المكتب الإعلامي الفلسطيني في أوروبا

التعليم.. طوق النجاة للأسرى

كانون الثاني/ يناير الماضي، احتضنت والدة الأسير فادي موقدي (40 عاما) ابنها الذي حُرمت منه لأكثر من 17 عاما، وتزيّنت بلدة الزاوية غرب مدينة سلفيت بالأعلام الفلسطينية لاستقباله، وعلقت صوره في شوارع البلدة وأزقتها، وعلى واجهة منزله كُتب “أهلا وسهلا بالأسير البطل”.

قبل الاعتقال، ترك موقدي بصمة مميزة في ذاكرة طلبة جامعة القدس المفتوحة “فرع سلفيت”، حيث كان أحد كوادر حركة الشبيبة الطلابية، وعلى مرمى حجر من التخرج.

لكن الاعتقال لم يقف حائلا أمامه، ففي داخل سجون الاحتلال الإسرائيلي، صمم موقدي على إكمال تعليمه، وحصل على شهادة البكالوريوس من جامعة القدس المفتوحة، تخصص خدمة اجتماعية، ثم التحق بالماجستير في سجن “هداريم”، وتخرج من جامعة القدس “أبوديس” كلية العلوم السياسية تخصص دراسات إسرائيلية بإشراف الدكتور مروان البرغوثي.

يقول موقدي، في بداية اعتقالي كانت السجون عبارة عن مدارس وجامعات ومدارس حقيقية ذات طابع نضالي وأكاديمي، فالعملية التعليمية داخل السجون معقدة للغاية، وهي من أكثر المجالات التي يُحارب الأسير من أجلها، والتي تؤرق الاحتلال.

“تحاول إدارة سجون الاحتلال دائماً التضييق على الأسرى ومنعهم من التعليم بقرار سياسي، وكانت الجامعة العبرية هي المؤسسة الأكاديمية الوحيدة التي يستطيعون الالتحاق بها من داخل سجنهم، بأجنداتها السياسية وطرقها في الترويج للدعاية والرواية الاسرائيلية، ومع قضية الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط، جاءت ردة الفعل القمعية مباشرة بحق الأسرى ونفذت إجراءات منعنا من التعليم” يضيف موقدي.

ويروي: فكرنا في كيفية إدخال الجامعات الفلسطينية إلى السجون، وعقد اتفاقيات لإكمال الأسرى تعليمهم، وبفضل جهود نادي الأسير وهيئة شؤون الأسرى والمحررين، وإصرار الأسرى أنفسهم، استطعنا شق طريقنا نحو النجاح في إيجاد نقلة نوعية في التعليم، بأن أدخلنا جامعات فلسطينية وطنية إلى السجون، وأصبح بإمكان الأسير أن يلتحق ويدرس المناهج الفلسطينية، وهذه كانت نقطة مهمة وأساسية بالنسبة لنا، وتم الموافقة على إدخال فرع لجامعة القدس المفتوحة، وجامعة القدس “أبو ديس” لمنح درجتي البكالوريوس والماجستير.

يشير موقدي: مؤخرا أصبح التعليم من أولويات الأسرى، التحق عدد كبير منهم إلى الجامعات العربية، وتم تخريج أكثر من 120 أسيرا فلسطينيا بدرجة الماجستير وهذا رقم كبير، لأن النهج المتبع هو قمع المشرفين والدكاترة والأساتذة في كافة سجون الاحتلال، وتقوم الإدارة بنقل الأسرى من سجن لآخر كممارسات قمعية من أجل إفشال هذا المشروع.

وفي الوقت الذي يتجه فيه العالم لتوظيف التكنولوجيا والتقنيات الرقمية والذكاء الاصطناعي في العملية التعليمية، وانفتاحه على بعضه البعض، ويتبادل مصادر المعلومات والخبرات التعليمية، يتمسك الأسرى داخل سجون الاحتلال الإسرائيلي بالقلم والدفتر، وبعلاقتهم المباشرة والتقليدية مع المعلم، بعيدا عن أي تكنولوجيا حديثة.

وفي السجن أيضا، ينطلق التعليم في ظل ظروف صعبة، بحسب موقدي. ويتابع: يحصل كل أسير بشكل دوري على كتابين، مقابل أن يخرج كتابين آخرين لغيره، اجتهدنا على العمل لتطوير المكتبة بعد الاستيلاء على نحو ألفي كتاب في سجن “هداريم، وكنا نحاول أن نخبئ الكتب المهمة في دراستنا قدر الإمكان، فالفلسطيني دائما يحاول إيجاد طرق بديلة حتى يحصل على حقه الإنساني حتى وهو داخل الأسر.

ويوّضح: المتبع داخل سجون الاحتلال للتخرج هو تقديم امتحان الشامل وليست رسالة الماجستير، وكل مساق يتطلب من الطالب “الأسير” أن يعد بحثا أشبه برسالة مصغرة، ونقوم بكتابة نحو 500 صفحة عبارة عن مسودة لما يتم تجميعه من مصادر مختلفة، ثم نلخصها لنحو 35 صفحة، وجميعها تكتب بخط اليد، ونكون مقيدين في المصادر والمراجع الموجودة فقط.

يشير موقدي إلى أن القاعدة الأساسية في سجون الاحتلال هي شرح المحاضرات يوميا، لمدة 6 ساعات أسبوعيا لكل مساق على مدار 3 أشهر، وأحيانا يتطلب المساق ساعات إضافية للشرح ومشاركة الطلاب والتفاعل وعرض القراءات، ومناقشة كل جديد يتعلق بالمادة، ونسبة الحضور تكون 100% دون غياب أحدهم عن أي محاضرة، ولا يتم تأجيل المحاضرة إلا لظرف قاهر جداً، وغالبا لأسباب تتعلق بالإدارة.

ويبين: المحاضرات تكون في زاوية من زوايا ساحة السجن “الفورة” وهو وقت خروج الأسرى لساحة السجن، وكل المحاضرات تتم في مكان واحد وضيق محاطة بجدار وأسلاك شائكة تحت ألواح الصفيح “الزينكو” التي لا تقي من حر الصيف ولا من أمطار وبرد الشتاء، كما أن عدد الطلاب يتراوح من 25-30 أسيرا، ومن يستطيع أن يجلس فقط 6 أسرى على كراسي “البوسطة” الحديدية، وما يقارب 10 أسرى يكون لديهم المجال للجلوس على الأرض والاستناد على الحائط، والباقي يبقى واقفا، ويتم التبادل بيننا.

ويستذكر موقدي: في أحد الأيام قضينا ساعات المحاضرة واقفين دون أن يجلس أحدنا، فالأجواء كانت شديدة البرودة، والأمطار غزيرة، وكنا متراصين بجانب بعضنا البعض.

وفيما يتعلق بإجراء الامتحانات، يؤكد موقدي أنها تتم في ساحة “الفورة” ومنعا لأي طارئ، يتم تقسيمها إلى عدة أقسام وعلى فترات بحيث يقوم الطلبة كلهم بالإجابة عن السؤال الأول، وعند الانتهاء يتم توزيع السؤال الثاني عليهم وهكذا، تخوفا من إغلاق القسم من قبل إدارة السجن في أي لحظة، ما يؤدي لحدوث خلل في الامتحان، مضيفا “عادة ما يحتاج الامتحان الواحد لإتمامه ما يزيد عن 5 ساعات”.

“في أحد الأيام وفي منتصف الامتحان طلب منا أن ندخل إلى الغرف من أجل “العد” ثم عدنا لإكمال الامتحان، بدأنا الساعة 11 صباحا وانتهينا الساعة 5 مساء” يقول موقدي، مؤكدا أنه في بعض الأيام يكون الوقت غير كافٍ لإنجاز كل ما هو مطلوب للتعليم.

ويبين: في كل فصل جديد يلتحق عدد جيد من الأسرى في برنامج الماجستير، وما زالت منارة العلم مستمرة ومتواصلة لأن الأسرى بوحدتهم وصمودهم وقدرتهم على التأقلم مع كل الظروف الموجودة داخل السجون، استطاعوا الثبات على مواقفهم، فالتعليم يصبح بمثابة طوق النجاة ووسيلة جوهرية لاستغلال الأوقات الثقيلة، حتى الأشخاص الذين لم يلتفتوا إلى التعليم قبل السجن، أفرج عنهم وهم يحملون شهادات عليا.

وبحسب مركز المعلومات في وكالة “وفا”، فقد استمرت سلطات الاحتلال الإسرائيلي بتشريع قوانين عنصرية تعسفية غير مسبوقة بحق الأسرى الفلسطينيين، ضاربة بعرض الحائط كل القوانين والتشريعات الدولية ومبادئ حقوق الإنسان.

ومن أبرز هذه القوانين: مشروع قانون حرمان الأسرى من التعليم الذي قدمه عضو الكنيست روبيرت ايلتوف من حزب “إسرائيل بيتنا”، وينص على أن الأسير الفلسطيني الأمني ليس من حقه الدراسة في مؤسسة التعليم العالي، ويطالب مشروع القانون بتعديل لوائح السجون بعدم منح الأسرى فرصة التعليم.

يقول موقدي: عالم السجن هو استمرار للعمل الوطني والنضالي، ما يمر به الأسير داخل السجون من ألم ومعاناة وصدام مع المحتل تجعله أكثر صلابة وقوة وخبرة، الأمر الذي ينمي شخصيته ثقافيا وعلميا واجتماعيا.

ويصف حالة التكاتف بين الأسرى داخل السجون بأنها كخلية النحل كل له دوره، وكل يقدم ما يستطيع من أجل تخفيف مرارة الواقع، ويصبح الأسير لا يفكر في كيفية تدبير أمره وحده، وإنما في كل الأسرى بمختلف توجهاتهم الفكرية والسياسية والدينية.

ويرى موقدي أن الحركة الأسيرة استطاعت أن تحول السجون والمعتقلات إلى أكاديميات للفكر الثوري والنضالي وصقل الشخصية سياسيا وفكريا، لإيمانها التام بالدور المستمر والمتواصل في العطاء من أجل تحقيق الحلم الفلسطيني في إقامة الدولة الفلسطينية، ويظهر ذلك من خلال مبادرات الأسرى النوعية في الحياة السياسية الفلسطينية.

وبحسب موقدي: فإن توجه الحركة الأسيرة نحو التعليم العالي يشكل مدخلا مهما نحو تمكين الأسرى ثقافياً وعلمياً وسياسياً، الأمر الذي أطلق الآمال في نفوس معظم من أنهوا تعليمهم في درجة الماجستير لاستكمال دراستهم للحصول على شهادات الدكتوراه، إيمانا منهم بدورهم الفاعل والمستمر في بناء الدولة الفلسطينية.
وفا- عُلا موقدي

Exit mobile version