نحن والانتخابات الأمريكية في ظل واقع المتغيرات الدولية

بقلم: مروان اميل طوباسي*

إن استمرار المعدلات المرتفعة بالإصابة بفيروس كورونا في صفوف الأمريكيين ومنهم ترامب الذي لثيب بها ، قد يضطر نسبة كبيرة منهم إلى الإحجام عن المشاركة في الانتخابات وسط تفشي الفيروس ، فهناك خطر حقيقي من انخفاض نسبة المشاركة فيها بصورة كبيرة، وهو الأمر الذي قد يهدد شرعيتها، ولعل هذا ما يفسر التساؤلات التي طرحها بعض السياسيين والمتابعين، بما فيهم ترامب نفسه، حول إمكانية تأجيل هذه الانتخابات في حال استمرت جائحة كورونا أو تفاقمت ، والاغلب انها ستستمر مع كل تداعياتها على الجوانب المختلفة لحياة البشرية والاقتصاد العالمي الذي يشهد ومنذ فترة أزمة عميقة ومتصاعدة لعدم قدرة النظام الراسمالي على إيجاد حلول مباشرة .

ورغم ذلك، فإن اهتمامنا كفلسطينين بهذه الانتخابات ناتج من أن منطقة الشرق الأوسط تحظى بأهمية كبيرة لدى الولايات المتحدة واداراتها وهي من المواضيع الأساسية في هذه الانتخابات ، لاعتبارات سياسية واستراتيجية واقتصادية وأمنية ودينية حتى ، حيث هناك مجموعة من الثوابت التي ترتكز عليها السياسة الأمريكية في التعامل مع هذه المنطقة، بغض النظر عمَّن يحكم البيت الأبيض وعن انتمائه لإي من الحزبين.
حيث تتمثل أهم هذه الثوابت في الحفاظ على أمن إسرائيل، بما يمثل هذا الأمر مصلحة أساسية للولايات المتحدة بالنظر للارتباط العضوي بين البلدين المتمثل في وجود ما يعتقدون هُم قيم مشتركة وتجانس ثقافي بين المجتمعين الأمريكي و الإسرائيلي ، وهذا ناتج عن ان الدولتين في واقع الأمر تم انشائهم على حساب حقوق ووجود اهل البلاد الأصليين، والنظام بالبلدين مارس وما زال التمييز العنصري ليس بحق اهل البلاد الأصليين فقط ، وأنما بحق الاقليات فيها أيضا ، فضلاً عن الدور الذي تلعبه جماعات المصالح اليهودية في الولايات المتحدة وجماعات المسيحين الصهيونين والانجيليين التي تعمل على إظهار توافق بالرؤية الدينية لجماعات أمريكية حول الاسطورة التوراتية المزعومة والتماهي الديني بين المجتمعين ، وبالتالي فإن هذه الجماعات تعمل على إيجاد وتعزيز بيئة سياسية مؤيدة لإسرائيل، ومدافعة عنها وعن سياسات الاحتلال ، ولهذا فإن الحقيقة التي يتفق عليها جميع رؤساء الولايات المتحدة، بغض النظر عن انتماءاتهم الحزبية، هي الحفاظ على أمن إسرائيل وضمان تفوقها النوعي على جميع جيرانها، واستدامة تنفيذ إسرائيل للهدف الاستعماري الذي أنشئت من أجله، بالرغم من بداية وجود تحولات طفيفة في نظرة الأمريكيين لسياسات إسرائيل ومن ضمنهم جماعات و منظمات أمريكية يهودية.

ثابت اخر من تلك السياسات يتعلق بجعل منطقة الشرق الأوسط خالية من أسلحة الدمار الشامل باستثناء إسرائيل، حيث تسعى الولايات المتحدة إلى منع انتشار أسلحة الدمار الشامل بكل أنواعها، لأنها تدرك أن انتشار هذه الأسلحة يهدد أمن إسرائيل وأمن مصالح الولايات المتحدة والاستقرار في المنطقة وفق الرؤية الأمريكية لهذا الاستقرار الانتقائي ، وهي طبعاً تستثنى دولة الاحتلال من تلك القاعدة.
إضافة إلى ثابت اخر من تلك المحددات والمتعلق في ضمان أمن الطاقة والحفاظ على تدفق النفط بأسعار مناسبة كما هو حاصل منذ استخراج البترول في المنطقة، إضافة إلى الغاز الطبيعي ومحاولة السيطرة على مصادره بمنطقتي الشرق الأوسط وشرق المتوسط ،وهذا ما أكده قرار الكونغرس بالخصوص قبل عام وما تبع ذلك من رعاية اتفاقية خط الميد ايست للغاز بين إسرائيل واليونان وقبرص وإيطاليا، كذلك الدور الأمريكي المحموم الان في محاولة تسوية النزاع اللبناني الإسرائيلي بخصوص الحدود المائية وما له علاقة بمخزون الغاز فيها ، ولهذا فإن ضمان إمدادات الطاقة (النفط والغاز الطبيعي) يعد هدفاً استراتيجياً مهماً للولايات المتحدة من خلال شركاتها الراسمالية الاحتكارية الكبرى ومن الثوابت والمنطلقات التي لا يمكن التنازل عنها، خاصة في إطار الصراع على الطاقة ولعبة مواجهة خطوط الغاز الروسية الى أوروبا الوسطى وما هو مرتبط بذلك الأمر الان من دور للاعبين جدد بالمنطقة وترتيبات الأوضاع بالبلقان وما يجري حتى بالقوقاز وشرق المتوسط الذي شكل محور اهتمام وزير الخارجية الأمريكي خلال زيارته للمنطقة الاسبوع الماضي بهدف ترتيب أوضاعها وفق المصالح الأمريكية ، بالإضافة إلى مجريات الأحداث في القرم وبيلاروسيا وإلتى تحاول الولايات المتحدة البناء عليها في إطار سياساتها لمحاولة حصار روسيا من الأراضي والمنطقة الاوسع في اوراسيا و اقتراب الناتو من حدودها الغربية.

رغم أن الحملات الانتخابية الرئاسية الأمريكية غالباً ما تركز على القضايا الداخلية التي ترتبط بالمواطنين الأمريكين بشكل مباشر، كالتعليم والرعاية الصحية وأنظمة الضمان الاجتماعي، إلا أن قضايا الشرق الأوسط كانت حاضرة في أجندة كل من دونالد ترامب وجو بايدن، وحملاتهما الانتخابية.
حيث دعم إسرائيل الثابت وموضوع القضية الفلسطينية، يعتبر من القضايا الهامة التي يتم إثارتها في الانتخابات الرئاسية الأمريكية، حيث يسعى كل مرشح لتوظيفها سياسياً للحصول على دعم اللوبي اليهودي وتحديدا المسيحين الصهاينة المؤثرين في هذه الانتخابات؛ وفي الوقت الذي يسعى فيه دونالد ترامب إلى إثبات أنه أكثر الرؤساء الأمريكيين تنفيذاً لوعوده في ما يتعلق بتصفية القضية الفلسطينية ودعم إسرائيل وولائه لها والمساهمة في تنفيذ مشروع الرؤية التوراتية لإسرائيل الكبرى ، بالنظر إلى أنه قام بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس، واعترف بالسيادة الإسرائيلية على مرتفعات الجولان، ثم أعلن أخيراً عن خطته الداعمة لضم إسرائيل كل مستوطنات الضفة الغربية وغور الأردن في الأراضي الفلسطينية المحتلة ورعاية اتفاقيات التطبيع. فإن جو بايدن هو الآخر من المؤيدين لإسرائيل وكان قد صرح في العديد من المناسبات بأنه ملتزم بأمن إسرائيل، كما يدعم إبقاء السفارة الأمريكية في القدس، لكنه يتبنى رؤية مختلفة بعض الشيء عن ترامب لحل القضية الفلسطينية، حيث صرح بأنه يدعم مبداء حل الدولتين لانهاء الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني ، ويرى أن نهج ترامب الأحادي قد جعل الوصول إلى تسوية على أساس حل الدولتين أكثر صعوبة، ويطالب بايدن إسرائيل بوقف النشاط الاستيطاني في الأراضي المحتلة، مع استبعاد التغيير الجوهري بالخصوص، لكنه قد يكون أقرب إلى رؤية وسياسات حقبتي كلينتون واوباما بما فيها رؤية الشرق الأوسط الجديد الذي يعبر عن المصالح الأمريكية وعلاقة التعاون مع قوى الإسلام السياسي بالمنطقة الذي شكل علامة هامة في تلك الفترات ادت الى بروز ما يسمى بالربيع العربي بهدف تحطيم شكل الدولة الوطنية في أجزاء من العالم العربي التي نشات بعد مرحلة الاستعمار.

أن ما يسمى بخطة السلام “صفقة القرن” التي أعلن عنها ترامب و نتنياهو في يناير 2020، والتي تشجّع إسرائيل على ضم ثلث مساحة الضفة الغربية الفلسطينية المحتلة ، تستهدف في جانب اساسي منها إعادة انتخابه، من خلال حشد الدعم له في أوساط الأمريكيين الإنجيليين (الذين يشكّلون حوالي ثلث الناخبين)، وهذا ما ينطبق على اتفاقيات التطبيع مع إسرائيل وإلتى تجاوزت مبادرة السلام العربية بل وحتى حقوق شعبنا الفلسطيني الثابته وفي مقدمتها حق تقرير المصير ، وهي اتفاقيات تطبيع تخدم استدامة الاحتلال والمشروع الاستيطاني ولا تؤهل الي اي سلام حقيقي، وتخدم البرنامج الانتخابي لترامب كما لنتنياهو أيضا الذي يهرب الى الامام في مواجهة ازمته الداخلية المتفاقمة الان.

ان اتفاقيات التطبيع مع دول او أنظمة وظيفية بعيدة المسافة ، لن تجلب لا السلام ولا الاستقرار لإسرائيل، بل انها تعكس أزمة ثقة تعيشها إسرائيل مع جيرانها طالما هي دولة احتلال، وتعكس عزلة وأزمة داخلية تعيشها إسرائيل وتجسد واقعها كدولة فصل عنصري.

وفي المقابل، فإن بايدن يتحفظ على هذه الخطة، ويعارض ضم أراضي من الضفة الغربية الفلسطينية المحتلة بإستثناء الكتل الاستيطانية الكبيرة ، باعتبارها تقوض فكرة حل الدولتين، وهذا الموقف وإن كان يمثل رادعاً لإسرائيل، إلا أنه قد يدفعها إلى سرعة تنفيذ مخطط الضم وتنفيذ اتفاقيات تطبيع جديدة قبل إجراء الانتخابات الرئاسية الشهر القادم ، حيث امر فوز ترامب غير مضمون حتى وفق مؤشرات الاستطلاع الأخيرة وما تبع المناظرة السخيفة بينهما التي عكست أيضا جوانب أزمة الحزبين.

وفي حال فوز ترامب بالانتخابات الرئاسية، فإنه سيواصل السياسات نفسها، تجاه مزيدا من عداء المنظمات الأممية وتجاوز القانون الدولي خاصة في منطقة الشرق الأوسط في ولايته الثانية بشكل اكثر توحشا وعصبويا بل وحتى بكل أشكال المؤامرة ، لكن في حال فوز جو بايدن في السباق الانتخابي، فمن المحتمل أن تشهد السياسة الأمريكية بعض المتغيرات الناعمة تجاه بعض القضايا، والتي تعبر عن رؤيته للسياسة الخارجية ولطبيعة الدور الذي يفترض أن تلعبه الولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط والنظام الدولي بوجه عام وإلتى تميل الي رؤية ما يسمونه بالسياسة الأخلاقية المزعومة للولايات المتحدة و الابقاء على الدور الأمريكي بهيئة الام ومنظماتها لمحاولة كسر العزلة وتخفيف حدة التوتر في أمريكيا اللاتينية ومع إيران والعودة إلى عدد من الاتفاقيات مع روسيا ، إضافة إلى محاولة فرملة منهج التطرف اليميني الإسرائيلي، علما بوجود تباينات سياسية حتى داخل حزبه حول الأمر.
وسيكون من الممكن وجود منطلقات في البحث عن مسار جديد لحل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، إذ من المحتمل أن تبحث الولايات المتحدة – في حال فوز بايدن- عن صيغة جديدة لتسوية الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي وقد يكون ذلك من خلال التعاون مع الاتحاد الأوروبي، الذي اضعفه ترامب بخروج بريطانيا منه وتشجيع الخلاف الفرنسي الألماني فيه ، بالإضافة إلى روسيا ، في ظل المعارضة الواسعة لخطة ترامب للسلام حتى من بعض اليهود الأمريكيين والتي يطلق عليها “صفقة القرن”، والسعي إلى التفاهم مع حكومة نتنياهو على ازالة قضية ضم مناطق في الضفة الغربية من جدول أعمالها، وبلورة صيغة أخرى، على أمل استئناف المفاوضات بيننا وبين إسرائيل وحل القضايا العالقة ، الأمر الذي لن يكتب له النجاح في حال تجاوزت أفكاره أيضا الحقوق الوطنية الغير قابلة للتصرف لشعبنا الفلسطيني وللقانون الدولي و مقررات الشرعية الدولية، الأمر الذي سترفضه قيادتنا وسيرفضه شعبنا الفلسطيني كما رفض صفقة القرن وغيرها من مشاريع التصفية.

إن افكار بايدن لن تخرج عن سياسات الدولة العميقة بالولايات المتحدة التي لا يسمح لاحد بتحاوزها، حيث ما تزال منطقة الشرق الأوسط تحظى بأهمية في السياسة الخارجية الأمريكية، ليس فقط لما تمثله المنطقة من أهمية اقتصادية وجيوسياسية، وإنما أيضاً لارتباطها بالصراع بين القوى الكبرى على تأكيد المكانة والنفوذ في النظام الدولي، ولهذا فإن هناك ثوابت عامة تنطلق منها هذه السياسة، ولا تختلف باختلاف انتماءات الرئيس، سواء كان ينتمي إلى الحزب الجمهوري أو الديموقراطي، لكن آليات وأدوات تنفيذ هذه السياسة هي التي تختلف، و إسرائيل ستبقى تتلقى الدعم باعتبارها مشروعا استعماريا وظيفيا في قلب الوطن العربي، يخدم السياسة والمصالح الأمريكية الاستراتيجية .

لكن مع تسارع المتغيرات الدولية وانتشار الجائحة بالعالم وما لها من تبعات كبيرة على الاقتصاد العالمي ونمط الحياة الاجتماعية وتحديدا في أمريكيا، فإننا نلاحظ اليوم بدايات تفكك المجتمع الأمريكي وبروز الاحتجاجات المناهضة لسياسات وممارسات الدولة المتعلقة بالتمييز العنصري والاستغلال وعودة ظاهرة اضطهاد السود الأمريكيين وبروز نظرية ومنهج العرق الأبيض المتفوق.
حيث لم يعد بالإمكان إعادة لحمة هذا المجتمع الغير متجانس اصلا لاختلاف الأصول والاعراق و الثقافات فيه ، وعدم نجاح تنفيذ قصة الحلم الأمريكي او الشعب الأمريكي الواحد.
ان الحفاظ على وَهم الوحدة الأمريكية بات اليوم صعبا ان لم يكن ذلك مستحيلا، وبأقل تقدير فقد أوجد نهج ترامب خلال السنوات الماضية نوعين رئيسين من الامريكان، شعب ترامب والشعب المضاد لترامب مما خلق هذا الانقسام الهائل بالمجتمعات الأمريكية .
و يسعى ترامب اليوم لاعادة جميع القوات المسلحة الامريكية المتواجدة خارج أراضي الولايات المتحدة وتركيز حضوره خلف جبهة قادرة داخلية وتحالفات خارجية قادرة على مواجهة الصين وروسيا والحفاظ على إدارته اليمينية المتطرفة التي يحاول بناء مثيلاتها في أوروبا وأمريكيا اللاتينية بالتحالف مع إسرائيل.
ان الدولة العميقة في أمريكا لم تعد تؤدي دورها لرسم سياسات استراتيجية كما كان سابقا بعد فشل مكوناتها في تقديرات وتقيم مستقبل سياسة أمريكا الخارجية بل والداخلية حتى مع بروز التناقضات ، وهذا برأي احد اهم الأسباب الذي سيدفع ترامب الى محاولة افشال نتائج الانتخابات في حال سقوطه وعدم التسليم بالأمر ، مما سيؤدي الى تفاقم الازمات الداخلية وصولا الى ردود فعل جماهيرية شعبية تكون غير قابلة للسيطرة عليها وتصعيد الاحتجاحات الجارية اليوم في عدد من الولايات ، مما سيؤدي بالضرورة الي تسارع التغيير القادم بالولايات المتحدة وبروز ظاهرة الانفصال لبعض الولايات وتراجع الدور الأمريكي في معادلة النظام الدولي الذي يشهد متغيرات متسارعة، فالولايات المتحدة لن تبقى كما كانت سابقا .

*سفير دولة فلسطين لدى اليونان

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

فتح ميديا أوروبا
Exit mobile version