صدى الأقصى في «ثورة 23 يوليو»

بقلم: الدكتور محمد السعيد إدريس

لعلّه خير، أن تتزامن هبة الشعب الفلسطيني دفاعاً عن حرمة الأقصى وشرف الأمة والدين مع الذكرى الخامسة والستين لثورة 23 يوليو 1952 التي كانت انطلاقتها الأولى ونواة تأسيسها على رمال فلسطين، حيث كان هناك عدد من الضباط المصريين الأحرار الذين قادوا هذه الثورة ضمن قوات الجيش المصري الذي دُفع به عام 1948، دون إعداد أو تسليح، للقتال في فلسطين، وكانت مأساة هذه الحرب هي الشرارة التي عجلت بانطلاق الثورة في مصر يوم 23 تموز عام 1952، أي بعد أربع سنوات من نكبة عام 1948.
هناك، على رمال فلسطين، وسط بحور دماء الشهداء والمصابين من العسكريين المصريين، كان الميلاد الحقيقى لوحدة المصير والدم والمستقبل، مستقبل مصر ومستقبل العروبة، ومستقبل فلسطين، لقد تجاوزت العلاقة بين فلسطين ونكبتها عام 1948 وبين مصر حدود التأثير والتأثر، وتحولت إلى صنع المستقبل والمصير، مستقبل مصر ومصير فلسطين، ومعهما معاً مستقبل الأمة العربية.
وانطلاقاً من هذا الوعي المبكر، وضع زعيم هذه الثورة، جمال عبد الناصر، القانون السياسي الحاكم لإدارة الصراع العربي- الصهيوني، وهو القانون الذي صاغه بدمائه على رمال «الفالوجة» الفلسطينية التي، حوصر فيها وقواته ولم يستسلم. كان سؤال الخلاص من الهزيمة والبحث في كيف يمكن تحرير فلسطين هو شاغله الأول ومنه خرج بالإجابة «القانون»: تحرير القدس رهن بتحرير القاهرة وكل العواصم العربية، طالما أن الدول العربية محتلة، وطالما أن الإرادة العربية مكبلة بالقيود، وطالما أن استقلالية القرار الوطني غائبة فلا أمل فى تحرير فلسطين، هذا هو القانون الحاكم لإدارة الصراع مع اسرائيل لتحرير فلسطين وحماية الأقصى: تحرير القرار السياسي العربي وتحرير الإرادة الوطنية والقومية هما الشرطان اللازمان لخوض صراع حقيقي ينتهي ليس فقط بتحرير فلسطين، بل وبتحقيق الوحدة العربية، ومن ثم إعادة الانخراط في مشروع نهضوي للأمة.
وعي جمال عبد الناصر هذا القانون، وعاد من فلسطين ليعد العُدة لتحرير القاهرة من الاحتلال البريطانى ويُسقط النظام الحاكم الموالي لهذا الاحتلال، وكانت ثورة 23 يوليو عام 1952 هي الترجمة العملية المباشرة لهذا القانون الذي استخلصه جمال عبد الناصر على رمال فلسطين.
هذا الوعي لم يأت من فراغ، فقد انحازت طلائع ثورة 23 يوليو 1952 من الضباط المصريين الأحرار لقضية الشعب الفلسطيني قبل ثورتهم بخمس سنوات. ففي ايلول 1947 قررت لجنة الضباط الأحرار مساندة حركة المقاومة العربية في فلسطين، وأرسلت بعض أعضائها كمتطوعين، وانضم بعض هؤلاء من دمشق إلى «جيش الإنقاذ العربي» بقيادة المناضل «فوزي القاوقجي»، وقال جمال عبد الناصر وقتها لزملائه قبل مغادرتهم: «لو فرض القتال في فلسطين فإن ذلك لن يكون مجرد حرب في أرض عربية بل سيكون واجباً مقدساً للدفاع عن النفس»، وهكذا أدخل جمال عبد الناصر مبكراً قضية فلسطين إلى عمق قلب وروح مصر ليصبح الدفاع عن فلسطين دفاعاً عن النفس، الدفاع عن فلسطين دفاع عن مصر، عن «الأمن الوطني» المصري، هكذا كانت العسكرية المصرية منذ «أحمس العظيم» الدفاع عن أمن مصر الوطنى يبدأ من شمال سوريا، ومن هنا كان الارتباط التاريخي والإستراتيجي بين «بر الشام وبر مصر»، عندما توحدت مصر والشام تاريخياً كانت عزة الأمة وانتصاراتها، الدفاع المصري عن فلسطين ليس منّة من المصريين، بل هو دفاع عن النفس، عن مصر وأمنها وليس مجرد تضامن مع شعب عربي شقيق.
لقد وعي قادة اسرائيل مبكراً العلاقة بين المشروع الثوري المصري الذي حملته «ثورة 23 يوليو» 1952 وهدف تحرير فلسطين، لذلك صمم ديفيد بن جوريون على غزو مصر سنة 1955 لتوسيع رقعة «إسرائيل» من ناحية، وتحجيم جمال عبد الناصر ومشروعه الثوري الذي رآه خطراً على الوجود الإسرائيلي من ناحية أخرى.
فقد حددت إسرائيل مبكراً، وبالتحديد منذ نهاية عام 1954 أن مصر هي العدو الرئيسي بعد نجاح مصر في توقيع اتفاقية جلاء 80 ألف جندي بريطاني عن شواطئ قناة السويس. بعدها لجأت إسرائيل إلى التخريب داخل مصر، فيما عُرف بـ «فضيحة لافون»، ثم كان العدوان الغادر على غزة عام 1955 (كانت تحت الإدارة المصرية بعد حرب 1948، والعدوان عليها عدوان على مصر)، ثم العدوان على القوات السورية قرب بحيرة طبريا، وجاءت سنة 1956، ومنذ بدايتها، لتشهد الإعداد الإسرائيلي الحقيقي لشن عدوان كبير على مصر، من خلال التوقيع على اتفاقيات واسعة للتسليح، ولم يكن غريباً أو مفاجئاً، أن الدول التي سلحت إسرائيل في ذلك الوقت هي التي شاركتها العدوان على مصر عام 1956: بريطانيا وفرنسا تحت غطاء استرداد السيطرة على قناة السويس التي كان جمال عبد الناصر قد أعادها إلى السيادة الوطنية المصرية ليمول من إيرادها بناء السد العالي بعد تراجع البنك الدولى عن تمويل بناء السد بضغوط أمريكية.
لقد شهدت السنوات الممتدة من عام 1956، وحتى حرب تشرين الأول 1973 ثلاثية كبرى في تاريخ الحرب العربية – الإسرائيلية التي كانت مصر الطرف الفاعل الرئيسي فيها، لقد خاص المصريون بدمائهم وأرواحهم المعارك الكبرى في ملحمة يشهد لها التاريخ ضد الكيان الصهيوني دفاعاً عن أمنهم الوطني، ودفاعاً عن عروبتهم، ودفاعاً عن فلسطين، وإذا كانت اتفاقيات السلام قد خدعت الإسرائيليين وأوهمتهم أن مصر قد غابت ولن تعود وأنهم قد حسموا الصراع بالكامل لصالحهم، وأن هذا هو أوان هدم الأقصى وبناء «الهيكل» المزعوم رمزاً لدولتهم على كل أرض فلسطين وأن تكون القدس «عاصمتها الموحدة» فإنهم يخدعون أنفسهم ويصنعون الوهم بأيديهم
لم ينفصل المصريون يوماً عن فلسطين، ولا عن أن الدفاع عن فلسطين دفاع عن النفس، دفاع عن مصر، ربما تكون مشكلاتهم الداخلية قد شغلتهم قليلاً، وربما تكون الحرب ضد الإرهاب اللعين ومنظماته المتواطئة مع إسرائيل قد استحوذت على أولوية ضمن أولويات وتحديات كثيرة، لكن صرخة الأقصى أعادت المصريين مجدداً إلى المبادئ الحاكمة للصراع مع هذا العدو، وإلى استعادة الوعي بحقيقة المشروع الصهيوني الذي يستهدف مصر بالأساس.
أصداء الأقصى وتزامنها مع ذكرى «ثورة 23 يوليو» 1952 تؤكد أن تجديد المواجهة في الأقصى، لن تكون أبداً صراعاً مع المستحيل الذي يتساقط مع تساقط أرواح الشهداء في ملحمة أسطورية عنوانها الأقصى وهدفها هو فلسطين.

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

فتح ميديا أوروبا
Exit mobile version