النكبة مزدوجة… والقيامة على خطى الأقصى

بقلم: عريب الرنتاوي

يبدو أن العرب، حكومات وشعوب على حد سواء، قد استنفذوا قدرتهم على الرفض والاعتراض على الموقف الأمريكي بشأن الاعتراف بالقدس عاصمة إلى إسرائيل ونقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إليها … كل ما يمكن أن يدولوا به أو يقوموا به من احتجاجات، انتهى بعد بضعة أيام وأسابيع من قرار ترامب في السادس من كانون أول/ ديسمبر الفائت، ولم تعد بهم حاجة للعودة من جديد للاعتراض والاحتجاج، مع أن واشنطن كذبت عليهم، والسفارة التي كان من المفترض أن يستغرق نقلها ثلاث سنوات، ستنقل في غضون ثلاثة أشهر، والموعد الذي حدد لافتتاحها استفزازي للغاية، إذ يتزامن مع احتفال إسرائيل بالذكرى السبعين لـ”استقلالها”، وهي ذاتها الذكرى السبعين للنكبة الفلسطينية الكبرى.

حتى البيانات المعتادة في مثل هذه الحالات والمناسبات، بدت شحيحة ونادرة هذه المرة، لكأن ما قيل ثلاثة أشهر، يكفي ويفيض عن الحاجة، فالمهم أن العواصم العربية، سجلت في “المنتديات” وعبر وسائل الإعلام، موقفها “التاريخي”، و”كفى الله المؤمنين القتال”، أو لكأن لسان حالهم يذكرنا ببني تغلب في العصر الجاهلي، الذين ألهاهم عن كل مكرمة، قصيدة قالها عمرو بن كلثوم، والناطقون الإعلاميون العرب، باسم الحكومات أو وزارات الخارجية، يستلهمون دور الشاعر الجاهلي، صاحب المعلقة الشهيرة، وإن بلسان عربي غير مبين.

قرار واشنطن استعجال نقل سفارتها إلى القدس وتقديمه، هو الصفعة الثانية التي توجهها واشنطن لخصومها وأصدقائها من العرب، على حد سواء، والقرار جاء ليقضم ما تبقى من صدقتيها وصدقية هؤلاء، وتوقيته أشد وقاحة، وأوضح دلالة على الاستخفاف بنا حكومات وشعوب، والسخرية من معتقداتنا وعقائدنا، وإدارة الظهر لمصالحنا وتطلعاتنا وأشواقنا، وعدم احترام روابط “الصداقة” و”التحالف” التي تشد عرى حكومات وأنظمة عربية بالدولة الأعظم، لقد كذبوا علينا جميعا، نحن أصدقاء واشنطن وخصومها، من دون أن نحرك ساكناً، ومن دون أن نكلف أنفسنا عناء الذهاب إلى احتجاج سلمي أو استصدار بيان مقتضب.

العرب الرسميون في مواقفهم من القدس، يتوزعون إلى فئات ثلاث، “عاجز” و “لا مبال” و”متواطئ” … أما العرب “الشعبيون” أو “الأهليون”، فلا حول لهم ولا قوة، في هذه وفي غيرها من القضايا، بما فيها تلك التي تمس حليب أطفالهم وخبز نسائهم وشيوخهم وحبة الدواء والاستشفاء، والملجأ والمأوى والملاذ الآمن، في عصر الاستباحة التامة لشعوبنا ومجتمعاتنا.

عاجزون، ليست لديهم أية أوراق يشهرونها، وإن توفرت لهم، فهم يفضلون تجنب صدارة الصفوف أو “بوز المدفع” في العلاقة مع سيدة العالم، على أمل أن يقوم غيرهم بالمهمة نيابة عنهم …. أيديهم مغلولة إلى أعناقهم، وليدهم من الحسابات والتحسبات، ما يكفي لأن تقابل صيحاتهم الخافتة بالتجاهل، والمرور من فوق تحفظاتهم، وكأن شيئاً لم يكن، أو لكأنها لم تقل ولم تسمع.

لا مبالون، تأخذهم الجغرافيا والمسافات البعيدة إلى ملفات أخرى وأولويات أخرى، ينظرون إلى “أهل مكة” والمكتوين بنار الصراع في فلسطين، فلا يرون لهم حراكاً يذكر، فلماذا يتحركون وهم القابعون في زوايا الوطن العربي وأطرافه، ولماذا يكونون كاثوليك أكثر من البابا نفسه، ولماذا ينافسون دول الطوق، وهم الذي احتسبوا تاريخياً على دول الدعم والإسناد.

متواطئون، يعرفون ما يجري تمام المعرفة، ويوافقون عليه تمام الموافقة، يريدون الخلاص من “عبء” القضية الفلسطينية، لكأنهم طالما رزحوا تحت نيرها الثقيل … يريدون التفرغ لمواجهات أخرى وحروب أخرى ضد أعداء آخرين … يتنافسون فيما بينهم على كسب “الوكالة الحصرية” لواشنطن في الإقليم، وهل أفضل من بوابة تصفية القضية الفلسطينية للوصول إلى قلب واشنطن وعقل إسرائيل، وهل أفضل من القدس بوابة تعيد “الأمة الإسرائيلية” إلى “أرض الميعاد” وتخرج الأمة العربية من التاريخ والجغرافيا … هل أفضل من التطوع لتطويع الشعب الفلسطيني وقيادته، من وسيلة للبرهنة على صفاء النية وحسن الالتزام والتنفيذ … هل ثمة من أوراق اعتماد أفضل من كل هذه، للحصول على رضى السيدين الأمريكي والإسرائيلي.

في الذكرى السبعين للنكبة، سيُرفع العلم الأمريكي فوق السفارة الأمريكية في القدس، وسنكون أمام “نكبة مزدوجة”، أو “نكبة في النكبة”، لم يحبس أحدٌ أنفاسه، وسنكون بانتظار يومٍ عادي آخر، وإن شهد بعض الاحتجاجات، فسرعان ما ستتلاشى مع إشراقة شمس اليوم التالي، وستعاود العواصم والمحاور العربية، صراعها على الورقة الفلسطينية، هذا يريدها قرباناً لترامب وصفقة العصر، وذاك يريدها غطاء لدور إقليمي جعل من الإخوان المسلمين حصان طروادة له، وثالث يريدها شعاراً يصلح لحشد التأييد والشرعية في إطار ما يسمى محور المقاومة والممانعة.

القدس أيها السادة، بمقدساتها الإسلامية (الأقصى أساساً) والمسيحية (القيامة التي أغلقت أبوابها)، سقطت سهواً من الحسابات العربية، وكل ما يقال بخلاف ذلك، ليس سوى ذر للرماد في العيون، أو محاولات يائسة وبائسة، لا ترقى إلى مستوى “ورقة التوت”، فالعورات أكبر أكثر اتساعاً من أن تسترها ورقة توت، وكل أشجار التوت في العالم، لم تعد أوراقها تكفي لستر عوراتنا.

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

فتح ميديا أوروبا
Exit mobile version