مأسسة القمع

في هذه الأجواء المأزومة كان من الصعب لنبتة الأنسنة التي وصلتنا من ضمن ما وصلنا من منتجات الفكر الحديث أن تينع. بل إنها ذوت واضمحلت بعد انتعاش أولي بسيط بتأثير التراث العميق لتفضيل حق الجماعة على حقوق الفرد من جهة والقبضة الحديد التي اعتمدتها كل الأنظمة العربية من دون أي استثناء يذكر من جهة أخرى. أول الضحايا كان الحقوق القانونية والدستورية المتواضعة التي تدهورت تدهوراً شاملاً تحت الأنظمة الشمولية.ثم جاء تراجع الفكر الإنساني والنقدي اليافع الذي كان قد بدأ يظهر في بدايات القرن العشرين في أعمال مفكرين وأدباء وفنانين من الشام ومصر والعراق وشمال أفريقيا، وتبعه اضمحلال المؤسسات النقابية الخجولة.
هكذا أصبح الجو مهيأً للأنظمة للانفلات من كل سلطة أدبية أو قانونية أو دستورية للحفاظ على مكاسبها. فانطلق توحشها من عقاله من دون رادع أو رقيب. وتضاعفت أعداد مساجين الرأي والاعتقاد والسياسة الذين يعتقلون من دون محاكمة ويعذبون وأحياناً يقتلون أضعافاً مضاعفة. ولم تعد الأنظمة بحاجة إلى أي غطاء قانوني أو أخلاقي لتبرير تغولها، بل إنها لم تعترف به أصلاً وأبقت كل المعلومات عن ممارساتها الهمجية سراً.هكذا وصلنا إلى حيث نحن اليوم. تتبارى أنظمتنا المتهالكة في القمع والسجن والتشريد والتجريد من الجنسية والتعذيب والاغتيال وقصف المناطق الثائرة عشوائياً، ويتبارى أعداؤها الثائرون والمسلحون من كل الاتجاهات، مع غلبة الجهاد التكفيري طبعاً، في التفجير والتفخيخ والقتل والتعذيب. كلا الطرفين فقد انسانيته أو طرحها من ضمن ما طرح من معطيات ثقافة الأنسنة التي رفضها.
لكننا نحن أيضاً، الناس، الشعب، المواطنين، الأفراد، فقدنا إنسانيتنا أيضاً. فقد رضخنا لسطوة أنظمتنا الغاشمة وقبلنا بالوضع المأسوي لحقوق الإنسان ونسينا معذبينا وسجناءنا بل واستمرأنا مناظر التعذيب على وسائل التواصل الاجتماعي التي تحقق أكبر أرقام مشاهدة. ولعل المستعرب الياباني نوبوأكي نوتوهارا لم يذع سراً حين كتب عام ٢٠٠٣: «السجناء السياسيون في البلدان العربية ضحوا من أجل الشعب، ولكن الشعب نفسه يضحي بأولئك الشجعان. انعدام حس المسؤولية طاغٍ في مجتمعاتهم». وأزيد عليه، انعدام الإنسانية طاغٍ أيضاً.
ناصر الرباط كاتب سوري وأستاذ في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا M.I.T.

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

فتح ميديا أوروبا
Exit mobile version