المكتب الإعلامي الفلسطيني في أوروبا

لماذا ينبغي على بريطانيا الاعتراف بدولة فلسطين

نشر هذا المقال باللغة الانجليزية في مجلة فاتهوم البريطانية المتخصصة بالشؤون السياسية والتي خصصت عددا لها لذكرى مائة عام على صدرو وعد بلفور المشؤوم.

بقلم: الياس زنانيري*

ماضيا:
لا أعرف إن كان وعد بلفور قد خدم مصالح بريطانيا أو حقق انجازات ذات مغزى للامبراطورية البريطانية. فأنا لست مؤرخا ولست دافع ضرائب بريطاني يهمه ان يعرف اين تذهب امواله. أنا فلسطيني يمزقني الحزن كلما أسمع ان المملكة المتحدة “تفتخر” بالاحتفال بالذكرى المئوية لصدور وعد بلفور، كما ذكرت رئيسة وزراء بريطانيا تيريزا ماي، دون أن تفكر بتداعيات هذه الاحتفالات على ملايين الفلسطينيين الذين فقدوا وطنهم القومي بسبب هذا الوعد.
أيُّ فخرٍ يمكن أن يكون في وعد هدفه إقامة وطن للشعب اليهودي بينما يترك شعبا آخر دون شيء يُذكر؟ كلمات قاسية؟ ربما. لكن وعد بلفور كان الطلقة الاولى التي بدأت بعدها عملية طويلة الأمد لإيجاد حقيقة جديدة في الشرق الاوسط تركت الفلسطينيين، شعبي الذي انتمي اليه، رهن المعاناة منذ ذلك التاريخ وحتى اليوم. إن الكارثة التي حلت بالشعب الفلسطيني نتيجة لوعد بلفور تتطلب اليوم من الحكومة البريطانية ان تشعر بالأسف عما جرى. لقد نالت كافة الدول التي خضعت لحكم الامبراطورية البريطانية في القرن الماضي استقلالها. وهي لذلك لم تعد بحاجة الى اعتذار بريطانيا. فهي لعقت جروحها التي واكبت العيش تحت الحكم البريطاني ثم انطلقت الى الامام. بينما نحن الفلسطينيون لا زلنا ندفع حتى يومنا هذا ثمن ذاك الوعد.
وبالمناسبة، تعرف بريطانيا تماما كيف تعتذر كما فعلت عند اعتذارها عن المجاعة التي ضربت ايرلندا بين الاعوام 1845 و1952. لكن ماذا بشأن وعد بلفور؟ في حالتنا الفلسطينية نجد ان سلطات الانتداب البريطاني أدارت آذانا صماء للمذابح التي قامت بها ضد أبناء شعبنا الفلسطينيالمجموعاتُ اليهوديةُ المسلحة، التي لم تستثنِ في حالات كثيرة القوات البريطانية من هجماتها. لقد نفذت عمليةَ تفجير فندق الملك داود عام 1946 مجموعةُ الارغون التي برز منها شخصان توليا لاحقا منصب رئاسة الوزراء في إسرائيل، هما مناحيم بيغن واسحق شامير. لقد كان هذان الرجلان على قائمة المطلوبين للسلطات البريطانية. كما قمع البريطانيون ايضا الثورة الفلسطينية ضد الانتداب البريطاني وضد استمرار تدفق الهجرة اليهودية الى فلسطين.
حاضرا:
يبدو ان المملكة المتحدة لا تنوي النظر في مسألة الاعتراف او الإقرار بمسؤوليتها عن الوعد. إن رفض المملكة المتحدة الإقرار بمسؤوليتها عن الوعد هو أمر مرفوض بالنسبة لنا، نحن الفلسطينيين. لكن يمكن فهم أسبابه. بيد أن ما لا يمكن فهمه هو ذاك القرار الذي اتخذته المملكة المتحدة بعد مائة للاحتفال “بفخر” بذكرى صدور الوعد. لما يتعين على حماة حقوق الانسان ومؤيدي حقوق كل شعوب العالم في تقرير المصير أن يشعروا بـ “الفخر” على هذا الوعد؟
لقد نشأت كطفل فلسطيني لا دولة له لكن معجب ببريطانيا لفترة قصيرة. مع الزمن كبرت وأصبحت أكثر حكمة وبدأت أدرك كم كان سيئا وعد بلفور بالنسبة لنا الفلسطينيين. لقد خلق هذا الوعد القاعدة التي أقرتها دولة عظمى من أجل قيام دولة إسرائيل لكنه فشل في الالتزام بما ورد في نص الوعد ذاته حين تحدث عن أنه ” لن يتم تنفيذ شيءٍ من شأنه إلحاق الضرر بالحقوق المدنية والدينية للطوائف غير اليهودية في فلسطين أو بالوضع السياسي أو الحقوق التي يتمتع بها اليهود في اي دولة أخرى.”
بينما نظر الوعد “بعين العطف” الى إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، فإنه اعتبر السكان الاصليين الذين سكنوا فلسطين “طوائف غير يهودية”. يا للعار! لقد تم اعتبار اليهود من شتى انحاء العالم “شعبا يهوديا” بينما تمت الاشارة الى الفلسطينيين الذين عاشوا في بلاد أجدادهم آلاف السنين كـ “طوائف غير يهودية.”
ولفرك الملح في الجرح، وفر الوعد طبقة إضافية من الحماية للوضع السياسي وللحقوق التي يتمتع بها اليهود في الدول الاخرى.ومن خلال ضمان قيام وطن قومي لليهود في فلسطين ومنح حصانة إضافية للوضع السياسي وللحقوق التي يتمتع بها اليهود في الدول الأخرى، فقد أضحى وعد بلفور جائزة مضاعفة لليهود بينما وجه ضربة قاضية للفلسطينيين. أعرف ان كثيرين لن يرون الوعد بهذا المنظار. لكن ذلك تماما كان معنى صدور الوعد بالنسبة الى شعب لم يحصل بعد على استقلاله، ومع مرور الزمن فقد وطنه حيث طُرد من البلاد أو غادرها طوعا بعد قيام إسرائيل عام 1948.
لقد حكم البريطانيون الهند طوال ما هو أقل من مائة عام بقليل لكنهم لم يصدروا وعدا يتقديم شبه القارة الهندية لشعب او لطرف ثالث. وعوضا عن ذلك قسموا الهند الى دولتين، الهند والباكستان. فلماذا إذا لم تعتمد المملكة المتحدة ذات المبدأ ولم تتبنَ قرار تقسيم فلسطين عام 1947؟
قد يقول البعض ان الفلسطينيين رفضوا قرار التقسيم في حينه. لكن كانت لدينا أسباب وجيهة لرفض القرار الذي غاب عنه عنصر الانصاف. لقد منح القرار للدولة اليهودية ما مساحته 56.47 بالمائة من فلسطين الانتدابية بينما خصص للدولة العربية ما نسبته 42.88 بالمائة وترك محيط القدس وبيت لحم المجاورة لها لوضع دولي خاص. قبل انتهاء الانتداب البريطاني بثلاث سنوات كانت نسبة الفلسطينيين المسيحيين والمسلمين في فلسطين 68 بالمائة بينما بلغت نسبة اليهود في الفترة ذاتها 31 بالمائة ومع ذلك حصل اليهود على ما هو أكثر من نصف مساحة فلسطين الانتدابية.

التعويض المستقبلي
لا يمكن إعادة التاريخ الى الوراء. ومع ذلك هناك الكثير مما يمكن فعله كي تتحول الذكرى المئوية لوعد بلفور الى يوم لتغيير جذري لا يُقصد منه إعادة عقارب الساعة الى ما قبل قرن من الزمن بل الى البدء بإصلاح الضرر الذي سببه الوعد.
لقد تبنت الجمعية العمومية للامم المتحدة يوم 29 تشرين ثاني 2012 قرارها رقم 67/19 الذي اعترفت به بفلسطين دولة غير عضو في الأمم المتحدة على أساس حدود الرابع من حزيران 1967 وبذلك أضافت الامم المتحدة مرجعية دولية جديدة لأسس حل الدولتين، فلسطين واسرائيل تعيشان جنبا الى جنب بأمن وسلام. إن أقل ما يمكن أن تفكر به المملكة المتحدة هو تبني هذا الاعتراف الدولي كي تضمن تطبيق حل الدولتين في وقت تسعى حكومة اليمين المتشدد في إسرائيل بكل ما أوتيت من قوة لوأد هذا الحل.
إن كل تعبير عن القلق على مصير حل الدولتين يبقى فارغا من أي معنى ما لم يتم اتخاذ خطوات عملية بالتوازي مع هذا القلق. إن هذا هو النفاق بعينه. إن الانتقادات والبيانات الصحفية والتعبير عن مشاعر القلق وحتى الادانة التي صدرت عن وزير الخارجية البريطاني بوريس جونسون ضد اعلان إسرائيل نيتها بناء 3000 وحدة استيطانية جديدة في الضفة الغربية، لن تمنع من التوسع الاستيطاني الذي يهدد حل الدولتين. وفيما لو فشلت الأسرة الدولية في ممارسة الضغوط على إسرائيل فإنه سيكون على الفلسطينيين والاسرائيليين العيش في صراع مستمر يقودهما نحو التدمير المتبادل.
إن المملكة المتحدة تتحمل مسؤولية أخلاقية عن تبعات وعد بلفور. ومن شأن الاعتراف بدولة فلسطين ان يشكل خطوة أساسية في الاتجاه الصحيح. إن عقارب الساعة تدق فيما نقترب من يوم الذكرى المئوية. فلماذا لا نجعل من هذا اليوم يوما للغفران، أو يوما لإصلاح الضرر أو يوما يمنح الفلسطينيين جزءا من حقوقهم التي صادرها الوعد منهم؟
لم يندثر الفلسطينيون نتيجة للوعد وما نجم عنه. بل بالعكس فقد بقي شعبنا ولا زال جزءا لا يتجزأ من شعوب الشرق الاوسط. صحيح ان دولتنا تحت الاحتلال لكن هذه ليست حالة فريدة من نوعها إذ عاشت شعوب عديدة تحت الاحتلال طيلة الفترات التي كان يمكن لقوات الاحتلال الاستمرار في اضطهاد تلك الشعوب. لكن هذه الشعوب في النهاية انتزعت حريتها وأقامت دولها المستقلة. والفلسطينيون ليسوا استثناءً ابدا.
أما البديل فإنه سيكون سيئا للجميع. إن التنكر لحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره وبناء دولته المستقلة سيدفع بالصراع نحو المزيد من التأجيج في المنطقة وخارجها. كما أن تنظيمات ارهابية مختلفة مثل “داعش” والقاعدة وغيرها ستواصل توظيف القضية الفلسطينية كمبرر للتحريض وتجنيد الدعم للجرائم الشنيعة التي يرتكبونها. أما حل الصراع العربي- الاسرائيلي فإنه سوف يمنع عن هذه المجموعات تلك الذرائع.
لا بد ان تتوقف الدعوة لمقاضاة الحكومة البريطانية على إصدار وعد بلفور لكن بالمقابل نحن بحاجة الى خطوة جريئة تقوم بها المملكة المتحدة كي تصحح بعضا من الغبن الذي لحق بالفلسطينيين نتيجة لوعد بلفور. ينبغي على الشعب البريطاني أن يعترف بدولة فلسطين بدل أن يرقص على بقايا الدمار الذي لحق بالفلسطينيين نتيجة لهذا الوعد.
* نائب رئيس لجنة التواصل مع المجتمع الاسرائيلي في منظمة التحرير الفلسطينية

Exit mobile version