكويت –حرب الخليج الثانية-، وتوظيفها في تدمير ما تبقى من القوة العراقية، قبل الدفع نحو احتلاله وإعادة تشكيله –حرب الخليج الثالثة- بما يتفق مع المشروعين الإيراني والإسرائيلي؛ وأخيراً –وليس آخراً- عملية استنزاف الجيش السوري والاشتغال عليه طائفياً، لصالح استمرارية الأسد -المشروع الإيراني- في مقابل تدمير سورية كاملة.

ويُلحَظ في كافّة الإجراءات التي انتهجتها كلا الدولتين، تناسقها، سواء من ناحية الآليات العسكرية: الاحتلال، الحرب، العدوان، الاغتيالات السياسية، الردع، التهديد، دعم الميليشيات. أو من ناحية التحريض العدواني ضد العرب في الحالة الإسرائيلية، وضد السنة في الحالة الإيرانية، أي ضد العرب السنة في الحالتين؛ أو سواء من ناحية عقد تحالفات ثنائية تخترق المجال العربي.

في المقابل، لم تتمظهر إشكالية العداء الإيديولوجي ما بين إسرائيل وإيران، على شكل مجريات واقعية، كما يروّج له أصحابه، فالعدو المستهدف في كلتا الحالتين لم يتجاوز المجال العربي؛ خاصة أنْ لا إشكالية حدوديّة قائمة بين الطرفين، كما في الحالة العربية، فالطرفان بعيدان جغرافياً ولا مناطق تماسّ بينهما، كما في حالة الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية.
كما لم تشكّل إسرائيل عائقاً نهضوياً-فلسفياً في الفكر الفارسي، كالذي شكّلته في الحالة العربية المشرقية، ولا يجد العداء الأيديولوجي قاعدة تاريخية يشتغل عليها، خاصة أنّ للفرس دور تاريخي مهمّ في عملية “تحرير” اليهود من الأسر البابلي، ودفعهم نحو فلسطين، ومساندتهم في إنشاء أولى المستوطنات التاريخية لهم فيها، سعياً من الفرس لتقويض خصومهم في الممالك السورية والعراقية آنذاك.

وقد أشار مؤلف كتاب “التحالف الغادر، أسرار التعاملات بين إسرائيل وإيران والولايات المتحدة”، الكاتب الأمريكي تريتا بارسي -أستاذ العلاقات الدولية في جامعة “جون هوبكينز” وخبير في الشأن الإيراني-، إلى نتيجة مهمة في كتابه: وهي أنّ هناك علاقة بين المثلث الإسرائيلي- الإيراني- الأمريكي تقوم على المصالح والتنافس الإقليمي، وليس على الأيديولوجيا والخطابات والشعارات التعبوية الحماسية؛ وأكّد أنّه على عكس التفكير السائد، فإنّ إيران وإسرائيل ليستا في صراع أيديولوجي بقدر ما هو نزاع استراتيجي قابل للحل.

وهو نفس الأمر الذي أكَّده الصحفي نادر كريمي الخبير في الشؤون الإيرانية-الإسرائيلية -المعتقل في أحد السجون الإيرانية-، حيث بيَّن في حوار سابق له مع “العربية نت” أنّ طهران ترتبط بعلاقة سرية حميمة مع إسرائيل، وذلك من واقع مقابلات يقول إنّه تمكّن من إجرائها مع عناصر من الموساد استمرت 20 ساعة، ومع المخابرات الإيرانية “اطلاعات”، مؤكِّداً أنّ الحرب بين طهران وتل أبيب لا تتجاوز الحرب الكلامية، قائلاً: “إنّ الحرب الكلامية والعنتريات التي تخوضها طهران ضد تل أبيب أوهمت المسلمين أنّ الجمهورية الإسلامية الإيرانية ألدّ أو على أقل تقدير أحد ألدّ أعداء إسرائيل، وأهمّ حماة الفلسطينيين أو أحد أهمّ حماتهم في العالم”؛ كما يشير الكاتب البريطاني باتريك كوكبورن -المحلّل بصحيفة “الإندبندنت” البريطانية-، إلى أنّ مثل هذه التهديدات المتكررة من إسرائيل ضدّ إيران نجحت في تهميش القضية الفلسطينية، وخصوصاً ما يتعلق بالمستوطنات الإسرائيلية (6).

وتظهر من ذلك الحالة الوظيفية للتهديدات المتبادلة، والعداوة ما بين الطرفين، لناحية تبادل الأدوار في اختراق الرأي العام العربي، وتشتيت جهوده السياسية، بحيث يحافظ كلا الطرفين على حلفاء له في العالم العربي في مواجهة الآخر.

رابعاً- في تداعيات عدوان 2006، وما تلاه في غزة:

انحازت نخب عديدة من التيار القومي العربي، والتيار اليساري، وشرائح من المجتمعات العربية، إلى ميليشيات حزب الله عام 2006، ومن خلفها إيران، أثناء العدوان الإسرائيلي على لبنان؛ واعتبرت “مقاومته” لهذا العدوان، دليلاً على “صدقية” منهجه “المقاوم”، و”شرعية” وجوده وسلاحه في مواجهة الدولة اللبنانية؛ قبل أن تتكشف حقيقة تلك الميليشيات بعد اندلاع الثورة السورية.

ما قام به حزب الله، كان استدراجاً للعدوان الإسرائيلي، لم يشكل ضحايا الطرفين نسبة تذكر منه، مقابل من سقط من ضحايا مدنيين لبنانيين، ودمار واسع في البنية التحتية، وعمليات تهجير لمئات آلاف اللبنانيين؛ أفسحت المجال لاحقاً لإيران، حتى تؤسس مشروعاً استخباراتياً عسكرياً في عدة مناطق لبنان، تحت ذرائع إعادة الإعمار ودعم المقاومة، ولإعادة تشكيل البيئة الديموغرافية في جنوب لبنان بما يتفق مع مشروعها في خلق “عالمها” الشيعي.

كما كان لاستنجاد حزب الله بالاعتداءات الإسرائيلية حينها، دور بالغ في إحداث انقلاب سياسي داخلي في لبنان، بلغ ذروته مع اقتحام قوات حزب الله لبيروت في مايو/أيار 2007، وما تلاه من فرض حكومة تابعة له، وإقصاء معارضيه عن المشهد السياسي الحكومي، وإعادة توجيه سياسات لبنان خارجياً باتجاه إيران، عبر استغلال الأمر الواقع ما بعد هذا العدوان، وتحويل سلاحه نحو الداخل اللبناني.

لقد أعاد هذا العدوان تشكيل التحالفات الإقليمية وتوسيع ما اصطلح على تسميته بـ “محور المقاومة والممانعة” ليشمل دولة قطر كذلك، في محاولة فرض أجندات إيرانية على العالم العربي، بل وبلغ استقواء الأسد الابن بالنظام الإيراني حينها، حدّ خروجه عن الأعراف الدبلوماسية بتطاوله على الحكام العرب حين رفضوا منطق الانجرار في مغامرات عسكرية لإيران وحزب الله التي ترمي إلى إشعال المنطقة، على غير حساب المنطقة العربية، وتوظيف العامل الديني في استخراج فتاوى دينية تخدم الأغراض السياسية للمشروع الإيراني.

ما تمّ، هو دفع إيراني نحو عسكرة إقليم المشرق العربي عبر استدعاء الاعتداءات الإسرائيلية على لبنان تحديداً، بغية استعراض للقوة الإيرانية أمام الدول العربية من جهة، وأمام الولايات المتحدة من جهة أخرى بغية الحصول على مكاسب سياسية في المنطقة، وتبادل خفيّ للأدوار المصلحية بين الطرفين.

وتمّ انسياق هذا المشروع إلى داخل البيئة الفلسطينية، عبر تقديم دعم مقيّد ومحدود لفصائل المقاومة في غزة، مقابل بروبوغاندا “دعم الشعوب المضطهدة”، التي أطلقها خميني إبان ثورته، حيث ترتبت ذات النتائج السابقة في لبنان على قطاع غزة بالأخص، لناحية حجم الضحايا المدنيين أو لناحية المهجّرِين، أو لناحية خلق بيئة حاضنة مأخوذة بالمشروع الإيراني، والفصل من ثمّ ما بين مسارَيّ غزة والضفة الغربية، عبر استقطابات إيرانية-إسرائيلية داخل الأراضي الفلسطينية، ومن ثمّ تفريغ الحراك الفلسطيني السياسي والعسكري من زخمه الشعبي المساند له.

في المقابل، لم تتجاوز حالة الدعم العسكري واستدعاء الحرب مع إسرائيل، الداخل اللبناني وقطاع غزة، في ظلّ تصريحات جمّة من كافة المستويات الإيرانية بحتمية إزالة إسرائيل إيرانياً؛ ولم تُترجم اتفاقيات الدفاع المشترك الموقعة مع نظام الأسد، في الحالات المتكررة التي قامت بها إسرائيل بضرب مواقع عسكرية.

إنّ الوعود الزائفة التي تتكرر في كل مناسبة إيرانية –أو بدون مناسبة حتى-، تجد لها الآن مجالاً لتنفيذها لو كانت لها صدقية سياسية وأيديولوجية، خاصّة في ظل تواجد الجيش الإيراني على الأراضي السورية، وقدرته على الوصول إلى العمق الإسرائيلي؛ غير أنّ هذا الوجود لم يُترجم سوى في عملية احتلال إيراني لسورية، والمساهمة في الجرائم الدولية المرتكبة بحقّ الشعب السوري؛ وسيتم تناول الالتقاء الإيراني-الإسرائيلي حول سورية في جزء لاحق من هذا البحث.

وما كان لحزب الله –أو ما أصبح يسمى بــ “حالش”- أن يشترك بشكل مباشر ومكثف إلى جانب قوات الأسد في الحرب على الشعب السوري، لولا يقينه بضمان سلامته في لبنان إسرائيلياً، وعدم حدوث اشتباكات متبادلة على الحدود، وهو ما كان حتى الآن، إلا في حال اضطرار الحزب ومن ورائه الأسد وإيران إلى إحداث انقلابات سياسية في البيئة العربية من جديد، في سعي لإنقاذ أوضاعهم العسكرية المتردية فيها، عبر استدعاء الاعتداءات الإسرائيلية ثانية.

مراجع القسم الأول:

(1) “أحمدي نجاد: إسرائيل إهانة للبشرية جمعاء”، قناة سكاي نيوز عربية، 17/8/2012.

(2) “خامنئي يتوعد إسرائيل بتدمير تل أبيب”، قناة سكاي نيوز عربية، 21/3/2014

(3) “خامنئي يتوعد إسرائيل بتدمير تل أبيب”، قناة سكاي نيوز عربية، 21/3/2014

(4) “إسرائيل وإيران.. عدوان لدودان”، قناة DWعربية، 22/2/2014.

(5) “إيران وإسرائيل والمصالح المتبادلة”، صحيفة اليوم السعودية، 1/2/2014: http://www.alyaum.com/News/art/118877.html

(6) إبراهيم محمد باداود، “العلاقة السرية بين إيران وإسرائيل”، صحيفة الجزيرة السعودية، 29/9/2012، العدد 14611.

——————————————————————————————————

العلاقات الإيرانية-الإسرائيلية: أبعد من الأيديولوجيا (2)

مركز المزماة للدراسات والبحوث
بقلم: عبدالقادر نعناع
5 ابريل 2014

تناول القسم الأول من هذه الدراسة، عدداً من المحاور التأسيسية لنمط العلاقات البينية بين إيران وإسرائيل، وخاصة في الفترة اللاحقة لقيام الثورة الخمينية 1979. من خلال استعراض المحاور التالية:

التمظهر العلني للعلاقات البينية.

مبدأ التقيّة في العلاقة مع إسرائيل.

تقاطع المصالح في البيئة العربية.

في تداعيات عدوان 2006، وما تلاه في غزة.

ويستكمل هذا القسم إبراز خلفية تلك العلاقات من خلال البحث في:

المشاريع المشتركة بين الطرفين: عسكرية وتجارية وبحثية.

ما بعد جنيف.

الالتقاء في سورية.

خامساً- المشاريع المشتركة بين الطرفين:

خلص القسم الأول من هذه الدراسة، إلى انتفاء مبررات العداء الأيديولوجي بين إيران وإسرائيل، بل أظهر تماثل الأدوات والتوجّهات لدى كلا الطرفين تجاه البيئة العربية المحيطة بهما، غير أنّه وبالبحث بشكل مكثّف خلف هذا العداء الإيديولوجي الصفري، تظهر جملة واسعة من المشاريع العسكرية والاقتصادية والبحثية، المشتركة والمستمرة بين الجانبين، دون أن تنقطع فعلياً بعد الثورة الخمينية عام 1979.

أ‌- على المستوى العسكري:

نقل موقع صحيفة “يديعوت أحرونوت” الإسرائيلية عن صحيفة “كاثيميريني” اليونانية، أنّ تحقيقات مشتركة أمريكية-يونانية كشفت أنّ تجار أسلحة إسرائيليين حاولوا تهريب قطع غيار لطائرات F-4، إلى إيران عبر اليونان، في خرق لحظر الأسلحة المفروض على طهران؛ ووفقاً للتقرير، تمّ شحن الحاويات من المجلس الإقليمي “بنيامينا- جفعات آدا” وكانت وجهتها إيران، وتبيّن من التحرّيات التي قادتها الولايات المتحدة أنّ تجار الأسلحة الإسرائيليين هم من وراء الصفقة (1).
ومؤخراً توجّهت إيران لإسرائيل، عبر شركة وهمية في الصين، من أجل شراء منظومة صنعتها شركة إسرائيلية من المنطقة الصناعية “رمات هاشرون”، وهذه المنظومة توفِّر جداراً وهمياً من أجل حماية العربات الحكومية للمسؤولين الإيرانيين (2).

كما أكّدت صحيفة “يديعوت أحرونوت” تورّط شركة “ألوت” الإسرائيلية، المعنيّة بالمنتجات التكنولوجية، تزويد إيران بمعدات استخباراتية لتعقّب شبكات الإنترنت في إيران، وأوضحت أنّ الحديث يدور حول معدات تكنولوجية عالية التقنية، تمدّ الدوائر المعنية في طهران بمعلومات موثّقة حول نشاط شبكات الإنترنت، وقالت الصحيفة: “إنّ وسيطاً دنماركياً قام بنقل هذه المعدات إلى إيران” (3).
وقد زوّدت كل من إيران وإسرائيل نظام الأسد بتقنيات مشابهة لتلك، منذ اندلاع الثورة في سورية، بغية رصد النشطاء السياسيين، والقدرة على تحديد مواقعهم والوصول إليهم.

ب‌-على المستوى التجاري:

كشفت الإذاعة الإسرائيلية العامة، في تقرير مفصّل لها، أنّ العلاقات التجارية بين تل أبيب وطهران في العقدين الماضيين، لم تقتصر على ما نُشِر عن صفقات تجارية بين شركة الأخوة “عوفر” مع شركات نفط إيرانية، مشيرة إلى أنّ خبراء إسرائيليين في مجال الزراعة ورجال أعمال وأكاديميين ينشطون في إيران على مدار تلك الأعوام، وقد ازدهرت تلك العلاقة عندما كان أرئيل شارون يتولى منصب وزير البنى التحتية في عهد حكومة نتنياهو الأولى عام 1996(4).
وذكر الدكتور سولي شهفار رئيس مركز دراسات إيران والخليج العربي في جامعة حيفا، أنّ: “عائلة عوفر ليست وحدها، فنحن نعرف عن أشياء معلومة مثل قضية ناحوم منبر الذي كانت له علاقات مع إيران على مدار سنوات بعلم السلطات الإسرائيلية دون أن تعتقله، وأعلم أنّ هناك شركات لها علاقات مع إيران بطريقة أو بأخرى، وأقدّر أنّ السلطات الإسرائيلية على دراية بجزء من هذا الحراك التجاري (5)”.
وبعد تولّي أرئيل شارون رئاسة الوزراء، طالبت إيران إسرائيل سداد الديون المترتبة عليها إضافة إلى تعويضات تأخير، والتي زادت عن 800 مليون دولار، وذلك منذ فترة الشراكة في خط أنابيب البترول إيلات-عسقلان، وعقب قطع العلاقات لم تسدِّد إسرائيل الدين المستحق عليها؛ وحينها اتّفق أرئيل شارون مع روسيا على أن تشتري روسيا الدين، مقابل هذا تتلقّى إيران أشياء تساوي في قيمتها هذا الدين مثل الوسائل القتالية وأيضاً إصلاح وسائل قتالية وبيع السلاح لإيران، وأهمّ الأمور التي اتُّفِق عليها تطوير طائرات الفانتوم التي كانت تمتلكها إيران في ذلك الوقت(6).

كما طلبت إيران من طرف ثالث، أن يناقش أرئيل شارون مع الأمريكيين إمكانية بلورة صفقة لرفع الحظر عن بعض الأملاك الإيرانية في الولايات المتحدة، مقابل وقف إيران تمويل الاستشهاديين (7).

وقد تكرر توجّه الإيرانيين لأرئيل شارون عبر طرف ثالث، وطلبوا من شركة “تاهل” الإسرائيلية التي بحوزتها نُسَخ من خرائط البنية التحتية للصرف الصحي في طهران، وذلك خلال الفترة التي كانت تعمل فيها الشركة في إيران في ظل حكم الشاه، وتم الحصول عليها مقابل الإفراج عن 8 يهود إيرانيين كانوا معتقلين بتهمة التجسس لصالح إسرائيل (8).

ج- على المستوى البحثي:

وافقت إيرانعلى تعيين إسرائيل للبروفيسور إليعاز رابينوفيتشي وهو أحد مؤسسي المشروع، بمنصب نائب رئيس مجلس إدارة مشروع “سيزامي SESAME”، وهو مسرّع الجزيئات الإلكترونية -في الأردن-، وهو مشروع فيزيائي-نووي يعدّ الأول من نوعه في منطقة الشرق الأوسط، بالتعاون بين كلّ من إسرائيل وإيرانوالأردن وتركيا؛ويهدف المشروع إلى إجراء أبحاث متقدمة في مجالات مختلفة مثل البيولوجيا وعلوم البيئة وعلم الآثار والكيمياء، ويجري تمويل المشروع من كل من إيران وتركيا والأردن، مع تلقيه خمسة ملايين يورو من مركز أبحاث “سيرن” الأوربي الشبيه له، ويتكون مجلس إدارته من علماء إسرائيليين وإيرانيين وأتراك وآخرين من مصر وباكستان والأردن، بالإضافة إلى أعضاء مراقبين من الولايات المتحدة وروسيا وإيطاليا والصين (9).

سادساً- ما بعد جنيف:

استطاعت القوى الكبرى (5+1) إنجاز اتفاق دولي مع إيران، يُحيِّد قدرات إيران النووية مؤقتاً ويخرجها عن مسارها العسكري، بعد جهد استمر لسنوات طويلة عبر جملة واسعة من العقوبات التي تدرَّجت حتى طالت كافة مفاصل الاقتصاد الإيراني، وأحدثت فيه اختلالات بنيوية يصعب علاجها على المدى القصير.

وأتى هذا الاتفاق المؤقت ليضع البرنامج النووي الإيراني ككلّ تحت المراقبة اليومية للوكالة الدولية للطاقة الذرية، ويضبط نسبة التخصيب دون 5%، ويمنع العمل في كثير من المنشآت النووية المختصة بالماء الثقيل والبلوتونيوم التي تؤهّل لصنع السلاح النووي؛ مقابل تخفيف مؤقت وجزئي للعقوبات المفروضة على إيران، في فترة اختبار جدية القيادة الإيرانية في الالتزام بهذا الاتفاق.

فالمكاسب التي تتحصّل عليها إيران من هذا الاتفاق، ليست مكاسب تخوِّلها التحول إلى قوة نووية متسلِّطة على محيطها، بقدر ما يقوم بإعادة تأهيلها للانخراط في المجتمع الدولي من جديد، وفق شروط هذا المجتمع، بل هي مكاسب معاشية اقتصادية، تحتاج لسنوات قبل أن تصلح الأضرار اللاحقة بالبنى الاقتصادية والمجتمعية في إيران.

فيما أتى الاتفاق بعد عقد من التعبئة الغربية للمنطقة، تحضيراً لحرب -افتراضية- تشنها تلك القوى على إيران، ورغم اعتراض إسرائيل -الأوّلي والعلني- على نتائجه، إلا أنّها تراجعت عن مطالبها بعمل عسكري موجّه نحو إيران؛ وفي المقابل، فقد وجدت إيران في ذلك الاتفاق، مخرجاً اقتصادياً مباشراً لأزماتها التي كادت تطيح باقتصادها، ومدخلاً سياسياً لإعادة تشكيل العلاقات مع القوى الغربية.

ووفقاً لـ أندرو باسيفيتش –أستاذ التاريخ بجامعة واشنطن-: “اعتبرت الإدارة الأميركية أنّ طهران هي نافذة واشنطن إلى طيّ مغامراتها سيئة المآل (في العراق وأفغانستان)؛ وشجَّعها على ذلك تراجع اهتمامها بالعالم العربي، خصوصاً في ظلّ المؤشرات القوية الدّالة على احتمالات اكتفائها من النفط والغاز إزاء وفرة الاحتياطيات التي تمّ اكتشافها في بحر الشمال”. ولم يبتعد محرر صحيفة “لوبوان” الفرنسية نيكولا بافاريز كثيراً عن الفكرة السابقة في تحليله، إذ ذكر أنّ واشنطن مهووسة بالحفاظ على زعامتها في وجه الصين، وقرّرت الانتقال من المحيط الأطلسي إلى المحيط الهادي، ساعدها على ذلك أنّها بصدد الاستقلال في مجال الطاقة والتقليل ممّا تستورده من نفط الشرق الأوسط، وفي تحوّلها ذاك تراجعت الأهمية النسبية للمنطقة في استراتيجيتها، ووجدت أنّ اتفاقها مع إيران يمكن أن يسهم في استقرارها (10).

ويرى كيهان برزكر محرر صحيفة “تابناك” الإيرانية، أنّ اتفاق جنيف فتح الطريق أمام تعاون أوسع مع الدول الغربية لحل القضايا الإقليمية والدولية، الأمر الذي يساعد على خروج المنظومة السياسية والأمنية من توازن القوى إلى استراتيجية توازن المصالح والتعاون الإقليمي؛ ولخّص تلك المصالح في الحفاظ على الأنظمة السياسية ومكافحة الإرهاب والتطرف، والتعاون من أجل شرق أوسط خال من أسلحة الدمار الشامل (11).

وهذا ما يعني بدوره، أنّ الولايات المتحدة بصدد إعادة هيكلة سياساتها الشرق أوسطية، بحيث تكون إيران وإسرائيل في جهة متقاربة، وبشكل علني مباشر هذه المرة، مع مراعاة مصالحهما ضمن المصالح الأمريكية في المنطقة، على أن تلتزم كل منهما بحدود الفصل المصلحي فيما بينها؛ وخاصة أنّ منطقة الاشتباك الرئيسة بينهما تقع في سورية ولبنان، وعليه فإن حسم الصراع عليهما يرتبط بحجم التوافق فيما بين إيران وإسرائيل في المرحلة القادمة على توازع الأدوار في المشرق العربي؛ ولا يبدو حتى الآن أنّ هناك خلافات كبرى حول شكل المنطقة، والفاعلين الرئيسيين فيها، في ظل إسناد الطرفين –الإيراني والإسرائيلي- لنظام الأسد بشكل مباشر أو غير مباشر.

وخصوصاً أنّ إيران كانت قد استبقت مؤتمر جنيف، بإلغاء مؤتمر مناهض لإسرائيل كانت تنوي تنظيمه، وذلك في بادرة حسن نية تجاه الغرب، وسط جهود ترمي لصياغة مسار دبلوماسي جديد لإيران؛ وذكرت عدة مواقع إخبارية إيرانية على شبكة الإنترنت بينها “جيهان نيوز”، أنّ وزارة الخارجية ألغت الاجتماع لأنّه اعتُبِر مقوِّضاً لسياسة الحكومة الرامية إلى “التفاعل مع العالم الخارجي”.

وفي تقرير نشرته مجلة “نيوزويك” الأميركية في 25 نوفمبر/تشرين الثاني 2013، تحت عنوان “القنوات الخلفية في بورجوندي”، تحدّثت فيه عن اجتماعات سرية عقدت في أحد قصور تلك المقاطعة الفرنسية بين عسكريين إيرانيين سابقين من الحرس الثوري وبين آخرين من إسرائيل ومجموعة ثالثة من الصين، نوقشت خلالها النقاط التي كانت محلّ خلاف بين إيران وبين الدول الكبرى التي عطّلت الاتفاق حول مشكلة البرنامج النووي؛ وكان للنتائج التي تمّ التوصل إليها في تلك الاجتماعات السرية دورها في تذليل العقبات التي اعترضت توقيع الاتفاق (12).

ما بدأ يظهر إلى العلن من علاقات بين إيران وإسرائيل، لم يكن سرّياً في الدوائر الدولية المعنية بالأمر، بل كان مخفياً عن الشارع العربي فحسب، نتيجة سياسة التعتيم التي اتبعتها الأنظمة العربية الموالية لإيران، ونتيجة التعبئة الأيديولوجية الإيرانية والتي تستهدف بشكل مباشر الشارع العربي، سواء عبر استقطاب نخبه مالياً أو فكرياً أو مذهبياً.

ورغم كل التهديدات التي صدرت من كلا الطرفين تجاه بعضهما البعض، فإنّ عملية الحشد العسكري لم يكن يُستهدَف منها إلا الاعتداءات على الدول العربية سواء من قبل إيران أو إسرائيل، وتكريس أوضاعهما القائمة، لذا يُعتبَر ما حصل في جنيف من اتفاق، مع ما يحصل في سورية، بداية تشكل محاور سياسية إقليمية جديدة تستهدف البيئة العربية.

سابعاً- الالتقاء في سورية:

شكلت سورية محوراً مصلحيّاً دولياً، يُمثِّل اكتسابها تثقيلاً لميزان المصلحة ومنه ميزان القوة للدولة المستحصلة عليها، فعلى المستوى الإقليمي، هي البعد التوسعيّ لسياسات إيران وتركيا، ومستوى انضباط قوتها هو المعادل للقوة الإسرائيلية؛ في حين شكلت محور التنافس الدولي، بين قوة قطبية تتراجع (الولايات المتحدة)، وأخرى تسعى للعودة إلى الساحة الدولية (روسيا)، لتجد كلتاهما، في الملف السوري، خط تماسٍّ يكاد يشابه خطوط الحرب الباردة.

أولاً، على المستوى الإيراني، تُمثِّل سورية بعداً استراتيجياً للتوسُّعية الإيرانية في المشرق العربي بعد العراق، في مرحلة من مراحل إنشاء قوة إقليمية تمتد من أواسط آسيا إلى سواحل شرق المتوسط، معتمدة على آليات عدة، تبرز منها في الحالة السورية، توظيفات الآلية الطائفية، كآلية تعبئة تخدم المجموع المصلحي، كما تشكِّل سورية بعداً إحيائياً للاقتصاد الإيراني المحاصر منذ عقود، عبر صفقات كُشِف البعض منها، وما زال البعض الآخر قيد الكتمان؛ كما ويُشكِّل الاستحواذ الإيراني على النظام السوري، وتوجيهه، آلية ضغط على الغرب في مؤتمرات التفاوض الدولي، حول نووية إيران.

ويعتمد هذا الفهم الإيراني، على مفهوم القوة الصلبة، عبر الآليات العسكرية في دعم نظام الأسد، إن كان دعماً سياسياً لعملياته العسكرية، أو مساهمة استشارية عسكرية، أو إمداداً عسكرياً، أو مساهمة مباشرة في العمليات العسكرية؛ حيث تمّ استدعاء هذا الفهم الإيراني من قبل نظام الأسد منذ الأيام الأولى للثورة السورية، نتيجة ارتباط مصلحي وسياسي يعود لعام 1979 –وأضيف إليه الارتباط العقائدي لاحقاً-.

ثانياً، على المستوى الإسرائيلي، شكّل نظام الأسد منذ عام 1973، حالة استقرار أمني وعسكري على جبهة الجولان السوري المحتل، أتاحت للقوة الإسرائيلية أن تتفرّغ لملفات عسكرية أخرى، سواء داخل فلسطين المحتلة، أو ضمن الحالة التوسُّعية في لبنان منذ عام 1982؛ صحيح أنّ الدولتين تواجهتا في لبنان، لكن كان تواجهاً تنافسياً في السيطرة الاحتلالية عليه، فكلاهما أسهم في ارتكاب مجازر بحق الشعب اللبناني (المحتل سورياً وإسرائيلياً)؛ ومن ذلك فالأسد كان منافساً وشريكاً لإسرائيل في لبنان، اعتمد على آلية “المقاومة” في إخراج منافسه لإحكام سيطرته، لكنّه أخرج ذاته منه باغتيال الحريري؛ لكن آلية المقاومة هذه ما كانت لتُشكِّل خطراً استراتيجياً حقيقياً على وجود الكيان الإسرائيلي بحدّ ذاته، ففيما كانت تشتدّ المنافسة على المكسب اللبناني، كانت جبهة الجولان السوري المحتل، مضبوطة أمنياً بالجيش السوري، دون أيّة اتفاقيات كالتي سطرها السادات.

فانفلات الضبط الأسدي لحالة “المقاومة” في لبنان من جهة، وللحدود مع الجولان السوري المحتل من جهة ثانية، عبر إسقاطه، أو تآكل قدرته الضبطية السلطوية، قد يدفع إلى إعادة إشعال جبهة آمنة منذ عقود أربعة، وإلى انبثاق فصائل مقاوماتية جديدة خارج السيطرة الإيرانية، قد تدفع بالكيان الإسرائيلي إلى تكثيف عملية عسكرية جوية على كامل لبنان، تعيد حالة من الذعر في شمال فلسطين المحتلة.
فاستمرارية الأسد، وكما صرح أحد رجالاته (رامي مخلوف)، تمثِّل الضامن الرئيس لأمن إسرائيل في المشرق العربي، وإسقاط الأسد، هو فتح الباب لمنح مزيد من القوة لمنافس إقليمي جديد، أو نشوء قوة سورية ذاتية (قد تكون إسلامية دون أن يُشترَط ذلك)، تعمد إلى أولوية استعادة الجولان السوري المحتل.

ومع إدراك الفهم الإسرائيلي لاحتمالية إسقاط الأسد، فإنّ إشغال القوة الذاتية السورية تلك بقضايا دون الجولان السوري المحتل، يبدو الأهمّ لديها، لناحية دعم توجّهات تدمير كامل قدرات سورية، ودعم توجهات انفصالية لجهات بعينها، إشغالاً للداخل السوري في ملفات قد تستغرق عقوداً، بعيداً عن طرح المواجهة من جديد.

من ذلك يأتي ما أكدته صحيفة “طرف” التركية، أنّ ‏المبعوث الخاص لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى أنقرة دافيد ميدان، حذر رئيس جهاز المخابرات التركي هاكان فيدان خلال اجتماعهما الأخير في العاصمة التركية، من النتائج المحتملة والتي قد تترتب عن أي عمل عسكري محتمل ضد سورية؛ ونقلت الإذاعة الإسرائيلية عن الصحيفة القول: “المبعوث الخاص لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى أنقرة دافيد ميدان أكد أنّ سورية تمتلك أكبر مخزون من الأسلحة الكيماوية في العالم، ولديها عدد كبير من الصواريخ متوسطة وبعيدة المدى الروسية والصينية، ولها القدرة على ضرب مناطق جنوبي وجنوب شرقي تركيا، وقد تكون لدى بعض من هذه الصواريخ القدرة على ضرب أنقرة (13)”.

كما أنّ نشوء دولة ديمقراطية في المشرق العربي (سورية)، قد يشكِّل تهديداً ديمقراطياً لمحيط يشهد تنازعات طائفية ودكتاتورية، إذ قد تُشكِّل سورية الديمقراطية المستقرة، مركز استقطاب حينها للقوى التحررية الجديدة، مما قد ينعكس على جغرافية المنطقة إضافة إلى تاريخها المقبل (14).

ومن ذلك، تظهر مصلحة الطرفين الإسرائيلي والإيراني في الحفاظ على نظام الأسد القائم، وتوفير الدعم (العسكري المباشر من إيران، والغطاء الدولي من إسرائيل)؛ وفي حال تعثُّر استمراريته، فإنّ من مصلحة كلا الطرفين إعادة تقسيم سورية إلى دويلات ضمن مشروع تقسيم المشرق العربي ككل (15).

وعندما تحدّث الأمين العام لحزب الله عن تصاعد “مخاطر” التقسيم في المنطقة، لم يكن يُحذّر ممّا يرفضه، وإنّما كان يبلّغ من يعنيهم الأمر بأنّ إيران باتت جاهزةً لقبول مثل هذا الاحتمال، في سورية وحتى في العراق، بعدما أبدت سابقاً رفضاً مبدئياً له، حتى لو كان له أن يحصل في إطار الفيدرالية؛ هناك خيار واحد مقبول بالنسبة إلى إيران، وهو البقاء في سورية، أكان ذلك عبر سيطرة كاملة للنظام على كل سورية مهما بلغت الكلفة الدموية، أو عبر سيطرته على جزء من سورية؛ فالحرب الدائرة حالياً هي، عند إيران، حرب شيعية-سنيّة أصبح لها امتداد عراقي، وإذا اقتضت المصلحة يمكن أن يكون لها امتداد لبناني، بل تركي. وبالتالي لم يبقَ لإيران من هذا النظام السوري سوى بُعدِه المذهبي (16).

في المقابل، ليس صدفة أنّ الجماعات الغربية التي طلب منها بعض أطراف عائلة الأسد، دراسة سيناريوهات إقامة الدولة العلوية، يوجد في مجالس إداراتها يهود قريبون من إسرائيل؛ وليس صدفة أن يُنقل عن هذه الجماعات أنّ تلك “الدولة” يمكن أن تعيش فقط بتوافق إيران وإسرائيل على ضمانها، حمايةً واستثماراً وتسويقاً دولياً؛ فمثل هذا التوافق، غير المستبعد، يمكن أن يستدرج ضماناً روسياً-أميركياً ويسهّله؛ فيما كانت دراسات كثيرة قد أشارت إلى أنّ تفتيت المنطقة إلى دويلاتٍ من الطموحات والمشاريع التي لا تغيب عن التخطيط الإسرائيلي؛ والآن أصبحت إيران تتقرَّب من هذه الاستراتيجية طالما أنها تلبي متطلبات نفوذها (17).

وتزداد احتمالية هذا الطرح، بعد المغامرة الروسية في أوكرانيا، ودفع إقليم القرم الأقلوي إلى الانفصال، في مرحلة جديدة من التنازع الدولي في شرق أوروبا؛ بل إنّ الولايات المتحدة قد تجد في الفعل الروسي مبرراً لفعل مشابه في سورية، عبر الدفع لتغيير توازنات القوى، باتجاه الاستحصال على “دويلات” جديدة في المشرق العربي، وبالأخص في سورية.

خاتمة:

وفي خاتمة هذا البحث، لابدّ من إعادة التنويه إلى فكرة رئيسة وردت في القسم الأول منه، وهي أنّه لم تتمظهر إشكالية العداء الإيديولوجي ما بين إسرائيل وإيران، على شكل مجريات واقعية، كما يروّج له أصحابه، فالعدو المستهدف في كلتا الحالتين لم يتجاوز المجال العربي؛ وخاصة أنّ لا إشكالية حدوديّة قائمة بين الطرفين، كما في الحالة العربية، فالطرفان بعيدان جغرافياً ولا مناطق تماسّ بينهما، كما في حالة الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية.

كما لم تشكّل إسرائيل عائقاً نهضوياً-فلسفياً في الفكر الفارسي، كالذي شكّلته في الحالة العربية المشرقية، ولا يجد العداء الأيديولوجي قاعدة تاريخية يشتغل عليها، وخاصة أنّ للفرس دور مهم في عملية “تحرير” اليهود من الأسر البابلي، وإعادتهم إلى فلسطين، ومساندتهم في إنشاء أولى المستوطنات التاريخية لهم فيها، سعياً من الفرس لتقويض خصومهم في الممالك السورية والعراقية آنذاك.

وتبقى العلاقات الإيرانية-الإسرائيلية، علاقات تبادل مصالح في البيئة العربية، وما التهديدات غير المقترنة بأفعال، سوى محاولة إشغال وتغلغل داخل الرأي العام العربي لاكتسابه واستقطابه.

مراجع القسم الثاني:

(1) “صفقة أسلحة سرية بين إيران وإسرائيل”، صحيفة وطن الإلكترونية، 18/2/2014: https://www.watanserb.com/2014021810265/

(2) “تقرير يكشف حجم العلاقات التجارية بين إيران وإسرائيل خلال العقدين الأخيرين”، صحيفة البحرين نيوز، 2/3/2014: http://www.albahrainnews.com/news/mysteries/

(3) إبراهيم محمد باداود، “العلاقة السرية بين إيران وإسرائيل”، صحيفة الجزيرة السعودية، 29/9/2012، العدد 14611.

(4) “تقرير يكشف حجم العلاقات التجارية بين إيران وإسرائيل خلال العقدين الأخيرين”، مرجع سابق.

(5) المرجع السابق.

(6)المرجع السابق.

(7) المرجع السابق.

(8)المرجع السابق.

(9) “إيران وإسرائيل تجددان الشراكة في مشروع فيزيائي ـ نووي في الأردن”، 29/11/2013: http://arabic.arabianbusiness.com/business/energy/2013/nov/29/348173/#.UxwcY_l_v_g

(10) فهمي هويدي، “هل يفاجئنا تفاهم إيران وإسرائيل في العام الجديد؟”، الجزيرة نت، 17/12/2013: http://www.aljazeera.net/opinions/pages/e2a05a20-3d5f-4e34-88cc-16b589d0fade

(11) المرجع السابق.

(12) المرجع السابق.

(13) “إسرائيل تحذر تركيا من نتائج أي عمل عسكري ضد سورية”، 28/3/2014: http://assawsana.com/portal/pages.php?newsid=171955

(14) للمزيد حول ذلك، انظر: عبد القادر نعناع، “تقاطع المصالح الإقليمية في سوريا”، الشبكة العربية العالمية، 22/2/2013: http://www.globalarabnetwork.com/politics/51-syria-politics/9627-2013-02-22-11-41-12

(15) للاطلاع على التهديدات الانفصالية والتقسيمية للمشرق العربي، انظر: عبد القادر نعناع، “التحولات الجغرافية في المشرق العربي”، الشبكة العربية العالمية، 1/3/2013: http://www.globalarabnetwork.com/studies/9703-2013-03-01-11-40-50

(16) عبد الوهاب بدر خان، “تقسيم سورية: هدف يجمع إيران وإسرائيل”، صحيفة الحياة، 30/1/2013: http://alhayat.com/OpinionsDetails/477851

(17) المرجع السابق.

Exit mobile version