“عفريت” في البيت الأبيض

بقلم: أيمن حسين

أعلن مجلس النواب الأميركي، في سبتمبر الماضي، عن بدء إجراءات عزل الرئيس دونالد ترامب من منصبه بسبب مكالمة بينه وبين فلوديمير زيلينسكي رئيس أوكرانيا، طالب خلالها ترامب من نظيره الأوكراني التحقيق مع هانتر بايدن نجل جو بايدن المرشح الرئاسي المحتمل عن الحزب الديمقراطي في الانتخابات الرئاسية الأميركية المقرر إجراؤها العام المقبل، وأشرس المنافسين المتوقعين لترامب.
صحيح أن مجلس النواب اتخذ خطوات فعلية في إجراءات العزل؛ لكن يبقى أن تجريد ترامب من منصبه مسألة تستغرق الكثير من الوقت، ربما يكون قد ترك منصبه ـ إذا ما فشل في الانتخابات المقبلة. فالأمر يتعلق بحزمة إجراءات ولوائح ونصوص دستورية وقانونية ولجان تحقيق واستماع ومحاكمة، سواء في مجلس النواب أو مجلس الشيوخ؛ لكن يبقى هناك تساؤل إجابته مفقودة، رغم محوريته وهو: من الذي أبلغ عن مكالمة ترامب؟
الشخص الذي قام بإبلاغ الجهات الأميركية بالمكالمة كتب خطابات إلى رؤساء لجان مجلس الشيوخ، في 12 أغسطس الماضي، معربًا عن قلقه بشأن مكالمة هاتفية جرت في 25 من يوليو الماضي، بين الرئيس ترامب والرئيس الأوكراني، وقال في رسالته إلى مسؤولي مجلس الشيوخ إنه لا يعمل في البيت الأبيض، وقالت تقارير إعلامية أميركية إنه من المرجح أنه ضابط بوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، وأن يكون عمل في البيت الأبيض في وقت ما، وذلك لترجيح قدرته على الاتصال بأشخاص يعملون هناك.
وقال المفتش العام لأجهزة الاستخبارات الأميركية، مايكل أتكينسون، في رسالة إلى القائم بأعمال رئيس جهاز الاستخبارات القومية، إنه يعرف هوية المبلغ عن المخالفة، لكنه طلب عدم الكشف عنها، حتى أن رجال السلطة التشريعية في الولايات المتحدة لا يعرفون هوية هذا الشخص، رغم قيامهم ببدء التحقيقات مع ترامب.
القضية برمتها معروف مضمونها، وأقر بها ترامب نفسه، رغم محاولاته لتبرير موقفه؛ لكن هوية الشخص الذي حركها مجهولة، فكل ما يعرفه الإعلام عن المُبلِغ هو أنه ضابط استخبارات أميركي حالي وربما سابق، لكنه كان كذلك وقت كتابته تلك الخطابات على الأقل، بل ولا يعرفون إن كان رجلا أو امرأة، وفي أي الإدارات أو الأقسام يعمل، ولا يعرفون كيف راقب المكالمة وتحصل على مضمونها في ظل القبضة المحكمة لرجال ترامب على مقاليد الأمور في مبنى البيت الأبيض، لدرجة ترجح أن من فعل هذا ليس بشرًا يعرفونه، وربما يكون “عفريتًا”.
العمل الاستخباراتي القوي هو الذي يلتزم بحماية الدولة ونظامها ومبادئها، ويحترم قوانينها ويراقب تنفيذها، ويكون ولاء الاستخبارات لكيان الدولة وليس لأشخاص، فالأشخاص زائلون والأوطان هي الباقية، وما فعلته الأجهزة الاستخباراتية في الولايات المتحدة درس جديد في كيفية مراقبة الأنظمة وحماية الدولة من الاختراق، حتى لو كان من اخترقها رئيسًا، فلم تقدم نانسي بيلوسي رئيسة مجلس النواب ما يبرهن انبطاحها وانبطاح السلطة التشريعية أمام رئيس السلطة التنفيذية، بل تحركت على خط المواجهة مع النظام مستمدة قوتها من التصويت الشعبي الذي وضعها ونوابها على كرسي البرلمان، ولم نجد الأجهزة الاستخباراتية والأمنية تعمل على تنفيذ توصيات وتوجيهات ترامب إلا للصالح العام؛ وليس لسحق شعبه.
عمل الأجهزة الاستخباراتية الأميركية هو عمل حساس ووطني ومنظم، ويعمل رجال هذه الأجهزة وفق خطط مدروسة، يوزعون الكفاءات الوطنية في مؤسسات الدولة، ويحتفظ الجميع بسرية المهام، ولا يتم الإفصاح عن الهوية مهما حدث، ويمارسون عملهم تحت شعار الإخلاص لأميركا أولًا؛ وليس الإخلاص للرئيس.. بالطبع فإن ترامب الذي أزاح آلافا من البيت الأبيض موالين لسلفه باراك أوباما ووضع مكانهم آلافا من رجاله المخلصين، بات لا يعرف “العفريت” الذي سرب مكالمته للأجهزة الاستخباراتية؛ لكنه أصبح يدرك أن البيت الأبيض به “عفريت” لن يستطيع طرده أو رؤيته أو الكشف عنه أو استئصاله، وأن الأجهزة تدرك قيمة الحفاظ على الوطن وليس الرئيس، بل وإن أجهزة الدولة بها “عفاريت” أخرى لا يعلمها أحد.

عن صحيفة “الوطن” العمانية

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

فتح ميديا أوروبا
Exit mobile version