هرم المنافع العربي المأزوم كتب ابراهيم ربايعة

تقول احدى نظريات العلاقات الدولية، ان اتساع قاعدة اختيار النخبة الحاكمة، ينعكس بالضرورة على سلوكها، التي ستضطر لتوزيع المنافع والخدمات العامة، وتحارب من اجلها تحت قباب البرلمانات وعلى طاولة اجتماعات الحكومات الاسبوعية، ليتحول هذا السلوك الى ثقافة تترسخ اكثر واكثر مع كل دورة انتخابية وعلى كل المستويات سواء كانت رئاسية او برلمانية او محلية.

هذه الصورة الزاهية ليست بالضرورة انعكاس كامل للواقع حتى في الدول ذات الديمقراطيات العميقة، تظاهرات هنا وفساد هناك، لكن القانون يبقى ناظم وحام للقنوات الواصلة بين الناخب وصانع القرار.

ومنذ سنوات الاستقلال الأولى، لم ينعم الوطن العربي بعمومه بفرص لممارسة الخيار الديمقراطي بشكل دوري، فكل بادرة ديمقراطية واعدة كانت تجد الانقلاب أو الحرب الأهلية أو الحروب الاقليمية لتنهي فرصها بالاستمرار والديمومة. اما الديمقراطية “التجميلية” التي سادت طيلة العقود الماضية من خلال انتخابات شكلية على مستوى الرئاسة، ومقننة على مستوى مجالس النواب ذات الصلاحيات المحدودة والسقف المنخفض.

النتيجة كانت تماما كما في النظريات، تقاسم المنافع الخاصة وارضاء النخبة الحاكمة الضيقة على حساب المواطن والشارع الذي لم يكن هنا له اي دور انتخابي حقيقي، بل كان يعبر عن رأيه باختيار ضيق من قوائم ضيقة على قواعد مناطقية او فئوية ضيقة، وتحت مظلة الحزب الواحد بشكل عام. لكن الأدهى ان الموارد المتاحة لم تعد تكفي للنخبة الحاكمة، فتقلصت حصصها وتناثرت ارباحها، فكان لا بد من اتخاذ واحد من خيارين: اما الذهاب نحو الديمقراطية لتوزيع الموارد على المنافع العامة، وهو خيار يصبح أقل تكلفة من الناحية العملية لرأس هرم الدولة، أو اعادة تشكيل هذه النخبة من قبل الطرف الأقوى، والذي كان بالعديد من الحالات العربية.. الجيش.

عندما قاد الجيش انقلابات آسيوية، جاء بأنظمة استثنائية مارست “العدالة السلطوية”، لكن الحال لم يكن كذلك عربيا، لكن وبكل الأحوال عادت الكرة لنقطة البداية مع موجة الربيع العربي وما رافقه من ارهاصات في الدول التي تأثرت بشكل مباشر أو غير مباشر من هذا المد. وبعد حوالي أربع سنوات لا تزال المنفعة الخاصة هي السائدة، ولا يزال اختيار النخبة الحاكمة محصورا بالنخبة نفسها، الوجوه قد تكون تغيرت لكن النهج اصبح اكثر ترسخا وانغراسا بأجساد الشعوب.

لا تزال الدول العربية بمجملها تقبع بمواقع اقتصادية واجتماعية متأخرة، فمعدلات البطالة تصل في ليبيا لحوالي 33% والعراق 27% وجيبوتي 50%. اما نسب الدين العام الاجمالي في العالم العربي فتتجاوز 36% من الدخل المحلي الاجمالي، فيما تصنف سبع من الدول العربية على أنها “فاشلة”، وتتأخر 9 دول على سلم تصنيف التنمية البشرية الى ما دون المتوسط، وتنحدر 6 دول عربية الى قائمة الدول العشرين الأكثر فسادا بالعالم، كما تخلو قائمة الجامعات المائة الأولى عالميا من أية جامعة عربية.

هذه المؤشرات محبطة ان رافقها الحديث عن 18 مليار دولار انفقت على التسلح خلال العام الماضي، وينفق الوطن العربي نصف ما تنفق اسرائيل على البحث العلمي غير العسكري، بمعنى ان الدول العربية تنفق حوالي 0.2% من دخلها القومي على البحث العلمي، علما ان دخلها مجتمعة يزيد عن التريليون دولار ترد بشكل أساسي من عائدات مبيعات النفط والغاز، كما سجل الوطن العربي مجتمعا اقل من 900 براءة اختراع، بينما سجلت اسرائيل أكثر من 16 ألف اختراع.

فشلت التجارب العربية تنمويا، ولم تنجح بطرح نموذج قابل للاستنساخ، وبقيت الغلبة للقوة العسكرية، فالمؤسسة الأقوى في البلاد لم تكن يوماً الجامعة او مركز البحث العلمي، بل هي الجيش وجهاز المخابرات وحتى اجهزة الأمن الداخلي، والهاجس دوما “المؤامرات” الداخلية والخارجية.

لم تتمكن الدول العربية من انتاج نموذج المستبد المستنير الآسيوي، ولم يستطع رجال الجيش الذين وصلوا الى سدة الحكم في العديد من الدول التعامل مع التركيبة القبلية او الطائفية او العرقية في هذه الدول، بل على العكس تماما، لعب العديد منهم على هذا الوتر لترسيخ الحكم من خلال الانتصار لفئات على حساب فئات عبر تعزيز المنافع الخاصة لهذه للقبيلة او الطائفة، بعيدا عن تعميم المنفعة والفائدة.

قد لا يكون المخرج من هذه الازمة، الا بقيادة تمتلك الرؤيا التنموية الصارمة، المرتبطة بالإرادة السياسية القوية، ما سيقود لدولة نقية من الفساد متينة الاركان تنتصر للمنافع العامة الجامعة التي لا تفرق بين ابناء الشعب الواحد، كما ان الإرادة السياسية مفتاح التغيير والتطوير وضرب مراكز القوى التقليدية المنتفعة للصالح العام، ليس بالضرورة ان يكون نظاما ديمقراطيا لكن من المهم ان يمتلك عقلية التهيئة الديمقراطية، ترسيخ الثقافة والتربية وتهيئة الشارع للممارسة الديمقراطية الجامعة، فهل هذا ما يلوح بالأفق عربياً؟ ام ان الواقع لا يوحي الا بمزيد من الاحباط؟ لعل القاهرة تحمل الاجابات التي ننتظر من خلال توجهات القيادة ونتاج ما تزرع من خطط على مختلف المستويات، فهي القادرة الآن على تطبيق هذا النموذج ان ارادت، السنوات المقبلة ستجيبنا.

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

فتح ميديا أوروبا
Exit mobile version