المكتب الإعلامي الفلسطيني في أوروبا

كتاب: العميل البارز روبرت آيمس: صادق منظمة التحرير الفلسطينية، واغتيل في بيروت

هناك في العادة حدود للغرائب والمفاجآت في عالم السياسة والاستخبارات، ولكن من الصعب اقناع القارىء العادي بأن أحد كبار المسؤولين الأمريكيين عن استخبارات بلاده في لبنان والشرق الأوسط، والذي كان أحد ضحايا تفجير السفارة الأمريكية في بيروت عام 1983، كان أيضا صديقًا حميمًا لقائد فرقة الـ 17 في منظمة (فتح) الذي سقط بدوره ضحية عملية اغتيال في الشهر الأول من عام 1979.
هذا بعض ما ورد من الوقائع الهامة الموثقة وشبه المؤكدة في كتاب «الجاسوس الطيب» عن حياة وموت روبرت آيمس المسؤول الأمريكي الذي لقب بـ «رجل وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية في الشرق الأوسط» وكبير اختصاصيي الأمن والاستخبارات في عهد الرئيس رونالد ريغان ووزير خارجيته جورج شولتز، اللذين كانا يستشيرانه يوميًا حول قضايا المنطقة وحول اتفاقية السلام مع اسرائيل التي يقال انه وضع خطوطها الأساسية. هذا الرجل الذي انشأ علاقة وثيقة بقائد الفرقة الأمنية الأقوى لمكافحة الجاسوسية ضد «منظمة التحرير الفلسطينية» علي حسن سلامة (كان لقبه الأمير الأحمر) الذي اعتبر كثيرون انه سيكون خليفة الرئيس ياسر عرفات في قيادة فتح ومنظمة التحرير بسبب ماضي عائلته المشرّف في مقاومة الاسرائيليين، وحنكته وقدرته الفائقة على اتخاذ القرارات الحاسمة.
مؤلف الكتاب كاي بيرد حصل على جوائز عديدة بينها جائزة «بوليتزر» الأمريكية العريقة. وكتابه صدر مؤخرا عن دار كراون للنشر في نيويورك. علما ان لديه مؤلفات أخرى بارزة. عاش بيرد في بيروت عندما كان في الثانية عشرة من عمره مع عائلة والده الذي عمل في وزارة الخارجية الأمريكية، وكان روبرت آيمس جاره وعرفه شخصيًأ.
لقد قابل بيرد عددًا كبيرًا من الذين عملوا مع روبرت آيمس، قبل موته، بالإضافة الى اجرائه مقابلات مع المقربين شخصيًا اليه وخصوصا زوجته وابناءه وبناته علما ان آيمس كان شديد التعلق بعائلته، وبالقيم الأخلاقية الإنسانية التي اوصلته الى التصميم للعثور على حل عادل للقضية الفلسطينية من خلال منصبه واتصالاته. وبالتالي، وثَقَ به علي حسن سلامة وتحول آيمس وصديقه اللبناني مصطفى زين، الى ثلاثية أصدقاء يفتحون قلوبهم لبعضهم، وفي الوقت عينه يقومون بمهماتهم في جمع المعلومات واتخاذ القرارات.
ويشير مؤلف الكتاب ان مصطفى زين الذي اكتسب ثقة علي حسن سلامة وآيمس كان المصدر الأساسي في الجانب اللبناني- العربي لمعلوماته في الكتاب.
واحتراما لبعضهم الآخر في هذا المثلث فانهم رفضوا اعتبار ان هذه العلاقة هي علاقة مخبرين من جانب الى آخر، وكان آيمس يغضب عندما يحاول أحد معاونيه أو المشرفين على عمله دفعه الى ضرورة التعاقد مع سلامة كمخبر، وكذلك الأمر مع زين. وبرغم ذلك، كان آيمس يحقق كل تمنيات سلامة كترتيب زيارة له ولزوجته الثانية، ملكة جمال لبنان السابقة جورجينا رزق، الى أمريكا، والاشراف على ترتيب دعوة الرئيس ياسر عرفات (برفقة سلامة) الى الهيئة العمومية للأمم المتحدة عام 1974 حيث خطب عرفات عن البندقية وغصن الزيتون، في كل يد، وعن استعداده لاعتماد الخيار السلمي إذا أُعطي الفلسطينيون حقوقهم.
وفي احدى مراحل الكتاب أشار الكاتب الى ان كل جهة في هذه العلاقة كانت تعتبر انها تحاول اقناع الجهة الأخرى باعتماد مواقفها من دون ان تعتبر أحدى هذه الجهات ان الأخرى هي عميلة لها مع ان رؤساء آيمس كانوا يحثونه على شراء سلامة وزين ماديًا وتحويلهم الى عملاء من دون ان يدركوا ان آيمس كان مقتنعا بعدالة القضية الفلسطينية وبانه احترم أصدقاءه بالفعل.
وهذا الأمر، حسب الكتاب، أغضب الاستخبارات الاسرائيلية وحلفاءها في الإدارة الأمريكية، وعلى رأسهم وزير الخارجية، في عهد الرئيس ريتشارد نيكسون، هنري كيسينغر، الذي كان مطلعًا لكونه وزير الخارجية على مبادرات آيمس محاولا في شتى المناسبات عرقلتها بطريقة أو بأخرى.
أما الرئيس ريتشارد نيكسون نفسه فكان منشغلاً بفضيحة (ووترغيت)، وبدلاً من ان يدعم مدير وكالة الاستخبارات الأمريكية ريتشارد هيلمز الذي كان مقربًا من آيمس، نقله ليصبح سفيرا لأمريكا في ايران، خوفًا من إطلاعه الكبير على تفاصيل هذه الفضيحة. وهذا الأمر أثر سلبا على عمل ونشاط آيمس ورجّح كفة كيسينغر الذي يمكن الاستنتاج انه لم يكن مرتاحا لما يقوم به آيمس من اتصالات مع علي حسن سلامة لسبب أو لآخر.
وفي مقدمة الكتاب يشير الكاتب ان اتصالات آيمس مع سلامة وضعت الأسس لحوار أمريكي- فلسطيني أغضب اسرائيل. وان اسرائيل خشيت تطور هذا الأمر فاتتها عملية ميونيخ عام 1972 التي قتل فيها رياضيون اسرائيليون وغيرت جهة التفاوض باتجاه المواجهة مع المنظمة، وربما أُلصق اتهام لعلي حسن سلامة بالضلوع فيها لانه شكل العامود الفقري للتفاوض مع أمريكا عن طريق روبرت آيمس- وفيما بعد تمت تصفيتهما في عمليات جرت في مراحل مختلفة، عبر جهات مختلفة، ولكن ربما كان الهدف واحد، وهو منع التوصل الى أي حل لقضية فلسطين عبر اتصالات أمريكية- فلسطينية على مستوى عالٍ واقصاء الشخصيات التي تقوم بهذه الاتصالات عبر عمليات ارهابية غير واضحة المنفذين وخلفياتهم.
ووصف أحد رفاق آيمس هذا الرجل بانه كان براغماتيا صلبا وليس عروبيًا عاطفيًا على شاكلة (لورانس العرب). بيد انه كان يضع نفسه في موقع الآخر. واستطاع بسبب ذلك الوصول الى الملوك والأمراء والقادة في الشرق الأوسط ورؤساء الجمهورية ووزراء الخارجيه وأرباب السياسة في الغرب والحصول على ثقتهم من دون أي تزلف لاحد. وبالإضافة الى ذلك حصل على ثقة القادة الثوريين على شاكلة سلامة وعبد الفتاح اسماعيل في اليمن وبعض القادة في ايران الثورة. وهو أتى من خلفية اجتماعية متواضعة. وكان مؤمنا بالله وبالعائلة.
ومما لا يمكن إغفاله في هذا العرض، تطرق الكاتب الى قضايا ما زالت حتى الآن غامضة الأسباب والنتائج، وبينها الأسباب التي أدت الى اختفاء الإمام موسى الصدر لدى زيارته الى ليبيا في 31 آب/اغسطس عام 1978، حيث مرت تفاصيل هذا الأمر على طاولة آيمس في منصبه الرفيع في الوكالة.
يؤكد الكاتب ان الإمام روح الله الخميني وجّه رسالة من العراق الى الرئيس ياسر عرفات بعد اسبوعين على اختفاء موسى الصدر لدى زيارته الى ليبيا، وعندها دخل آيمس على الخط لأن اختفاء الإمام الصدر قد يوتر الوضع في لبنان لاهميته بالنسبة الى الشيعة في المنطقة عموما، وخصوصا لبنان وايران، وحصل على معلومات. وحسب هذه المعلومات أجاب عرفات الخميني قائلا ان معمر القذافي قد نظم في ليبيا لقاء بين الإمام موسى الصدر وخصومه الشيعة حول مبدأ ولاية الفقيه في الفقه الشيعي وتدخل الائمة في السياسة ووُجهت الدعوة أيضا الى الإمام محمد بهشتي، الذي أدار مسجدًا في هامبورغ خلال وجوده في المنفى، ولكنه كان سلبيًا ازاء الصدر، ومع مبدأ تدخل رجال الدين في السياسة. وقد أراد القذافي ان يجلس الإمامان جنبا الى جانب يبحثان الموضوع ويتفقان باشراف القذافي. ولكن بهشتي تأخر عن الحضور مما أهان الصدر كما اتصل بالقذافي قائلا ان الصدر عميل غربي.
وعندما أُهين الصدر قرر المغادرة عن طريق مطار طرابلس الغرب وهناك تواجه كلاميًا مع أمنيي المطار فاوقفوه وبعد ذلك احتجز لأشهر عديدة.
وطلب ياسر عرفات شخصيًا من القذافي الافراج عن الصدر، ولكن كفة بهشتي رجحت في معاداته للصدر، حيث ان الخميني كان قد عاد الى طهران ووضع بهشتي في منصب حساس وخصوصا في مجال وضع دستور الجمهورية الإسلامية ودور رجال الدين فيها. واحتار القذافي ازاء هذا الأمر الى ان ابلغه بهشتي ان الصدر يشكل تهديدًا للخميني وتصرف القذافي استنادًا على هذه النصيحة، مما أغضب روبرت آيمس والإدارة الأمريكية والعالم أجمع حتى الساعة.
ومن الفصول الشديدة الأهمية في الكتاب الفصل الثالث عشر عن دور عماد مغنية في تفجير السفارة الأمريكية في بيروت عام 1983، ويعتبر المؤلف انه إذا كان لمغنية أي دور في هذه التفجيرات فقد كان هذا الدور ثانويًا لأن مغنية كان فقط في العشرين من عمره عندما حدثت، وكان قد انتقل لتوه من العمل مع منظمة (فتح) الى منظمة الجهاد الإسلامي التابعه لايران. ويستطرد الكتاب قائلا ان مشرفين ايرانيين وسوريين عبر تواصل بين ايران والسفير الايراني في سوريا وقياديين من «الحرس الثوري الايراني» نفذوا عملية تفجير السفارة الأمريكية في بيروت عام 1983، وعلى رأسهم الجنرال الايراني علي رضا أصغري الذي ارتد لاحقا وانتقل الى المعسكر الغربي عام 2007، ووفر للاستخبارات الأمريكية والاسرائيلية معلومات عن عماد مغنية أدت الى اغتياله عام 2008 في سوريا. علما ان أصغري استقطب مغنية الى مجموعته بعد ان تدرب خلال شبابه في منظمة (فتح) وكان أحد المسؤولين عن حماية علي حسن سلامة، وكان طوال حياته ثوريًا غير متأثر بالامور الدينية والأحقاد بين الطوائف.
وهكذا سقط في النهاية ابو حسن سلامة ثم روبرت آيمس وعماد مغنية وبقي قتلتهم من (الموساد) وفي طليعتهم الاسرائيلي مايك هاراري رئيس وحدة «كايساريرا» الذي نجح في تنظيم اغتيال سلامة، وبقي أيضا (في عهدة أمريكا) علي رضا أصغري، الذي قتل روبرت آيمس، وساهم في اغتيال عماد مغنية. واستمرت اسرائيل في الاستيلاء على الأراضي وتكثيف الاستيطان والتعدي على الرموز الدينية الإسلامية والمسيحية في القدس وفي قتل الفلسطينيين.
وما زالت، حسب المؤلف، الدعاوى مستمرة ضد من نفذوا هذه العمليات في لبنان، ولكن عائلات الضحايا لم تحصل على أي تعويض مادي حتى الساعة.
كتاب بيرد وثيقة تاريخية. وكما قال سيمور هيرش: «لم يعش روبرت آيمس طويلا ليحقق ما أراد بالفعل، سلام حقيقي في الشرق الأوسط… وأجهزة الاستخبارات الأمريكية ربما لا ترحب باشخاص مثله يتحلون بالحكمة والرؤية والنزاهة بعد الآن».
Kai Bird : The Good Spy: The Life and Death of Robert Ames.
Crown, New York 2014
448 pages

سمير ناصيف

Exit mobile version