المكتب الإعلامي الفلسطيني في أوروبا

«النهضة التونسية» دمقرطة إسلامية جديدة؟ – د. خالد الحروب

الإعلانات المتواترة من قبل قادة حركة النهضة التونسية إزاء مغادرتها مربع الإسلام السياسي ودخول مربعات “الدمقرطة المسلمة” ملفتة وتتسم بأهمية مميزة، وتُرصد كأحد أهم الانعطافات في مسيرة الإسلام السياسي منذ تأسيسه. سُجل دوماً لـ “النهضة” ولقادتها، راشد الغنوشي وعبد الفتاح مورو وحمادي الجبالي وغيرهم، بكونهم كانوا الأكثر استنارة في دوائر الإسلاميين، وتقديماً للأفكار الأكثر جرأة من داخل الحركات الإسلاموية. هناك مثقفون ومفكرون من خارج إطار تلك الحركات قدموا وربما ما زالوا يقدمون أفكاراً أشد جرأة، لكنها تختلف عن جرأة من يقود حزباً أو حركة عند تقديم أفكار ترافقها خطورة خسارة الموقع او التسبب في الانقسام او الاتهام بالتخلي عن المبادئ وهكذا. ينضاف إلى هذه الأهمية تضاعف احتمالات التأثير للأفكار الجديدة، وإمكانية ان تغير في مسار جماعات وحركات برمتها وهذا هو المهم، كون الأفكار تصدر من “الداخل” وليست “مستوردة” من منظرين لا يرتبطون بالعمل الحركي.
في مسألة علاقة الإسلاميين بالديمقراطية كانت النهضة والغنوشي تحديداً في أوائل التسعينيات من القرن الماضي هو أول إسلاميين يقبلون بما تأتي به الديمقراطية مهما كان، حتى لو كانت النتيجة فوز حزب شيوعي. وبقي الغنوشي على رأيه ذاك حتى اليوم، مشدداً على أن فشل الإسلاميين في اي انتخابات معناه ان الشعب لا يريدهم أو أنهم فشلوا في الوصول إليه، وأن عليهم هم إعادة النظر في برامجهم وطرائق وصولهم للناس. اقتربت النهضة أكثر ما يمكن من الجوهر الديمقراطي (الهابرماسي، قد نقول) حين وثقت بخيار الشعب وأعلنت قبولها غير المشروط به. قطعت الأفكار تلك، والتي لم تتبنّها الحركات الإسلامية الأُخرى حتى تلك شاركت في عمليات ديمقراطية هنا أو هناك، مع التحفظات التقليدية للإسلاميين على المسألة الديمقراطية و”خطرها المحتمل” حيث تزاحم فكرة “الحاكمية لله”، وهي التهويم المدمر الذي جاء به أبو الأعلى المودودي في الهند لرفض حكم الأغلبية الهندوسية إبان الاستقلال، وتحمس لها سيد قطب وأعاد إنتاجها برطانة عربية بالغة الأثر والتأثير ـ والتدمير!
انعكس فكر وممارسة النهضة المختلفة بشكل ملفت عن فكر وممارسة بقية فروع الإخوان المسلمين في طرائق التعامل مع مخرجات الربيع العربي، وقدمت النهضة مقاربة وتجربة مختلفة تماماً عن تلك التي قدمها الإخوان المصريون. فإن اتصف هؤلاء الأخيرون بضعف التسيس والتحوصل على الذات وطغيان نزعة الاستئثار بالسلطة خلال عام حكم مرسي، فإن النهضة تنازلت عن الأغلبية مقابل تجنيب تونس بأسرها احتمال الانزلاق إلى حالة عنفية شبية بالحالة المصرية، واختارت سياسة الائتلاف والجبهات مع الجميع ـ المشاركة لا المغالبة. سُجل ويُسجل للنهضة تلك السياسة ولا يستطيع حتى ألد خصومها إنكار ذلك.
في هذا الشهر نقلت تقارير صحافية نص رسالة وجهها الغنوشي إلى قادة التنظيم الدولي للإخوان المسلمين يبتعد فيه بخطوات عن التنظيم وفكر الإخوان ويحملهم مسؤولية تبني سياسات غير مدروسة تستخف بالدول والشعوب وقادت إلى دمار (مُشيراً إلى مصر وسورية). ويؤكد فيها على أولوية “الوطني” على “الأممي” في نظرته وفكره، وبأن تونس تأتي أولاً وتتقدم على اي ولاء إسلامي عابر للحدود، وهو ولاء لا يجلب على البلاد إلا الدمار والإرهاب. في الرسالة يقول الغنوشي أيضاً إن لحظة الافتراق مع الإخوان تقترب بشكل سريع، ونفهم منها انتقاده الشديد لنظرتهم الاستخفافية بفكرة الدولة والوطن وتقديمهم الشعار الأممي. ولربما قُصد من تسريب الرسالة تهيئة المزاج العام، التنظيمي النهضوي في تونس، وكذا الإسلاموي العام، للتحولات القادمة في أفكار “النهضة” وقائدها. إضافة إلى الشهادة الداخلية التي يقدمها الغنوشي حول تكلس فكر جماعة الإخوان وارتطامه بجدار صلد، فإن الخلاصة التي ينتهي إليها في الرسالة كما في الإعلانات اللاحقة لتلك الرسالة هي وبشكل مبتسر ومباشر “تونس أولاً” قولاً وفعلاً، وإعادة تشكيل فكر وسياسة وأيديولوجية حركته بناء على هذا المنظور الجديد.
ما زلنا في طور استكناه المضامين التفصيلية للإعلان “النهضوي” وما يترتب عليها سياسياً وفكرياً في تونس وخارجها، وكيف سينعكس على طبيعة صوغ العلاقات مع الأطراف الوطنية الأُخرى في تونس، وصوغ الأفراد والقواعد التنظيمية الإسلاموية التابعة للحركة ذاتها. لكن بالإمكان تسجيل بعض الملاحظات الأولية، بانتظار انجلاء المشهد الفكري والتنظيمي النهضوي والإخواني كذلك. أولها ان هذا الإعلان الواضح والصارم في تقديم الوطني الديمقراطي على الإسلاموي الأممي يمكن اعتباره “الترسيم الدستوري الإسلاموي” لما هو قائم فعلا على الأرض وتطور خلال سنوات طويلة من إعادة التأقلم والتقولب مع السياقات المحلية والوطنية. ذلك ان الاحتكاك والتوتر بين ما هو وطني، قومي، منحصر ومشغول أولوياً بما هو داخل الحدود الوطنية، وما هو أممي، عالمي، متجاوز للحدود الوطنية ومشغول أولوياً بما وراءها، هو سمة الأديولوجيات العابرة للحدود دوما: من الأديان المتسيسة، إلى أيديولوجيات التوحد القومي والقسري، وصولاً الى الشيوعية بتنويعاتها المختلفة.
في كل ايديولوجية عابرة للحدود هناك مركز مُسيطر (مصر في حالة أيديولوجيا الإخوان المسلمين، كما كانت موسكو في الحقبة الشيوعية مثلاً)، وهناك أطراف تابعة له وتأتمر بأمره. مصالح ورؤية وسياسة المركز تتفارق مع مصالح ورؤى وسياسات الأطراف لأنها تقدر ذلك تبعاً لاستجابات واقعها لا اشتراطات أيديولوجية المركز. وهكذا هي القصة المكرورة في كل أيديولوجيا سياسية أممية تحاول عمل المستحيل كي تنطبق الدائرة الأممية على الدائرة الوطنية من دون أن تحقق النجاح الكامل أو شبه النجاح على الأقل. الأيديولوجيات التي حققت نجاحات اكثر من غيرها هي تلك التي قبلت بتداخل الدوائر ولم تشترط انطباقها، وأظهرت مرونة اكبر في احترام وتقدير مصالح وسياسات الدائرة الوطنية، او دائرة الدولة الوطنية، وقبلت تقديمها على الدائرة الأممية.
أما الأيديولوجيات الفاشلة فهي تلك التي تحجرت حول أفكارها الطوباوية وقدمتها على دوائر الأوطان والشعوب، فظلت تهيم في الهواء منقطعة عن الواقع، وداست على دائرة الوطن وأرادت إخضاعها للفكرة الأممية الكبرى. في هذه الحالات كلها، وما تخبرنا شواهد التاريخ الحديث، ظلت دائرة الدولة الوطنية تتفلت من تحت وطأة الدائرة الأيديولوجية الأكبر المفروضة عليها، حتى حققت الانفلات الكامل. في التاريخ الحركي الإخواني حدث هذا مع الإخوان السودانيين في منتصف ثمانينيات القرن الماضي عندما ثاروا على مركزية وأممية “التنظيم الدولي للإخوان المسلمين” وعدم إيلائه الظروف المحلية والوطنية للفروع المختلفة الأهمية والأولوية المطلوبة. انشق إخوان السودان بجزئهم الأعرض يقودهم حسن الترابي آنذاك، ولم يعودوا ينتظرون أوامر وتوجيهات مكتب الإرشاد، قيادة الإخوان العليا. منذ ذلك التاريخ وحتى لحظة الإنشاق الأهم الثانية، وهذه المرة بقيادة راشد الغنوشي، والإخوان المسلمون لم يتعلموا الدرس، وظلت مقارباتهم لفكرة الوطنية او الدولة الامة مرتبكة وغامضة، وأهدافهم الكلية تدور حول نفسها وتتكلس وتفترق عن الواقع. انخرطوا في الربيع العربي بعتاد فكري وسياسي هزيل لم يستطع ان يتعامل مع عمق التحول ولا التقاط أبعاده التاريخية ولا الدور الذي يُفترض ان تلعبه الأحزاب الكبرى إزاء استيعاب الحراك التاريخي والانخراط في جبهوية عريضة تكرسه وترسخه. في قلب عاصفة التحول العاتية وضع الإخوان انفسهم كمروحة صغيرة وقديمة تريد ان تغير من اتجاه تلك العاصفة. عصفت بهم العاصفة طبعا والقت بمروحتهم خارجها تماماً. ما تلتقطه حركة النهضة التونسية وراشدها هو ضرورة البقاء في قلب العاصفة والانقياد لها، وعدم التصدي لاتجاهها وجهاً لوجه وهي في لحظة فورانها العاتي.
الملاحظة الأولية الأُخرى التي يمكن إيرادها هنا متعلقة بتأسيس منظور جديد للشرعية السياسية في العقل الإسلاموي الحركي، فهذا العقل الذي خضع لتشوهات عميقة بسبب الأفكار القطبية التي تحكمت به طيلة نصف قرن او اكثر حول الحاكمية والجاهلية، ظلت رؤاه السياسية تدور حول نفسها في المنطقة الرمادية بين “الشرعية التقليدية” و”شرعية القيادة الكاريزمية”، بحسب تعريفات ماكس فيبر، مقارناً إياها بالشرعية السياسية الحداثية والاهم وهي “الشرعية القانونية”. الشرعية التقليدية هي إعادة انتاج للموروث الديني او القبلي أو العائلي، والكاريزمية هي انتظار بزوغ القائد الملهم (صلاح دين جديد مثلاً …) والذي يوحد ويصوب ويحقق النصر. هل لنا أن نقول ونتوقع انتقالاً حاسماً في فكر وسياسة النهضة من تلك المنطقة الرمادية المهجوسة بالموروث او المتعلقة بقدوم قائد فذ لا يأتي إلى دائرة التبني الكامل للشرعية القانونية، القائمة على التسيس الحديث والديمقراطية غير المُقيدة والانتخابات المطلقة وما تأتي به؟
khaled.hroub@yahoo.com

Exit mobile version