الحلقة الاولى من كتاب فلسطيني بلاهوية للشهيد الراحل صلاح خلف (ابو اياد)

فلسطيني بلا هوية: صلاح خلف
الحلقة الاولى من كتاب فلسطيني بلاهوية للشهيد الراحل صلاح خلف (ابو اياد)
(1) بذور الحقد

سيظل يوم 13 أيار (مايو) محفورا في ذاكرتي إلى الأبد. ففي هذا اليوم وقبيل إعلان دولة إسرائيل بأربع وعشرين ساعة، فرت عائلتي من يافا لتلجأ إلى غزة، فقد كنا محاصرين: كانت القوات الصهيونية تسيطر على كافة الطرق المؤدي إلى الجنوب، ولم يكن لدينا من وسيلة أخرى للنجاة بأنفسنا إلا طريق البحر. وكان أن أقلعنا، والدي وأشقائي وشقيقاتي الأربعة وعديدون آخرون من عائلتنا، في ما يشبه أن يكون مركبا تحت وابل من القذائف التي كانت تطلقها المدفعية اليهودية المتمركزة في التجمعات المجاورة ولاسيما في تل أبيب.
ولقد سلك مئات الآلاف من الفلسطينيين طريق المنفى في ظروف مأساوية في الغالب، فأما أنا الذي لم أكن بلعت سن الخامسة عشر بعد، فإن الرحيل اتخذ بالنسبة إلي أبعاد يوم الحشر.
فقد أخذني مشهد تلك الحشود من الرجال والنساء والشيوخ والأطفال الرازحين تحت ثقل الحقائب أو الصرر، متجهين بشق الأنفس نحو أرصفة مساء يافا في عجيج كئيب، وكانت تتخلل صرخات البعض وندب وانتحاب البعض الآخر، انفجارات تصم الآذان.
ولم يكد المركب يرفع مراسيه، حتى سمعنا عويل امرأة، فقد لاحظت أن أحد أطفالها الأربعة لم يكن على المركب، وراح تطلب العودة إلى المرفأ للبحث عنه. إلا أنه كان من الصعب علينا، ونحن نتعرض لنيران المدافع اليهودية الغزيرة أن نعود أدراجنا فنعرض للخطر حياة ما بين مائتين وثلاثمائة شخص بينهم العديد من الأطفال المتراكمين في المركب. ولقد ذهبت توسلات تلك المرأة الباسلة سدى فانهارت باكية، وكنا بضعة أشخاص نحاول تهدئتها مؤكدين لها أنه سيتم إيواء ابنها الصغير بالتأكيد ثم يرسلونه في وقت لاحق إلى غزة. ولكن عبثا، إذ راح قنوطها يتزايد برغم مقالاتنا، وبرغم تطمينات زوجها. ثم إذا بأعصابها تخور فجأة: فتتخطى درابزين المركب وتلقي بنفسها في البحر. وأما زوجها الذي لم يفلح في الإمساك بها، فقد غاطس بدوره، ولم يكن أي منهما يحسن العوم فابتلعتهما الأمواج الهائجة أمام نواظرنا، وأما المسافرون الذين أخذهم الروح فكانوا كمن ضربه الشلل.
ولماذا غادرنا دورنا وأرزاقنا ورمينا بأنفسنا في مغامرة المنفى.. أني لم أكن ـ وأنا الذي يوقر السلطة الأبوية ـ لأطرح المسألة على نفسي في ذلك الحين حتى مجرد طرح. سيما وأني كنت مقتنعا، شأن ذوي، بأنه ليس أمامنا سبيل آخر للإفلات من الموت. فمجزرة دير ياسين وقعت قبيل ذلك بشهر، وزرعت الرعب في نفوس أبناء وطني. ففي 9 نيسان (أبريل) قامت حركة مناحيم بيغن، الأرغون في ليئومي (المنظمة العسكرية القومية) بمهاجمة هذه القرية الوادعة الواقعة غربي القدس وأبادت معظم سكانها: فقتل أكثر من 250 رجلا وامرأة وطفلا لا مدافع عنهم، أو ذبحوا أو دفنوا أحياء، ومثل بالعديد من الجثث بالسلاح الأبيض وبقرت بطون ثلاثين امرأة حاملا.
لم يكن لدينا أي سبب يدفعنا للشك بصدق المذبحة الهمجية التي سيؤكدها السيد جاك رينير، ممثل الصليب الأحمر الدولي، أثر استقصاء قام به شخصيا في دير ياسين، فبشاعة التفاصيل التي نقلها، تذكر بالفظاعات التي ارتكبها النازيون في أوروبا المحتلة.
كانت يافا كدير ياسين، تحت رحمة القوات الصهيونية التي تسيطر بالكامل على المنطقة الواقعة خلف تجمعنا. أما الغاغاناه وهي جيش الوكالة اليهودية «الرسمي» فكانت تنسق نشاطاتها تنسيقا وثيقا مع نشاطات «الخوارج» من أمثال مناحيم بغين. وشنت في أول نيسان (أبريل) 1948 هجوما حسب الأصول بغرض تصفية «الجيوب» العربية داخل الإقليم الذي رسم له أن يكون الدولة اليهودية. فكان يجرى تحذير الأهالي في كل مرة بأنهم سيلقون مصير دير ياسين إذا لم يخلوا الأمكنة.
ثم أن خبر الإبادة الجماعية اندلع اندلاع نار البارود في يافا، شأنه في بقية البلاد. لا بل أن وسائل الإعلام الصهيونية التي كانت تسعى إلى إرهاب العرب زادته إذكاء وتضخيما، وكذلك ـ والحق أحق أن يقال ـ فعل المحرضون الفلسطينيون الذين حسبوا أنهم يعبئون بذلك الأهالي، فكانوا على سبيل المثال، يؤكدون على اغتصاب النساء في دير ياسين من قبل المهاجمين الصهاينة قبل أن يدعوا الفلسطينيين إلى الدفاع عن أثمن ما لديهم، عنيت عن أعراض زوجاتهم وبناتهم. إلا أن إستراتيجيتهم هذه أثارت في أغلب الحالات تأثراً عكسياً في هذا المجتمع الذي كان لا يزال مجتمعاً تقليدياً للغاية، وعلى هذا فكثيراً ما كنت اسمع الناس تقول في وسطي «العرض قبل الأرض» وأن أول الأولويات هو أن تقي نسوتنا تمن اعتداء العسكر الصهيوني. وكان مما يجعل عزم غالبية سكان يافا ـ المئة ألف ـ على السعي وراء ضمان ملتجأ مؤقت أكثر تبريراً وتسويغاً، هو تمتع اليهود بتفوق عسكري ساحق. فقد كانوا بالتالي متقدمين على الفلسطينيين، ثم أن الخوف استولى على الأهالي حين أعلنت بريطانيا العظمى في نهاية عام 1947م، أنها تخلت عن الانتداب على فلسطين وأنها ستسحب قواتها منها 15 أيار 1948 فلم يبق في وسعنا الاعتماد على حماية الجيوش البريطانية حتى ولو كانت لحماية مشكوكاً فيها أصلاً. ثم استبد الرعب بيافا شرعت القوات الصهيونية، بعد مجزرة دير ياسين, بدك المدينة المستهدفة على نحو خاص المرفأ وأحياء الأعمال. وكان في حسبان الناس أن خنق المدينة اقتصادياً هو مقدمة لغزوها ومن ثم ارتكاب مذابح فظيعة بدون أدنى ريب.ولو قيل لي أبدان سني حادثني أن اليهود سيطردوننا ذات يوم من وطننا لكنت أول الناس استغراباً بكل استنكاراً، ذلك أنه كانت تصل أفراد عائلتي أفضل العلاقات باليهود، وكان لهم الكثير من الأصدقاء فيما بينهم. فجدا الشيخ عبد الله وهو رجل دين من غزة، ربي أطفاله بروح متسامحة، وقد تزوج أحد أبنائه من يهودية كما لم يكن من النادر أن اسمع من يفوقونني سنا يذكرون اتصال حبل الغرام أو انقطاعه بين هذا القريب أو ذاك من ذوي قرابتنا وبين فتاة يهودية.
كان والدي يتحدث العبرية التي تعلمها عبر ممارسته اليومية بطلاقة ففي عام 1920 غادر غزة التي تعاقب فيها عشرة أجيال من عائلته، ليقيم في حي بمواجهة البحر في يافا يدعى «الحمام المحروق» وإذ عمل بادئا كموظف في السجل العقاري، فإنه أتيح له أن يتألف مع الأهالي اليهود. وعندما استقال من الوظيفة العامة عام 1940 افتتح بقالة متواضعة في الكرمل، الحي المختلط القريب من تل أبيب، وكان الموردون له شأن زبائنه، يهودا في نصفهم، يقدرونه ويقيمون علاقات ممتازة معه. ووفقا للتقاليد في هذا الجزء من العالم فإن أهلي كانوا يتبادلون الزيارات الودية مع جيرانهم وأصدقائهم اليهود بمناسبة الأعياد الإسرائيلية والإسلامية.
وفي ساعة الغداء، ثم لدى مغادرة الصفوف الدراسية بعد الظهر، كنا، شقيقي عبد الله الذي يكبرني بثلاث سنوات وأنا، نذهب إلى محل البقالة لنتيح لوالدنا أن يرتاح بضع ساعات. وإنما تعلمت تدبر أمر نفسي باللغة العبرية عبر خدمة الزبائن اليهود. وبرغم أني كنت أرتاد مدرسة موقوفة على العرب هي مدرسة المروانية، فإني عقدت صداقات عديدة مع طلاب المؤسسات اليهودية الذين كنت أتحدث إليهم بالعبرية أو بالعربية بلا فرق، ولما كان أصدقائي في معظم مولودين في فلسطين أو متحدرين من عائلات تعود أصولها إلى البلدان العربية، وإلى اليمين بخاصة فقد كانوا يتكلمون لغتي بأفضل مما أتكلم أنا لغتهم. كانت أذواقنا هي أذواق الأطفال في سننا، ولا زلت أذكر بوضوح ألعابنا في ساحة تل أبيب ونزهاتنا الطويلة التي كنا نتحدث خلالها عن كل شيء إلا عن المشكلة التي لن تلبث أن تلقي بنا في معسكرين متناحرين. ولقد وعيت النزاع الصهيوني ـ العربي قبيل نهاية الحرب العالمية الأخيرة وأنا ذاهب ذات يوم لزيارة أقارب حميمين لي في العميل، وهي بلدة عربية تقع في منطقة تل أبيب، فعلى منعطف الطريق، شاهدت من بعيد شبابا على رابية يتدربون على استخدام السلاح، وحين انقضت صدمة الوهلة الأولى، لاحظت وأنا مأخوذ، صبيانا وبناتنا تتراوح أعمارهم بين 16 و25 سنة تقريبا. وهم يستجيبون لأوامر تعطى لهم بالعبرية، ويقومون بتمارين مختلفة بانضباط كامل، وكان في المشهد ما يقلق ويؤثر في الطفل ذي الأحد عشر عاما الذي كنته، إذ لماذا يستعد هؤلاء الأحداث اليهود للحرب..؟ ومن تراهم سيقاتلون…؟ وإلى أية تشكيلة ينتمون..؟ وأجابني أجحد أساتذة مدرستي «إلى الهاغاناه» وكانت تلك أول مرة أسمع فيها اسم جيش الوكالة اليهودية «الرسمي» والمرة الأولى أيضا التي أفهم فيها أننا ماضون نحو الصدام.
كان هناك منظمة فلسطينية شبه عسكرية قد ولدت حديثا في تلك الحقبة، لمقاومة الهاغاناه، وهي النجادة التي كان يقودها محمد الهواري والذي كان مدير مدرستي، رشاد الدباغ، أحد أعضائها المؤسسين فشجعني على الانتساب إلى فرع الأحداث أو «الأشبال» فيها. وهكذا، فقد بدأت مع بعض رفاقي حياتنا النضالية. كان بعض أساتذتنا يجهدون في تزويدنا بأعداد سياسي، فيحدثوننا عن تاريخ فلسطين وعن وعد بلفور وعن الاستيطان الصهيوني وعن الثورة الشعبية في سنوات 1936 ـ 1939 ويقولون لنا أن واجبنا هو أن نتابع الكفاح لكي تستقل فلسطين بنفس الطريقة التي استقلت بها بقية الدول العربية في المنطقة.
وبدأت الاهتمام بالمشاكل التي كانت تثير الرأي العام حينذاك أي بمطالبة الصهاينة بالحق في الهجرة غير المحدودة وبشرائهم الكثيف للأراضي العربية، وبدفق الأسلحة التي كانوا يتلقونها من الخارج بالتواطؤ الفعال أو السلبي من قبل السلطات البريطانية.
إلا أن انهيار قوات المحور، الذي سرعان ما أفضى إلى معاودة أثارة القضية الفلسطينية، وضع نهاية للصداقة الجميلة التي كانت تربطنا برفاقنا اليهود.
وقد استمرينا في التعاشر، سرا أحيانا، برغم النصائح التي كنا نتلقاها، نحن وهم، ممن يفوقوننا سنا، إلا أن نقاشاتنا المشبوبة كانت تتخذ شكل المناظرة العنيفة أحيانا.
وثمة حدث كان على قدر خاص من الصعوبة، ولا زلت أذكره جيدا، جرى لي في تشرين الأول (أكتوبر) 1945. فقد جرى تبادل كلام حاد بيننا وبين بعض من رفاقنا اليهود، وكنا نحوا من عشرين صبيا من كلا الجانبين ـ تحول إلى معركة مواجهة تقاتلنا خلالها بالحجارة. وإذا تثني الحادث، فإنني قررت في الغداة أن أزور عائلتي في العميل. كان أبي قد قدم لي عجلة فكنت سعيدا وفخورا باستخدامها لقطع الكيلومترات العشرة من الطريق. بينما كنت اجتاز تل أبيب لأبلغ العميل، إذ بأربعة أو خمسة صبيان أكبر مني بقليل، يسارعون بغتة إلى مطاردتي، وهم يتهاجون بصورة بادية ويصرخون بأعلى صوتهم «عربيت عربيت» (أي عربي بالعبرية) ثم لحقوا بي وطرحوني أرضا وشرعوا يكيلون لي الضربات على وجهي وبطني وكهري. ولما لم يكن قد سبق لي أن شاهدت مهاجمي هؤلاء قبلا، فإني لم أعرف سبب احتدامهم الشرس هذا. ووجدتني مأخوذا ومرعوبا وغير قادر على الدفاع عن نفسي، ولكني لم أبدأ الولولة إلا حين رأيت اثنين منهم ينكبان على عجلتي بضراوة لتحطيمها. ثم أسرع اثنان من المارة لتخليصي من أيدي المعتدين الذين افلحوا في الفرار. وساعدني أحد المنقذين وهو رجل مسن، في النهوض وقادني إلى صيدلية قريبة لتضميد جروحي.
باتت عجلتي لا تصلح لأي استعمال، فتركتها وأنا كسير الفؤاد على قارعة الطريق وركبت الأوتوبيس إلى يافا, حيث عدت إلى البيت وأنا لا ألوى على شيء. وإذا كنت متألماً يستنفذني الامتحان الذي تعرضت له فإني سريعاً ما نمت. وبعد ذلك بساعات, أيقظتنا في منصف الليل طرقات آمرة على الباب. وإزاء تساؤل والدي القلق, فقد أجابنا صوت جهير:«بوليس»,
كان منزلنا مؤلفاً من ثلاث غرف يتراكم فيها أفراد عائلتنا السبعة, مما يجعله أضيق من أن يستقبل العشرة شرطيين عرب وحفنة الضباط الذين كانوا في معظمهم إنكليز والذين كنا نستطيع تمييزهم عبر إطار الباب. وتقدم أحدهم من والدي ومد إليه بمذكرة توقيف بحقي. فكان من المطلوب أن أتبعه إلى مقر دوائر الأمن العام لأجل الاستجواب.
ولم يسبق لأفراد عائلتي أن تنازعوا مع البوليس أبداً. كان أبي دقيقاً في نزاهته, محترماً للقوانين السارية وتأبى عليه النخوة كما يفهمها أن يرتكب أية مخالفة, ولهذا فإنه كان في مجرد اقتحام قنوات الأمن لمنزلنا في ساعة متأخرة بحد ذاته, ما يصدمه, إذ ما ترى الجيران قائلين…!؟ وأية جريمة ارتكبت أنا لا ستحق مثل هذا العرض للقوات..!؟
ولكأني أنظر إليه الآن وهو كمد يطرح الأسئلة على الضابط فيجيبه بجفاء بأنه لا يعلم شيئاً. ولقد تعرفنا جميعنا على محدث أبي. إنه الحباب. الذي كان يرغم انتمائه إلى المخابرات « السرية». معروفاً تماماً في يافا. فهو فلسطيني ومدافع مطواع عن السلطة الاستعمارية. وكان مكلفاً من قبل رؤسائه الإنكليز بمكافحة «التخريب». فكان الناس يخشونه ويحتقرونه في آن معاً, ذلك أنه كان يبذل كل الحماس في مراقبة مواطنيه وفي قمع كل ما قد يؤدي إلى اضطراب الأمن قمعاً لئيماً شرساً. واحتج أبي بحداثة سني, وصاح «إنكم لا تستطيعون اقتياد طفل في الثانية عشرة من عمره في هزيع الليل..» إني أعدكم بأن اقتاده إلى مكتبكم في الساعة الأولى من صباح غد. إني أعلم أن ابني بريء, وأتوسل إليكم أن تصبروا… «إلا أن الحباب بقي جامداً. فهو لن يغادر المكان بدوني» وأخيراً وافق على أن يرافقني والدي. وبدأ الاستجواب فور وصولنا إلى مقر الأمن العام. وسرعان ما سألني الحباب وهو جالس وراء مكتبه من مصدر الكدمات الظاهرة على وجهي. وما أن أنهيت سرد ما وقع لي في تل أبيب حتى وصفني بالكذاب, ثم, إذا بشرطي يدخل علينا وهو يلبس ثياباً مدنية, فيتهمني يطعن حدث يهودي في قدمه خلال مشاجرة حدثت في اليوم ذاته في يافا. فأوضحت له أنه لا يمكنني أن أكون القائم بهذا الاعتداء لآني كنت أنا نفسي لحظة ذاك, أتعرض لهجوم في تل أبيب. وعند ذاك أدخل الحباب إلى المكتب اثنين من رفاقي اليهود ممن كنت أعدهم بين أصدقائي الحميمين. فوافقاً بتأكيد على رواية الشرطي مضيفين أنني كنت رئيس العصابة التي هاجمت فريق الطلاب اليهود.
كنت مذهولاً ومخنقاً من موقفهما الظالم تماماً, وحين سألتهما عما إذا كانا شاهداني بأم أعينها اشترك في الشجار… أجابا نعم. ولم تنفعني احتياجاتي بشيء لأني لم أكن أستطيع تقديم شهود مضادين. وعندما أنهيت المواجهة. طرد أبي. الذي كان لا يصر إعادتي على البيت بقوة السلاح. كنت مهاناً عاجزاً , أصر أسناني والدموع في عيني وبعض الزعماء يدفعون أبي بشراسة بينما كان يصيح بأني بريء ويناشد الحباب العدل. ثم حبست في زنزانة معدة للأحداث من الجانحين, فلم أستطع أن أغمض عيني بقية الليل.
وفي صبيحة اليوم التالي, حاول الحباب أن ينتزع مني اعترافاً, فراح يضربني بمسطرة على أصابعي, ثم إن سكوتي الذي تأوله هو عجرفة, كلفني مضاعفة الضربات. وفي النهاية قال لي: «إنك لا تريد أن تعترف… حسناً سوف تحال على المحكمة». ثم اقتدت تحت الحراسة إلى طابق الأحداث.
وهناك طرح علي رئيس المحكمة وهو انكليزي يتكلم عربية ركيكة, بعض الأسئلة. فأعدت مرة أخرى سرد ما ألم بي, إلا أن ذلك لم يترك في نفسه ببديهة الحال أي تأثير. ثم اقتدت مجدداً إلى طابق الحباب الذي أبقاني واقفاً عشر ساعات إلى أن أبلغني في ساعة متقدمة من الليل وبحضور والدي نص الحكم. إنه حكم بالأدلة وبإبقائي ستة في الإقامة تحت المراقبة, يكون علي خلالها أن أكفر عن سيرتي السابقة, وأقوم, في جملة ما أقوم به بالمثول مرة في الأسبوع أمام الحباب لأقدم له تقريراً عن حركاتي وسكناتي. ولأول مرة في حياتي استشعر الإحباط والحقد. الحقد على الإنكليز الذين يقهرون شعبي, والحقد على من وضعوا أنفسهم من مواطني في خدمتهم, والحقد على الصهيونية التي حفرت هوة بين الفلسطينيين واليهود. غير أن اليأس الذي استشعرته أثر الظلم الذي لاقيته, جرى التعويض عليه جزئياً بالعطف الذي أظهره محيطي لي, حيث كنت أعتبر بطلاً بأكثر مما كنت اعتبر ضحية. أفلم أصمد في وجه المتعسفين وجهازهم القمعي..؟ وسرعان ما منحني مدير المدرسة رشاد الدباغ عطلة لمدة أسبوع لا تعافى من جراحي ومن تجربتي المؤذية. وحين عدت إلى الصف احتفى بي رفاقي, ثم أصبحت, وأكثر من أي وقت مضى, الرئيس غير المنازع بين «أشبال النجادة».
فأما أهلي، فأنه بدا لي أن حنوهم علي قد تعاظم. وقليلا ما علق أبي على الامتحان الذي تعرضنا له سوية، إلا أني كنت أعرف عمق وطنيته، فكنت أعلم أن في وسعي الاعتماد على مناصرته، فقد وافق، بشأن والدتي، على انتسابي للنجادة، برغم أنه هو لم يكن عضوا في أية منظمة عسكرية أو سياسية ومع هذا فإنه كان يتصرف في الأشهر التي تلقت توقيفي بصورة غريبة، فقد لاحظنا، أخي عبد الله وأنا، بأنه يقفل بالمفتاح أحدى الخزانات فلا يستطيع فتحها أحد سواه، وكان يعتزل من حين إلى آخر في أحدى غرفنا منزلنا التي توجد فيها هذه الخزانة بالذات.؟ ثم يخرج منها بدون أن ينبس بكلمة. فقررنا ذات يوم، بعد أن أثار ذلك فضولنا، أن نراقبه من ثقب الباب. وكم كانت دهشتنا حين رأيناه يتجه نحو الخزانة ويخرج منها رشاشا بديعا. فأبي، الذي كان على ما هو عليه من الرقة والوداعة، كان يزيل الشحم عن سلاحه وينظفه بدقة ويرتب عليه بعطف، كان السلاح باهظ الثمن بالنسبة لحانوتي مدك والدي، وحسبنا أنه لا بد أن يكون بالتأكيد مقاتلا تابعا لتشكيل سري. غير أن الحقيقة لم تكن تطابق توهماتنا فبعد ذلك بسنة، أي في مطلق عام 1947، وعندما جرؤنا أخيرا على أن نعترف بسر فضولنا، فإن والدي باح لنا بأنه اشترى رشاشه بماله الخاص. فليس من المستبعد، كما قال لنا، من أن يسحب الانكليز جيوشهم من فلسطين، فينبغي لنا إذ ذاك نكون مستعدين للدفاع عن أنفسنا ضد اليهود الذين يتسلحون إلى أبعد حد. ثم أن غالبية سكان الأحياء العربية في يافا الواقعة على مقربة من التجمعات اليهودية فعلت الأمر نفسه. ولما لم يكن في وسعهم الاعتماد في دفاعهم على أحد، فإنهم بدأوا يترقبون بخشية اليوم الذي يصيرون فيه تحت رحمة المقاتلين الصهاينة.
أما المنظمات الفلسطينية فكانون يعوزها السلاح أعوازا قاسيا. فمنظمة الجادة التي كنت أنتمي إليها، كانت تدرب أعضاءها باستخدام البنادق الخشبية وهكذا فإنه لم تتح لي مطلقا فرصة أن ألامس أو حتى أن أرى سلاحا حقيقيا، غير ذلك الذي رأيته بين يدي والدي، فكان قوام تدريبنا هو التمارين البدنية والمحاضرات النظرية على فن حرب العصابات التي كان يلقيها علينا العسكريون القدامى الذين قاتلوا في الحرب العالمية الثانية في صفوف الجيش البريطاني. ولم يكن للحركة الوطنية الفلسطينية أي وجود منظم، فانهيار الثورة الشعبية لأعوام 36-1939 الدامية أباد صفوفها وبعثر الأحياء من قادتها، فكانوا في معظمهم حبساء في سجون الانكليز أو مكرهين على المنفى. وفي تلك الفترة سمعت كثيرا بالحاج أمين الحسيني مفتي القدس وزعيم الحركة الفلسطينية، ولكني كنت أعلم القليل عنه، اللهم إلا نفوره من النجادة التي كانت تزعم أنها تريد الحفاظ على استقلاليتها الكاملة إزاء «الرؤساء التاريخيين» وإنما أتذكر فقط عودة جمال الحسيني ابن عم المفتي، من المنفى، والاجتماع الشعبي الكبير الذي حشد على شرفه في ساحة الساعة بيافا، كنت أحد آلاف المتظاهرين الذين يصيحون معربين عن إرادتهم بالكفاح من أجل فلسطين عربية ومستقلة.
كان جمال الحسيني أحد الرؤساء المستورين لأحدى المنظمات الفلسطينية العديدة التي كانت قائمة حينذاك، ألا وهي منظمة الفتوة، وبعيد مرور بيافا بدأت المحاولات الرامية لتشجيع دمج الفتوة بالنجادة. وأوفدت الجامعة العربية لهذا الغرض ضابطا مصريا يدعى محمود لبيب، اشتهر بروابطه بالإخوان المسلمين، ومع أن مهمته كانت شاقة إلا أنها تكللت بالنجاح ـ ظاهرا على الأقل ـ ذلك أن الفصيلين اندمجا في تشكيل جديد اتخذ اسم «منظمة الشباب» إلا أن هذه العملية بدلا من أن تزود الحركة بدفعة جديدة، فإنها أغرقت مناضلين المنظمتين الموحدتين توحيدا اصطناعيا، في الفوضى ثم أصابتهم بالتالي بالشلل. فقد أوقف زعيم النجادة محمد الهواري كل نشاط تعبيرا عن احتجاجه ضد هذا المشروع الذي كان يعارضه حتى من حيث المبدأ ثم أن الهواري أسهم، وهو الخطيب المصقع والقائد الموهوب، والقومي المتقد، في تثبيط عدد من المعجبين به ومن محاربيه عندما انزلق من السلبية إلى التعاون مع العدو واضعا نفسا في خدمة إسرائيل منذ احتلال القوات الصهيونية ليافا. وأما «منظمة الشباب» فقد ماتت رغم أنفها في ذات الحقبة؟. ويقيني أن الإنكليز ليسوا غرباء عن إجهاض هذا المشروع. فقد كانوا يعملون، بين جملة ما يعملونه، بواسطة عملائهم داخل الجامعة العربية فلا يتوقفون عن الدسيسة والكيد لإضعاف الحركة الوطنية الفلسطينية، أن بإثارة الانقسامات داخلها، وأن بجعلها غير فاعلة، كما حدث في حالة تحييد النجادة والفتوة. كان الفلسطينيون مجمعين على المطالبة بإنهاء الانتداب البريطاني وبإيصال بلدهم إلى وضع الدولة الكاملة السيادة. وإذ ذاك فإن السلطات الاستعمارية ضاعفت الإجراءات والمبادرات من أجل تبرير وتمديد وجود سلطانهم ومن أجل هذا فإنه كان لا بد لها أن ترى الانشقاقات في فلسطين وأن تفاقم موجودة اليهود والعرب وأن تثير المواجهات المسلحة بينهم عند اقتضاء الحاجة. وفي بربيع عام 1946، ألغت حكومة لندن ضمنا كافة أحكام وتدابير «الكتاب الأبيض» لعام 1939 عندما أذنت بقبول 100.000 مهاجر يهودي إلى فلسطين وبشراء الصهاينة للأراضي العربية. معلنة أن بريطانيا العظمى ستستمر في ممارسة انتدابها على فلسطين طالما ظلت الظروف لا تسمح ببلوغ هذا البلد الاستقلال.
وفي بداية عام 1947 شاهدت بأم عيني كيف أن الإنكليز يسعون وراء جعل حضورهم أمرا لا غنى عنه، والبرهنة على أن انسحابهم سيفضي إلى حمام دم في فلسطين. فقد لاحظنا ـ رفاقي وأنا ـ وفي عدة مناسبات دبابة خفيفة ترابط في يافا وتطلق النار على الأحياء اليهودية في تل أبيب. وعندها ظن اليهود أن العرب فتحوا النار عليهم فردوا بالمثل. ثم أن الإنكليز قاموا بالعملية ذاتها وبوجهة معاكسة مطلقين النار من تل أبيب على يافا. وهكذا فقد راحت المناوشات، ثم المعارك من بعد، تتضاعف بين فريقي السكان، وذلك حتى شهر تشرين الثاني (نوفمبر) من السنة ذاتها عندما لاحظت الجمعية العامة للأمم المتحدة أن التعايش بنيهما بات غير ممكن فقررت تقسيم فلسطين إلى دولتين.
وقد اتخذت السلطات الاستعمارية موقفا واضح الانحياز لصالح الصهاينة لترجيح الغالبة التي تتمتع بها الأكثرية العربية. فبينما كانت تمارس على العرب قمعا لا رأفة فيه، فإنها كانت تعامل الإرهابيين اليهود، برغم قيامهم بجرائم في وظيفة ضد الانكليز، بتسامح يتجاوز الإدراك، كان سلطات الأمن تغمض عينيها عن الدفق الكثيف من الأسلحة الذي تتلقاه الهاغاناة والمنظمات الأخرى من الخارج، في حين أنها لم تكن تتردد في سجن أي عربي يحوز سلاحا ناريا. وتحظر علنيا أن نقتني حتى الخنجر، وتعتبر حمله جنحة يعاقب عليها بالسجن مدة ستة أشهر. وهكذا فإن نسبة القوى التي كانت تبدو في صالحنا في السنتين الأوليين بعد الحرب، انقلبت لصالح الصهاينة غير أنه من الصحيح أن هؤلاء كانوا يتمتعون بدعم وتواطؤ من الخارج، لم نكن تتمتع به. فالدول العربية كانت تظهر لنا تعاطفنا بالغ «العذرية» والأفلاطونية، فتعد بالكثير ولا تزودنا عمليا إلا بمعونة شبه رمزية. ولم يكن الفلسطينيون يتمتعون بمنظمة شبيهة بالوكالة اليهودية التي كانت تستقطب الأموال والوسائل التي لا غنى عنها لشراء ونقل الأسلحة. كما كانوا محرومين من القيادة السياسية والعسكرية التي يسعها، فيما لو وجدت، أن تنظم مقاومتهم.
وإذا سلموا إلى قدرهم، وهم يخشون حدوث مجازر شبيهة بمجزرة دير ياسين، فإن مئات الآلاف من الفلسطينيين قرروا مغادرة وطنهم تحرزا، لاسيما وأن بعض «اللجان الوطنية» المؤلفة من مناضلين قوميين، وخاصة في يافا، كانت تطمئن من يريدون المغادرة بأن منفاهم سيدوم قليلا، فإن هي إلا بضعة أسابيع أو بضعة أشهر، أي الوقت اللازم لتجمع الجيوش العربية لكي تقهر القوات الصهيونية. ذلك أن القرار الذي أعلنته البلدان العربية بمقاومة إنشاء دولة إسرائيل بالسلاح، أثار أملا كبيرا لدى الفلسطينيين.
وحين استرجع ذلك، فإني اعتقد أن مواطني اخطأوا حين وثقوا بالأنظمة العربية، كما أخطأوا على أية حال، حين تركوا الميدان خاليا للمستوطنين اليهود. كان عليهم الصمود مهما كلف الأمر. فما كان في مستطاع الصهاينة أن يبيدوهم حتى آخر رجل. وعلى أية حال، فقد كان المنفى بالنسبة لكثيرين بيننا أسوأ من الموت. وإذا كانوا يجهلون ما ينتظرهم، فإن أهلي قرروا خلاف ذلك، فهم في نهاية الأمر، يلتجؤون إلى غزة المدينة التي ولد أبي فيها، ثم أنهم لاستئمانهم، خلفوا وراءهم أثاثهم وممتلكاتهم حاملين معهم الأمتعة الشخصية ذات الضرورة القصوى، ولكأني أنظر الآن إلى أبي وهو يمسك بيده مفاتيح مسكننا ويقول لنا مطمئننا أننا لن نلبث أن نعود إليه. ولكنه قدر لي إلا أرى بعد ذلك المنزل الذي ولدت فيه، فقد مرت على ذلك ثلاثون من السنين وأنا لا زلت أجهل ما إذا كان قد دمر أم لا. والحق هو أني أفضل إلا أعرف.

الصفحة المركزية للشهيد صلاح خلف ابو اياد على الفيسبوك

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

فتح ميديا أوروبا
Exit mobile version