مقابلات التوظيف في العالم العربي.. ضرورة عملية أم مسرحية هزلية؟

بقلم: المحامي د. ايهاب عمرو

تعتبر المقابلات من أهم الوسائل التي تمكن الجهة المشغلة من الاطلاع على شخصية المتقدمين لشغل الوظيفة، خصوصاً ما لا يمكنهم الاطلاع عليه بواسطة السيرة الذاتية فقط، كمهارات الاتصال والتواصل التي يتمتع بها المتقدمون لشغل الوظيفة، وقدرتهم على الحديث بأكثر من لغة، وفحص مدى إلمامهم وخبرتهم في الحقول التي يعملون فيها، إضافة إلى قياس مستوى الثقافة العامة لديهم. وبالمحصلة النهائية فإن المقابلات يمكن أن تثبت ما جاء في السيرة الذاتية للمتقدمين للوظيفة أو تكشف عن مواطن قوة أو ضعف.

ومعلوم بالضرورة أن تلك المقابلات سواء في القطاع العام أو في القطاع الخاص تتم من خلال لجنة يتم تعيينها لهذا الغرض. ويفترض في تلك اللجنة الحيدة والنزاهة والابتعاد عن الأهواء الشخصية، والالتزام بمعايير موضوعية ركيزتها الأساسية الأمانة العلمية والمسؤولية المهنية. ويفترض في رئيس اللجنة تحديداً عدم الحكم المسبق على المتقدمين لشغل الوظيفة أو محاباة متقدم معين دون الآخرين لأسباب شخصية أو قبلية أو فئوية أقل ما يقال عنها إنها مقيتة ورخيصة لا تصلح لكي تشكل أساساً لإجراء مقابلات يفترض أن تكون مهنية بامتياز، ذلك أن رئيس اللجنة، متى كان قوياً، يستطيع أن يفرض من يريد من المتقدمين لشغل الوظيفة على أعضاء اللجنة، خصوصاً الضعفاء أو المتلونين منهم، بعيداً عن أية اعتبارات مهنية أو قيمية أو أخلاقية أو علمية، وإنما باتباع سياسة فرعونية عبرت عنها الآية الكريمة “ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد”. وهو بهذا العمل يرتضي أن ينقض الأمانة العلمية التي حمله الله تعالى إياها، ويرتضي أن يحمل نفسا آثمة.

وتحضرني في هذا السياق مقابلة أجريت معي قبل ما ينوف عن اثني عشر عاماً أثناء تقدمي لشغل وظيفة باحث قانوني في الهيئة الفلسطينية المستقلة لحقوق المواطن، كما كانت تسمى آنذاك، قبل سفري إلى اليونان بعدة أشهر من أجل متابعة دراسات الدكتوراه. ورغم حصولي على أعلى العلامات من بين المتقدمين للامتحان الذي قامت الهيئة بإجرائه مسبقاً، ورغم معرفة بعض أعضاء اللجنة بمؤهلاتي العلمية وخبراتي العملية، إلا أن اللجنة كانت تتمتع بالحياد والنزاهة والشفافية، وأبلغوني بعد أن تم اختياري أنه كانت هناك منافسة شديدة بيني وبين متقدم آخر كان من الممكن أن يتم اختياره لولا عدم قدرته على إجابة سؤال موضوعي أثناء المقابلة ما دفعهم إلى اختياري، وقد أكبرت فيهم تلك المسؤولية العالية التي تمتعوا بها والنزاهة والشفافية التي كانت تحكم المقابلات. كما أنني لا زلت أذكر الدور الذي قامت به السيدة لميس العلمي كرئيس للجنة المقابلات التي كانت تشغل منصب المدير العام للهيئة، والتي شغلت بعد ذلك منصب وزيرة التربية والتعليم العالي لسنوات، من حيث استقبالها المميز والهادئ للمتقابلين ومهنيتها العالية، وقدرتها على إدارة المقابلات بشكل هادئ وحضاري وعلمي ومهني وإنساني، بعيداً عن أية مؤثرات أخرى.

وعلى النقيض من ذلك، أذكر أثناء عملي في إحدى الجامعات كيف كان عميد كلية ما يقوم بالتحايل من أجل توظيف من يرتئيه دون أية اعتبارات مهنية أو أكاديمية. ومن ذلك مثلاً قيامه بعمل لقاء يسبق المقابلة الرسمية للمتقدم/ة لشغل الوظيفة بحضور أساتذة معينين، ثم يقوم بعد ذلك بتنسيب أعضاء اللجنة في ضوء استنتاجاته من ذلك اللقاء غير الرسمي، بمعنى أنه كان يرى مدى اقتناع الأساتذة الحاضرين بالمتقدم/ة لشغل الوظيفة من عدمه، فإذا كان هناك اقتناع لديهم حول صلاحية المتقدم/ة وأهليته لشغل الوظيفة فإنه يقوم بتنسيبهم كأعضاء في اللجنة التي تقوم بإجراء المقابلة الرسمية، وإلا فإنه كان يقوم باستبعادهم من اللجنة وإحلال أساتذة آخرين قد لا تكون لهم علاقة مباشرة بتخصص المتقدم/ة لشغل الوظيفة، ما يجعل من مهمته في تعيين من يريد أكثر يسراً. ويعكس هذا الأسلوب غير المهني حجم الخلل الموجود عند إجراء المقابلات، والحيل التي يتم اتباعها لتمرير أهواء كامنة في نفوس البعض ممن يتغنون بالمهنية وهم أبعد ما يكونون عنها، رغم أنهم أولى الناس بالالتزام بها كون أن بعضهم أكمل دراساته العليا في الجامعات الأوروبية والأميركية. وذلك بالضرورة يؤدي إلى ضعف الأداء ما يساهم في عدم الحصول على المخرجات المرجوة من العملية الأكاديمية نتيجة ضعف الكادر المعين بتلك الطرق الملتوية.

ولعله من المفيد الإِشارة في هذا السياق إلى أن أدهى المشاكل التي تواجه المتقدمين لشغل الوظائف هي ضعف مستوى رئيس وأعضاء اللجنة من حيث المنهجية الواجب اتباعها في إجراء المقابلات، ومن حيث الثقافة العامة والخاصة ذات العلاقة بالتخصص مقارنة مع مستوى المتقدم/ة لشغل الوظيفة، خصوصاً إن كان لدى هؤلاء المتقدمين خبرات واسعة ومعارف في الحقول التي يعملون فيها وإلمام باللغات الأجنبية.

وثمة مشكلة أخرى تكمن في ضعف الرقابة على لجان المقابلات من قبل الجهات الإدارية العليا ما يتناقض مع أصول المتابعات الإدارية واجبة الاتباع، بحيث تقوم لجنة المقابلة بعمل ما ترتئيه دون أدنى التزام بالقواعد المهنية التي تحكم المهنة، وبما يتعارض مع متطلبات التوظيف التي تحتم معاملة كافة المتقدمين لشغل الوظيفة على قدر المساواة ودون تمييز، وذلك مرده ضعف الرقابة على عملها وآلية اتخاذ قرارتها، كما ذكرنا آنفاً. وأذكر في هذا السياق مقابلات تم إجراؤها قبل ما ينوف عن عشرة أعوام لاختيار أشخاص للعمل في الدائرة القانونية في مجلس الوزراء، وكيف كانت اللجنة المكونة من اثنين من كبار السن من المحامين تدير تلك المقابلات آنذاك بعيداً عن أية اعتبارات مهنية أو علمية أو إنسانية من أجل فرض من حددوا بشكل مسبق (بواسطة) أشخاص آخرين، ودون وجود أية رقابة داخلية أو خارجية على عمل تلك اللجنة غريبة الأطوار، رغم أن ذلك يناقض القانون الأساسي الذي ينص في المادة (26/4) على مبدأ تكافؤ الفرص في تقلد الوظائف العامة.

خلاصة القول، إن معظم لجان التوظيف في العالم العربي، سواء في القطاع العام أو الخاص، لا تلتزم بأية معايير مهنية أو علمية وتحكمها في معظم الحالات الأهواء الشخصية والأمزجة والتحديد المسبق لشخصية من سوف يقع عليه/ا الإختيار لأسباب أقل ما يقال عنها أنها غير مهنية وفئوية ولا تصلح لأن تشكل أساساً لإجراء مقابلات يفترض فيها المهنية والشفافية كونها تتعلق بمصائر أناس قد يكونون أكثر أحقية بشغل تلك الوظائف، وتتعلق كذلك ودون مبالغة بمصائر المجتمعات العربية ومستقبل أجيالها. والطامة الكبرى أن هذا النوع من المقابلات يتم استخدامه في بعض الجامعات العربية التي يفترض فيها أن تكون المثل والأنموذج، وهذا يفسر ضعف مستوى الطلاب والطالبات في العالم العربي مقارنة مع نظرائهم في العالم الغربي كنتيجة حتمية مترتبة على ضعف الكادر بسبب سوء الاختيار. لذلك، يتعين تشديد الرقابة على لجان التوظيف في تلك الجامعات والمؤسسات كافة سواء كانت عامة أو خاصة من أجل ضمان جودة المخرجات التي يمكن أن يتوصل لها المتقدم لشغل الوظيفة أثناء عمله ما يعود بالنفع على الطلاب والطالبات والمؤسسات وعموم المجتمع، وذلك حتى لا تتحول تلك المقابلات إلى مأساة أو ملهاة أو مجرد إجراء شكلي أو روتيني ليس له أية أهمية علمية أو فائدة عملية ما يشكل مضيعة لوقت المتقدمين لشغل تلك الوظائف.

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

فتح ميديا أوروبا
Exit mobile version