جلد الذات ووهم الهجوم

بقلم: عمر حلمي الغول

كثير من المراقبين في الأوساط الفلسطينية والعربية يتلذذوا ويستمرأوا لعبة جلد الذات الوطنية أو القومية لتبرئة دورهم، أو للمبالغة في نقد الذات العامة، أو للإعلاء من شأن الذات، وفي السياق إعفاء العدو والآخر عموما من مسؤولياته تجاه أي مسألة مثارة. وهذا يعود بالشعور بالنقص، الذي يلازم العربي عموما والفلسطيني خصوصا، مما يدفعه للغرق في دوامة “تسفيه” الذات و”تضخيم” دور الآخر.
نعم العامل الذاتي عامل أساسي وهام جدا في اي معادلة إن كان على المستوىات الفردية أو الجمعية أو الحزبية أو الوطنية والقومية. ولا يمكن التقليل من مركزية الذات في أي فعل أو نشاط على الصعد المختلفة، لإنه عامل مقرر. ولكن العامل الذاتي ليس مطلق القدرة، ولا كلي التقرير في كل المسائل، وفي ظل الشروط والمعطيات المختلفة، لإنه محكوم بضوابط ومحددات العوامل الموضوعية. وكونه جزءا من معادلة أعم وأشمل، لذا لا يستطيع تجازوها، إن كانت شروط كابحة. وبالتالي الشروط الموضوعية تصادر بشكل فج في لحظات تاريخية محددة من حياة الأفراد والجماعات والشعوب دور التقرير والحسم في آن في العمليات المختلفة.
غير ان عملية المصادرة آنفة الذكر إستثنائية، وليست دائمة، لإن مطلق عامل موضوعي مهما كان ممسكا بزمام الأمور يبقى أيضا محدود التأثير والتقرير في ظل عدم إستجابة العامل الذاتي مع ما يطمح ويهدف له العامل الخارجي.
وعليه إذا دققنا في المعادلة الفلسطينية القائمة الآن، التي تتمثل في مواجهة صفقة القرن الأميركية والهجوم الإستعماري الإسرائيلي، فإننا نلحظ ان موازين القوى تميل لصالح معسكر الأعداء الإسرائيلي الأميركي ومن يدور في فلكهم، ولهذا إمتلكوا قدرة أعلى في التقرير في مسائل ذات صلة بالعامل الذاتي الفلسطيني. لكنهم رغم تكبيلهم العامل الذاتي الوطني، وتضييق الخناق عليه، ومحاصرته، ومحاولة الإلتفاف عليه، والحد من قدرته على تحديد مصيره ومستقبله، غير انهم فشلوا حتى الآن فشلا ذريعا في تجاوزه أوتصفيته، لإنه مازال عصيا عليهم، وكونهم لم يتمكنوا من تطويعه وإدخاله دائرة الإستسلام.
هذة المعادلة المعقدة في الصراع، ولإستعصاء الإدراك العميق لمركبات العلاقة الديالكتيكية بين الذاتي والموضوعي عند البعض من المراقبين، او لإفراط البعض بإدعاء “الذكاء”، والإعتقاد بأنهم هم من يملك المفاتيح الذهبية ( الحاوي) في فتح الأبواب المغلقة في كل الملفات وخاصة عند الأعداء شرط ان “نقدم انفسنا” كما يجب امام العالم، وكأن أميركا وإسرائيل لا تعرف عن ظهر قلب ما نريده، وما نقبل به، وما لا نقبل به، وحتى نرتقي لذلك، يطالبنا بعض المراقبين ب”الهجوم” على إعتبار أنه خير وسيلة للدفاع! وكأنه إكتشف فتحا جديدا في فن السياسة. مع انه يعلم أن مقولة “الهجوم” قديمة قدم التاريخ نفسه. كما انها ليست عملية مجردة أو خارج نطاق محددات هذة المعادلة أو تلك، وبالتالي لكل هجوم ركائزة في لحظة من اللحظات السياسية، وإلآ يصبح هجوما ساذجا وأرعنا، ويجلب الهزيمة. ولا يفوت المرء إستحضار مقولة الرئيس اللبناني، سليمان فرنجية إن لم أكن مخطئا، الذي قال “إن قوة لبنان في ضعفه!”، وهو شكل من اشكال الهجوم، ولكن الهجوم السلبي.
ومع ذلك القيادة الفلسطينية برئاسة الرئيس ابو مازن مازالت تواصل الهجوم دفاعا عن الذات الوطنية، وحددت الف مرة ما تريد من السلام، وأكدت تمسكها بخيار التسوية السياسية الإستراتيجي، ورفضت النكوص عنه، ولكنها قالت بصوت واضح وعميق وقوي: لا كبيرة لترامب وصفقته المشؤومة، وقالت لا كبيرة لحكومة نتنياهو ومشاريعها الإستعمارية، ورفضت العودة للمفاوضات من أجل المفاوضات، ولهذا وضعتهم ومن يقف معهم في الزاوية، وحاصرت أميركا ترامب، وعزلته، رغم ما لدى الولايات المتحدة من ثقل عالمي في كل المحافل والمنابر الدولية والإقليمية والعربية، وحتى داخل الساحة الفلسطينية.
إذاً الأمر لا يعالج بالهجوم العفوي والتبسيطي، بل بمحددات واعية وهادفة، ولا يتم الخروج من المأزق بجلد الذات أو تجاهل أهداف مشاريع ومخططات العدو الإسرائيلي الأميركي، بتعبير آخر قبل ان يقدم أي مراقب النصح في هذة المسألة أو تلك، عليه أن يقرأ أهداف ومصالح العدو، والشروط الموضوعية والذاتية وثقل كل منها في المعادلة السياسية، قبل ان يقول “علينا ان نعمل كذا وكذا”، كل ما نقوله لا يسمعه العدو، ولا يريده، والعالم غير قادر على فرض ما نقبله وما يتوافق مع مرجعيات عملية السلام ومواثيق وقوانين الشرعية الدولية. لإن العالم مازال أسيرا وخاضعا لمنطق الولايات المتحدة، ووغير قادر على تجاوز محددات وعد بلفور حتى الآن. النتيجة المرة الناجمة عن سياسة الهجوم الوهمية: لا قيمة لإي هجوم إلآ بقلب الطاولة رأسا على عقب، عندئذ يمكن ان يكون للهجوم النتائج المرجوة. أما الهجوم من تحت الطاولة سيبقى ضعيفا ومجرد وهم وإستجداء فتات الفتات، وهو ما لا يقبله الفلسطيني الوطني.
oalghoul@gmailcom
a.a.alrhman@gmail.com

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

فتح ميديا أوروبا
Exit mobile version