حماس الجديدة الإذعانُ لإكراهات الواقع

بقلم: صقر أبو فخر

ي سنة 1956 صاغ الخبراء الاسرائيليون خطة دُعيت “سياسة المحيط”، وكانت تتضمن رؤية سياسية واستراتيجية شاملة في شأن دول “المحيط الاسرائيلي”، أي تركيا وإيران وإثيوبيا. وقد أفردت تلك الخطة مكانة لافتة للحركة الكردية التي كان يتزعمها آنذاك الملا مصطفى البارزاني، ورأت تلك الخطة أن جماعة من الأكراد، خصوصاً أنصار البارزاني، هم حلفاء طبيعيون لإسرائيل. ومنذ تلك الحقبة خطت العلاقات الكردية – الاسرائيلية السرية خطوات وئيدة إلى الأمام، مع أن تلك العلاقات تعود ، في بداياتها الأولى، إلى سنة 1950 حين ساهم بعض الأكراد في تهريب يهود العراق إلى اسرائيل، ثم أقام رؤوفين شيلواح (أول رئيس للموساد) صلات أولية بأكراد البارزاني في سنة 1951. وفي سنة 1963 أرسل مصطفى البارزاني الأمين العام للحزب الديمقراطي الكردستاني المدعو إبراهيم أحمد إلى باريس للاجتماع إلى ميناحيم نافوت (نائب رئيس الموساد لاحقاً)، وحمل معه في طريق العودة عشرين ألف دولار بأسعار تلك الأيام. وبعد شهر من عودته إلى أربيل وصلت الشحنة الأولى من الأسلحة الإسرائيلية. وفي سنة 1964 زار عصمت وانلي (وهو كردي سوري من أنصار البارزاني) إسرائيل والتقى يعقوب هيرتزوغ وشمعون بيريز وليفي أشكول. وشهد العالم 1965 تطوراً مهماً في العلاقات الإسرائيلية – البارزانية على يدي يعقوب نمرودي الذي كان يشغل حينذاك منصب الملحق العسكري في طهران. وفي سنة 1966 أسس الموساد أول جهاز استخبارات للبارزاني (باراستين)، وتولى مسعود البارزاني قيادته بعد خضوعه لدورة أمنية لدى الموساد. وبفضل تلك العلاقات تمكن ضابط الإستخبارات الإسرائيلية ريحافيا فاردي من التخطيط ثم تنسيق عملية فرار الطيار العراقي منير روفا بطائرته العسكرية إلى اسرائيل في 15/8/1966. ووصلت النذالة بمصطفى البارزاني إلى حد إرساله برقية إلى قيادة الجيش الاسرائيلي يهنئها فيها بانتصار حزيران 1967، ولم يلبث أن زار تل أبيب برفقة محمود عثمان في سنة 1968، وكرر الأمر نفسه في سنة 1973.

حساب البيدر
بعد ستين سنة على خطة “سياسة المحيط” ها هي اسرائيل تنعم بحصاد وفير النتائج، وهي لا تخفي أفراحها في هذا الميدان البتة. فقد صرح بنيامين نتنياهو في المؤتمر السنوي لمعهد أبحاث الأمن القومي في تل أبيب (29/6/2014) أن لإسرائيل مصلحة في قيام دولة كردية. وفي كانون الثاني 2016 أكدت إيليت شاكيد (وزيرة العدل الإسرائيلية) أن دولة كردية سيكون من شأنها أن تفصل إيران عن تركيا، وتساند إسرائيل في صراعها مع العرب. وأعاد نتنياهو التأكيد في 13/9/2017 أن اسرائيل تدعم قيام دولة كردية، وحاول في تصريحه السالف أن يبتز تركيا في شأن الورقة الكردية حين قال إن إسرائيل تعتبر حزب العمال الكردستاني منظمة إرهابية بينما لا تعتبر تركيا حركة حماس منظمة إرهابية. ثم أن إسرائيل تريد أن يكون لها، من خلال الورقة الكردية، شأن في رسم مستقبل سورية، ويمكنها أن تبيع هذه الورقة بثمن ما مثل عدم وجود قوات أمنية أو عسكرية لإيران أو لحزب الله على الحدود مع الجولان المحتل.

الفضاء العربي الآمن
في خضم هذه التحولات الخطيرة التي تحيط بفلسطين وبقضية فلسطين، فإن إعادة طرح الورقة الكردية الآن، وارتفاع العلم الإسرائيلي في سماء شمال العراق، يأتيان في سياق التغيّر الاستراتيجي الكبير الذي يلف العالم العربي، وهو انتقال بعض الدول العربية من دول معادية لإسرائيل إلى دول حليفة لها. ولأول مرة منذ نحو سبعين سنة صارت اسرائيل تتمتع بعمق عربي داعم لها، ويكاد مصطلح “دول المواجهة” يختفي من الوجود عملياً وإعلامياً. وقد تحدث عن الفضاء العربي الآمن لإسرائيل كل من الجنرال غادي أيزنكوت (رئيس أركان الجيش الإسرائيلي) والجنرال عاموس جلعاد. وتستمد فكرة الفضاء العربي الآمن قوتها من كون بعض الدول العربية تريد أن تمنح إسرائيل مزايا استراتيجية كبيرة في مواجهة إيران. وفي معمان هذا الاختلاط تتطلع إسرائيل إلى ذوبان قضية فلسطين وإلى إقصائها من الخطاب السياسي العربي في المستقبل.
وبينما تنهمك السلطة الوطنية الفلسطينية وحركة حماس في جهد متضافر لإنهاء الانقسام، تنهمك إسرائيل في ابتلاع الضفة الغربية وتغيير هويتها، والسير المتدرج نحو ضمها إلى دولة الإحتلال. وثمة تفكير في الأوساط الاسرائيلية العليا يدعو، بقوة، إلى حل السلطة واستبدالها بمجالس محلية تابعة للإحتلال، وضم الضفة، وتشجيع الفلسطينيين على الهجرة وتقديم عروض لشراء المنازل الفلسطينية بأسعار مجزية. وقد بدأت الدعوات لفرض السيادة الإسرائيلية على الضفة الغربية تتعالى بعدما راحت التصريحات الرسمية الإسرائيلية تزعم أن فكرة الدولة الفلسطينية المستقلة قد صارت من الماضي، على غرار ما أورده مرات نفتالي بنييت زعيم حزب “البيت اليهودي” ووزير التعليم في الوقت نفسه. وتتصرف إسرائيل اليوم استناداً إلى هذه الرؤية، حتى إن خطة نتنياهو الدبلوماسية تنص على السعي لدى الرئيس الأميركي دونالد ترامب كي يرعى مفاوضات فلسطينية – إسرائيلية لا تؤدي إلى حل الدولتين، بل إلى تعزيز شرعية دولة الإحتلال كدولة قومية للشعب اليهودي بالدرجة الأولى، وتأكيد حقها في ضم المستوطنات إليها، في مقابل “دولة فلسطينية” هي في الجوهر أقل من دولة، وتكاد تماثل حكماً ذاتياً موسعاً. وفي هذا السبيل تسعى إسرائيل، بل هي بدأت سعيها بالفعل، إلى إعادة الإدارة المدنية إلى بعض مناطق الضفة الغربية. وكانت البداية في 30/8/2017 حين منح أفيغدور ليبرمان وزير الحرب الاسرائيلي ألف مستوطن في مدينة الخليل استقلالاً عن البلدية الفلسطينية، الأمر الذي يعني أن هؤلاء المستوطنين سيحصلون على إدارة ذاتية لهم، وعلى المياه وخدمات البلدية الأخرى من الإدارة المدنية الاسرائيلية. وفي السياق نفسه تقدم يسرائيل كاتس (وزير المواصلات) ويوآف كيش (عضو كنيست) وكلاهما من حزب الليكود بمشروع قانون يقضي بضم خمس مستوطنات كبيرة إلى النطاق البلدي للقدس هي: بسغات زئيف ومعاليه أدوميم وغوش عتسيون وبيتار وإفرات التي يقطنها نحو 150 ألف اسرائيلي. وينص مشروع القانون إخراج مخيمات شعفاط وكفر عقب وعناتا من النطاق البلدي للقدس، وهذه المخيمات يسكنها نحو 100 ألف فلسطيني، وهو ما يعني منح حق التصويب في الانتخابات البلدية لمئة وخمسين ألف مستوطن يهودي، ومنع مئة ألف فلسطيني من ممارسة هذا الحق، الأمر الذي يعزز الوجود اليهودي في المدينة، ويشكل انقلاباً ديموغرافياً خطيراً.

إكراهات الواقع
يلوح لي أن اجتماعات الفنادق في القاهرة بين حركة حماس والأجهزة الأمنية المصرية نجحت في تحويل حركة حماس من فرع لجماعة الاخوان المسلمين إلى حركة غزية، بينما فشلت مئات اللقاءات والحوارات والمناقشات في تغيير المواقف المعتادة لحركة حماس. وبهذا المعنى صارت أولويات حماس العمل على التخلص من أعباء الحصار المفروض على قطاع غزة، وتخليص الحركة نفسها من عبء إدارته، وهو ما يعني استطراداً أن انغماس حماس في مشكلات الحياة اليومية لقطاع غزة يبرهن، مرة تلو المرة، على فشل حماس في التحول إلى حركة تحرر وطني، وعجزها عن قيادة مشروع سياسي للتحرر الوطني يحظى بتأييد الأغلبية الكاسحة من الفلسطينيين على غرار حركة فتح في طور صعودها الأول. واللافت أن خطاب حماس، إلا في حالات مخصوصة وفي مناسبات خاصة، ما عاد يشدد على تحرير فلسطين والقدس وعودة اللاجئين، بل إن مفرداته تكاد تنحصر في رواتب الموظفين وإدارة المعابر بين قطاع غزة ومصر والكهرباء ودمج العسكريين في أجهزة الأمن العتيدة… وهكذا.
ترافق هذا التحول في السياسة والخطاب مع تحول أساسي آخر هو التحول المصري. فقد أدركت مصر أن من الصعب السيطرة على سيناء والقضاء على الارهابيين فيها من دون التعاون مع حماس. ولا شك في أن أميركا واسرائيل رفعتا الفيتو عن الحوار المصري – الحمساوي بعدما انخرطت الجماعات الإرهابية في سيناء في حرب استنزاف تفتك بوحدات الجيش المصري المنتشرة فيها وفي مناطق مصرية أخرى أيضاً. ومن علائم تلك التحولات المتسارعة تغيير قيادة حماس، وإصدار وثيقة سياسية تختلف في الجوهر والشكل عن الميثاق القديم، وإدارة الظهر لجماعة الأخوان المسلمين في مصر، والتفاهم مع محمد دحلان برعاية مصرية وإماراتية، وحل اللجنة الإدارية التي كانت تدير قطاع غزة بدلاً من الحكومة الشرعية.
إنه الاذعان لإكراهات السياسة وموازين القوى المستجدة، وهذا أمر مفهوم وطبيعي؛ فالقانون الوحيد الذي لا يتغير هو قانون التغير نفسه أَكان ذلك في الاجتماع أو في السياسة. لكن، هل يتناسب وعي هذه التحولات مع الانقلابات الخطيرة جداً الجارية في الاقليم العربي المحيط بفلسطين؟ وهل إن التعديلات في المسلك السياسي لحماس التي بدأت في حزيران 2017 فصاعداً، قد جاءت حقاً نتيجة وعي شامل بهذه المتغيرات بحيث يصبح الاتساق معها أمراً محتوماً؟ إنني أشك كثيراً في هذا الاستنتاج، وأرى أن العالم القديم يتهاوى من حولنا، والسياسات الفلسطينية ما برحت على حالها.

خاص مجلة “القدس” العدد 342 تشرين اول 2017

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

فتح ميديا أوروبا
Exit mobile version