هل يهز جيرمي كوربين الشباك ؟

بقلم: عوض عبد الفتاح

“بفوز كاسح من الجوله الاولى، يسحق هذا الاشتراكي المناهض للحرب المعارضه، موجهاً ضربة الى تيار توني بلير. للمره الاولى منذ عقود تعود الاشتراكيه الى الاجنده، وللمره الاولى تحدد (اي الاشتراكيه) قيادة هذا الحزب”.
هذا كلام للصحفي والكاتب البريطاني ريتشارد سيمور ، طبع على الغلاف الاخير من كتاب (220 صفحه) أصدره اوائل عام 2016 بعد اشهر قليله من الفوز المفاجئ للنائب في حزب العمال البريطاني، جيرمي كوربين ، بقياده حزب العمل الذي فاجأ البريطانيين وأبهج اليسار، وصدم اليمين ورأس المال وإعلامه المدعوم من الشركات الكبرى. ويشرح الكاتب، بعيداً عن الشعبويه والتسطيح وبأسلوب سلس، وبتحليل عقلاني ، تطور السياسات داخل حزب العمال البريطاني منذ عقود، ومراحل انحدار الحزب من سياسات الاشتراكيه الديمقراطيه الى السياسيات النيولبراليه ، مرورا “بالطريق الثالث” الذي قاده توني بلير وصولا الى الانقلاب اليساري، على يد كوربين عام 2015.
وعنوان الكتاب ” Corbyn: The strange rebirth of radical politics ” وأترجمه بتصرف : ” كوربين : العوده الغريبه للسياسات الراديكاليه”. وقد وقعت عليه عيناي بالصدفه وانا أتجول داخل المكتبة الشهيرة في لندن London Books Review، في ربيع العام الماضي، وبعد ساعات من لقائي مع جيرمي كوربن لتهنئته بالفوز، ومتمنياً له الفوز برئاسة الحكومه. وكان هذا اللقاء الثاني معه، اذ كان نظم لي محاضره في مجلس العموم البريطاني عن طبيعة نظام الابارتهايد الكولونيالي الاسرائيلي ، عام ، 2008 وهو ادارها.
وقد اثارتني فكرة ن يصدر كتاب بهذه السرعه عن مفاجأة فوز كوربن، مما يدل على استثنائيه الحدث في الحياه السياسيه البريطانيه. وأظن اليوم ان هذا الكاتب اليساري ، وهو ليس عضواً في حزب العمال، يعيش اليوم مفاجأه اخرى من هذا التحول السريع والمتواصل في الرأي العام لصالح كوربن. ذلك لانه في الكتاب لا يحلل فقط كيفية فوز كوربين بقياده حزب العمال البريطاني، وهزيمه جماعه توني بلير، بل ايضا يشرح الصعاب الكبيره امام احتمال فوزه في الانتخابات لرئاسة الحكومه.. التي كانت من المفروض ان تجري في عام 2018، قبل ان تعلن تيريسا ماي Theresa May، رئيسه حكومه بريطانيا وزعيمه حزب المحافظين عن انتخابات مبكره في الثامن عشر من شهر نيسان الماضي .
ويكتب سيمور في الكتاب : ” صحيح ان تراجع الديمقراطيه البريطانيه، وتراجع هيمنة نظام الثنائيه الحزبيه (حزب عمل + محافظين) يخلق فرصاً وامكانيات لم تكن موجوده”. ويستدرك: ” ولكن ايضا وفي ظل تراجع حجم ونشاط الحركه النقابيه وانحسار عضويه اليسار المنظم، وتشوش الافكار اليساريه ، فإن إستعادة ذلك كله لن يتم على شكل اختراق، بل يحتاج الى جيل كامل من العمل المضني ، من أجل استعاده يسار حقيقي وقوي ومؤثر وقابل للحياه، وحركه نقابيه قويه قادره، على الاقل، على لجم نفوذ رأس المال”.
قبل فوز كوربين بقياده حزب العمال عام 2015، قالت جماعه توني بلير التي كانت لا تزال تسيطر على مؤسسة الحزب، ومعها الاعلام المكتوب والمرئي المدعوم من الاعلام، بانه ليس هناك ادنى فرضه امام كوربين بالفوز. وشنت وسائل الاعلام هذه حمله تشويه غير مسبوقه ضد الشخص، وبل سخرت منه. وكان تجند بلير بنفسه لمنع ذلك. ويستذكر الصحفي سيمون دهشة وصدمة رئيس الحكومه البريطانيه السابق (بلير) الذي قال “هل يعقل هذا ! جيرمي كوربين في بريطانيا، وبيرني ساندرز في الولايات المتحده المريكيه.. انا لست متأكدا اني افهم السياسه اليوم”. والمقارنة مع ساندرز تأتي على خلفية التقدم الذي كان يحرزه في حملته الانتخابيه ضد منافسته داخل الحزب هيلاري كلنتون ، ممثلة المجمع العسكري والمالي في أمريكا .
وكان بلير قد حذر قيادة حزبه دون جدوى قائلا: “اذا كان قلبكم مع جيرمي، عليكم ان تزرعوا قلباُ جديداً – If your heart is with Jeremy, get a transplant”
وقد تتوج فوز كوربين بقيادة حزب العمل بفضل قواعد الحزب الشعبيه ، والتي تحدت معظم قيادات الحزب، بما فيها أغلبية أعضاء البرلمان الممثلين لحزب العمل ، التي تناهضه وتحاربه بشراسه. وقد كان للجيل الشاب حصة الأسد في التصويت لكوربين . ويقدر الان ان حوالي نصف مليون عضو جديد انضموا الى حزب العمل دعما لهذا اليساري ذي المصداقيه العاليه في اوساط واسعه من العمال والفقراء والشباب .

المفاجئة الثانيه الصادمه لليمين البريطاني وابواقه
في الثامن عشر من نيسان هذا العام أعلنت تيريسا ماي، رئيسه حكومه بريطانيا، والتي كانت حلت محل ديفد كاميرون الذي استقال بعد تصويت الشعب البريطاني على الخروج من الاتحاد الاوروبي صيف عام 2016، عن انتخابات مبكره لرئاسه حكومه بريطانيا بدل عام 2018، وكانت هي ومستشاروها يظنون ان الفرصه مواتيه لاجراء انتخابات تؤدي الى تحقيق فوزا كاسح وتوجيه ضربه قاصمه لكوربين ولما يمثله من برامج وقيم ، وتعزيز شرعية قيادتها لانها لم تأت بفضل انتخابات انما كنتيجة لاستقالة الزعيم السابق لحزب المحافظين اذ كانت الفجوه في الاستطلاعات بين الاثنين كبيره جدا آنذاك : 26 نقطه لصالحها. وبالرغم من انهيار توقعات ورغبات الاعلام المكتوب والمرئي في مرحله انتخابات البرايماريز في حزب العمال، وحملة التشويه الشديده التي طالت كوربين ، واصلت نفس وسائل الاعلام الحمله بعد فوزه في محاوله لنسف مصداقيته، معتبره انه غير قابل للانتخاب وغير صالح لرئاسه الحكومه.
ولكن هذا الاعلام فوجئ مره اخرى ، في الأسابيع الأخيره ، بتصاعد شعبية كوربين وتدفق المزيد من المؤيدين الى اجتماعاته الشعبيه مؤخراً، اي بعد الإعلان عن تبكير الانتخابات مما فرض الامر نفسه على وسائل الاعلام التي بدأت تعيد النظر، ويضطر الكثير منها الى التعامل مع الحقائق حتى لو كانت لا تروق لهم .
وكتب مؤخرا محايدون في صحيفتي الغارديان، المنحازه ضده ، والانديبندت ان كوربن اثبت انه قابل للانتخاب (Electable) وانه داعية مؤثر Effective campaigner وتدعيماً لهذا التغير في لهجه وسائل الاعلام، رأى مراسل ال CNN، الموفد الى بريطانيا لمتابعة وتغطية الحمله الانتخابيه، انه لا يستبعد مفاجأه. فالفجوه بين الاثنين ضاقت بصوره كبيره من 26 نقطه الى 3 نقاط ، وهذا يحصل ستة ايام فقط قبل موعد الانتخابات.

لماذا كل هذا الذعر من احتمال فوز كوربين؟
كوربين، هو يساري اشتراكي راديكالي يطرح العداله الاجتماعيه، وينحاز للعمال والفقراء واللاجئين والمهاجرين، وينادي بتأميم، او اعاده تأميم سكك الحديد، وتعليم مجاني في المعاهد العليا، والانفاق على نظام الصحه، والحد من نفوذ رأس المال، عبر رفع الضرائب على الاغنياء وتخفيضها عن الفقراء.
ولماذا أسرائيل ومن خلال اللوبيالصهيون في بريطانيا ، مذعوره ، هذا اللوبي الذي شن حملة دنيئه عليه بعد فوزه بقيادة حزب العمال متهما بأن كوربين معادٍ او ان حزبه مليء بالمعادين للساميه، مع ان هذه التهم لم تكن توجه الى الحزب حين كان توني بلير رئيسا له ورئيسا لبريطانيا. لقد وقف جيرمي كوربين ضد حروب بريطانيا، العدوانيه الخارجيه، وضد حروب امريكا الاستعماريه، وربط العنف في الشرق الاوسط بهذه الحروب، كما كان مناهضاً شديدا ضد الحرب الاستعماريه لتدميريه على العراق عام 2003 ، وقاد اضخم مظاهره ضدها. اما بخصوص اسرائيل، فهو ضد مشروعها الاحتلالي والاستعماري ، وصديق صدوق للشعب الفلسطيني، ومساند بدون تحفظ لحق الشعب الفلسطيني في التحرر والاستقلال، وهو ناشط قديم في لجنه التضامن البريطانيه لفلسطين منذ شبابه.

اهميه ظاهرة كوربي
من الطبيعي ان يميل المرء الى الحذر او عدم المغالاة في التفاؤل من احتمالات فوز جيرمي كوربين، وايضا، من قدرته هو وتياره على التغيير في سياسة حزبه وفِي سياسة بريطانيا التقليدية بعد فوزه الذي لم يعد يستبعده المراقبون، وان كان التفوق في النقاط لا يزال لصالح حزب المحافظين حتى اللحظه وإن بنسبه ضئيله . ويعود هذا الحذر في التفاؤل الى النكسه، او الهزيمه التي لحقت في اليسار اللاتيني، وخاصة في البرازيل، وفنزويلا والارجنتين، والصعوبات الكبيره التي يوجهها اليسارحاليا في عدد اخر في امريكا اللاتينيه. وكان هذا اليسار قد فاجأ العالم، وقوى اليسار المنهكه والمشتته، وبعد سنوات قليله فقط من صدمة انهيار الاتحاد السوفييتي ، في زحفه واستلامه السلطه بالانتخابات الديمقراطيه . وكان لافتاً ان ان يحقق هذا اليسار في القاره الامريكيه الجنوبيه التي خضعت لنهب الشركات الامبرياليه ولهيمنة الامبرياليه الامريكيه على حكومات هذه الدول ، وذلك ابتداءً من اواسط التسعينات. وهناك اسباب كثيره لهذا الفشل، منها اسباب داخليه، مثل اعتماده على قاده يساريين شعبويين وان اظهروا هؤلاء صدقا و شجاعة وإقداما استحقوا الاعجاب والتقدير، الا انهم وقعوا ، في اخطاء تكتيكية واستراتيجيه ، في التصورات وفي الممارسه. طبعا هذا مضافا ا الى التدخلات المبرياليه الخارجيه التي لم تتوقف .
كما ان من اسباب الحذر الاخرى الذي نبديه هو تجربة اليونان اليساريه المعبر عنها في حزب سيريزا اليساري بزعامه الكسيس تسيبراس . وهو حزب نهض وتوسع وانتصر في الانتخابات ، على خلفية الازمه الاقتصاديه الحاده التي عصفت باليونان في العقد الأخير ، و بدأ متمرداً على المنظمات الماليه الدوليه والاوروبيه لينتهي ا بالخضوع لشروطها، وباستقالة احد ابرز قادته الذي شغل وزير الماليه، يانس وروفسكي ، ليتحول الى قيادي مركزي في تيار يساري اوروبي , DiEM25 يهدف الى اصلاح النظام الاجتماعي والاقتصادي الاوربي ، بحلول عام 2025 ليصبح اكثر عداله .على أية حال ربما من السابق لأوانه الحكم النهائي على تجربة سيريزا .
إن فوز كوربين سيكون له اثر كبير ونقطه تحول كبيره في اكثر من مجال. وعدم فوزه لن يعني خساره مطلقه في رأيي ، خاصه وان فازت غريمته ماي فان فوزها لن يكون ساحقاً وسيكون عليها صعباً تشكيل حكومة بدون الائتلاف مع اخرين ، وربما لن تتمكن من ذلك أصلا . ولكن على المدى الاستراتيجي، فإن كوربين يكون قد احدث تغييرا هاما في الثقافه السياسيه، واعاد الافكار الاشتراكيه، افكار العداله الاجتماعيه، ومناهضه العنصريه والحروب الاستعماريه، وهيأ اعداداً كبيره من الشباب البريطاني في اطار هذه الثقافه السياسيه الاجتماعيه التقدميه والانسانيه.
ان تأثيره يشبه تأثير حملة بيرني ساندرز وان كان الاخير اقل راديكاليه اذ يتبنى الاشتراكيه الديمقراطيه ، وهناك المزيد من الشباب في امريكا باتوا يعرفون انفسهم اشتراكيين ديمقراطيين وهذا امر هام في بلد رأسمالي متوحش مثل الولايات المتحده الامريكيه.
سياسياً، إن فوز كوربين يعني التحرر من التذيل والتبعيه التاريخيه للامبرياليه الامريكيه ومن حروبها وتحالفها المطلق مع اسرائيل والصهيونيه. لقد وصف توني بلير، الذي تطالب اوساط حقوقيه وسياسيه بمحاكمته كمجرم حرب، بكلب امريكا خاصه بعد ان إنجر وراء ادارة جورج بوش في شن حرب امبرياليه على العراق، عام 1991 وعام 2003. وهذا البلد الذي لا يزال يعيش النتائج التدميريه الهذا العدوان الوحشي .
ومن ناحيه العلاقه مع اسرائيل، فإن الامر سيكون مختلفا، وسيكون لصالح قضيه فلسطين العادله، وبذلك تصبح امريكا بدون حليفها الاوروبي الاكثر ارتباطاً بها ودعماً لنظام الاستعمار الصهيوني في فلسطين.
اما على الصعيد الداخلي، والاجتماعي والثقافي والاخلاقي، فإن نجاح حزب العمال بقياده يساريه اشتراكيه ومناهضه للامبرياليه. فانه يساهم مساهمه نوعيه في جهود ونضالات قوى ، اجتماعيه وديمقراطيه،مدنيه و شعبيه وشبه رسميه، لاصلاح النظام العالمي، نحو اكثر عداله واقل عدوانيه، ضد االبشر وضد الحجر، ضد البيئة . وفِي هذا الظرف العالمي الذي يتميز باللايقين ، وتتفاقم الحروب والظلم ، والاستغلال ، وتتصاعد قوة اليمين الشعبوي العنصري ووصوله الى سدة الحكم في امريكا وتزايد قوته في أماكن اخرى ، كل ذلك يظهر الحاجه الى بديل انساني يقودها حرار العالم في رحلة الكفاح الإنساني الطويلة من اجل الحريه .
نحن كفلسطينين، واصحاب قضيه عادله، وباعتبارنا احد ابرز ضحايا الرأسماليه العالميه التي قادت الى الاستعمار والاعتداء على الشعوب لتغذية عجلة انتاجها، وضحية الاستبداد والطغيان ، لا بد ان نسعد بهذا التغيير وان نعيد ارتباطنا بالقوى العالميه المناهضه للظلم الاجتماعي والاقتصادي والحروب.وذلك من خلال اعادة تحديد قيم اليسار الاصيله ، حيث الانسان وحريته وكرامته، وأمنه المعيشي ، في المركز . وان تكون المساواه بين شعوب الكره الارضيه قيمة مقدسه .

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

فتح ميديا أوروبا
Exit mobile version