أيهم أخطر على البشرية: روسيا والصين أم الولايات المتحدة الأميركية؟

بقلم: غانية ملحيس

لم يكد العالم يصحوا من أهوال الحرب العالمية التي قادتها الولايات المتحدة الأميركية ضد جائحة الكورونا أو “الفايروس الصيني ” كما أسماه الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب. وتكبد خلالها نحو 17 مليون قتيل (بسبب العجز الهائل للنظام الصحي وخصوصا في الدول المتقدمة التي شهدت المعدلات الأعلى في العالم للإصابات والوفيات). إضافة إلى خسائر مادية فادحة ربما تفوق في تداعياتها، تلك التي عرفتها البشرية في أعقاب الحربين العالميتين الأولى والثانية. إذ انخفضت قيمة الدخل ل 99% من البشرية وفقا لتقرير منظمة أوكسفام في 17/1/2022، فيما بات ال 1% الأغنى من البشر يمتلكون ثروات تزيد بستة أضعاف عما يملكه أفقر 3. 1 مليار إنسان. (نحو نصف البشرية). وتضاعفت ثروات أغنى عشرة رجال في العالم منذ بدء الجائحة في آذار /مارس 2020 بأكثر من الضعف، جلهم من مواطني الدول الغربية (8 منهم مواطنون أميركيون، 1 كندي وآخر فرنسي).

ولم يكد العالم يهنأ بإعلان منظمة الصحة العالمية أن حرب الكورونا قد وضعت أوزارها وإنهاء حالة الطوارئ. ما أدى إلى وقف الإجراءات الاستثنائية في كافة دول العالم بتزامن ملفت. رغم ارتفاع أعداد الوفيات والإصابات من متحورات الفايروس التاجي المتتابعة في بعض الدول بأضعاف الأعداد التي استوجبت فرض حالة الطوارئ قبل عامين. إذ يبدو أن الفايروس التاجي قد استنفذ مهمته في إعادة تشكيل موازين القوى الاقتصادية بين الدول وداخلها. ونجح في إزاحة العبء الثقيل عن كاهل القطاع الخاص، فحرره من القيود الصارمة التي كانت تفرضها اتفاقات وقوانين العمل المحلية والدولية – والتي أوجبها الصراع الاستقطابي بين المعسكرين الرأسمالي والاشتراكي إبان عصر الثنائية القطبية.

فأتاح الفايروس التاجي الفرصة للتخلص السلمي من فائض العمالة دون كلفة مادية وسياسية (مئات الملايين على امتداد العالم فقدوا وظائفهم بدون تعويضات) بعد أن ألغت قوانين الطوارئ المكتسبات المهمة التي حققتها الطبقة العاملة بتضحيات جسيمة في الأرواح على امتداد نحو قرن. وبات بالإمكان إحلال المنتجات التكنولوجية الحديثة محل ملايين العمال، دون خوف من ثورات تتوحد فيها الأغلبية الساحقة والمتنامية من الفقراء. كي تستأثر القوى النيو ليبرالية المعولمة التي يقودها القطب الأميركي الأوحد بثمار الثورة الصناعية الرابعة، وتتوطد هيمنتها الكونية.

حتى فاجأتنا الولايات المتحدة الأميركية مجددا بالإعلان عن حرب وشيكة تهدد البشرية. وتخطط لشنها هذه المرة روسيا-القطب الثاني الصاعد بعد الصين -. لإعادة مجد الإمبراطورية القيصرية والاتحاد السوفياتي معا !، ما يوجب على الجميع التصدي لمواجهتها وإنقاذ البشرية!

ومن أجل ذلك، بات استنفار جيوش الإعلام المتأهبة على امتداد العالم للتنبيه من الخطر الكارثي الوشيك. خصوصا وأن الإعلام أثبت كفاءة نادرة في التحذير من الخطر الوجودي للفايروس التاجي. وألزم دول وشعوب العالم قاطبة بالامتثال للإجراءات الأميركية في الإغلاق وحظر التجول ووقف عجلة الاقتصاد. حتى في الدول التي لم تكن فيها أعداد ضحايا الجائحة تتجاوز في الإصابات بضع عشرات، ومن الوفيات أصابع اليد الواحدة.

ولأننا نعيش في عالم يحتكم لشريعة الغاب. ونحن الفلسطينيون والعرب خصوصا، وشعوب العالم الثالث عموما، كنا ضحاياه على مدى قرون متصلة، وما نزال. ما يتعذر علينا من حيث المبدأ القبول بادعاء الحق لأي دولة في الدفاع عن أمنها خارج حدودها. وباستباحة الأضعف وتعريض وجوده للخطر بحجة الدفاع عن النفس.

ولأننا في فلسطين أكثر من اختبر مرارة الاقتلاع القسري من أرض الوطن وذل اللجوء. وما نزال نعيش ويلاته للعقد الثامن على التوالي. فإننا وأشقاءنا من أبناء الشعوب العربية في العراق وسوريا وليبيا واليمن، أكثر سكان الأرض تأثرا بالتداعيات الإنسانية للاجتياح الروسي لأوكرانيا. البلد الذي شكل على مدى قرون عديدة جزءا حيويا من التاريخ والجغرافيا الروسية. واستقل عنها في أعقاب انهيار الاتحاد السوفياتي وتفكك دوله. وتجند نظامه السياسي لتكريس استقلاله وسيادته عبر السعي للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، فاعتبرته روسيا تهديدا استراتيجيا لأمنها القومي يتعذر القبول به.

وعليه، ولفهم ما يجري في هذا الكون الذي يبدو وكأنه بات يضيق بساكنيه. من المهم التدقيق في مصادر الخطر الحقيقي الذي يتهدد البشرية في القرن الواحد والعشرين. من خلال مراجعة سريعة للأخطار التي شهدها العالم خلال العقود التي تلت الحرب العالمية الثانية والتي تشير الى ما يلي:

أولا: أن الولايات المتحدة الأميركية – زعيمة العالم الحر – هي الدولة الوحيدة في العالم التي استخدمت فعليا الأسلحة النووية ضد المدنيين العزل، فقتلت 140,000 شخص في هيروشيما، و80، 000 في ناغازاكي في السادس والتاسع من آب/ أغسطس 1945، لإنهاء استعصاء الإمبراطورية اليابانية على الاستسلام.

ثانيا: أن الولايات المتحدة الأميركية – التي تدافع عن حقوق الإنسان- كانت مع عدد من الديموقراطيات الأوروبية الغربية قد أغلقت حدودها بوجه يهود أوروبا الشرقية الفارين من المجازر النازية. لدفعهم إلى المنفذ الوحيد الذي فتح أمامهم في فلسطين، وأشرف الانتداب البريطاني على تهيئته لاستقبالهم، ومن ثم تجنيدهم في دولة وظيفية، يحتاجها الغرب الاستعماري للقيام بمهمة القاعدة العسكرية المتقدمة في مركز الوصل والفصل الجغرافي والديموغرافي للمنطقة العربية – الإسلامية الممتدة المستهدفة. كي تضطلع بتكريس تجزئتها، وإعاقة نهوضها، ومنعها من استعادة وحدتها. وتسهم، بذلك، في إدامة الهيمنة الإمبريالية على مقدراتها.

وما تزال الولايات المتحدة الأميركية وعموم الغرب يوفرون لإسرائيل حصانة تستثنيها من نفاذ الاتفاقات والقوانين الدولية. ويمنعون مساءلتها ومحاسبتها على جرائم الحرب والتطهير العرقي والجرائم ضد الإنسانية التي تواصل ارتكابها ضد الشعب الفلسطيني للعقد الثامن على التوالي.

ثالثا: أن الولايات المتحدة الأميركية مارست سطوتها على دول العالم. فتدخلت عسكريا، وحاصرت، وقلبت أنظمة الحكم في أكثر من أربعين بلد في آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية، وتسببت في تجزئة الأوطان وتمزيق الشعوب وقتل وتشريد الملايين. وفيما يلي تذكير بتدخلات الولايات المتحدة الأميركية منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية: –

الصين 1945-1946، 1950-1953. سوريا 1949، 2011- الآن. كوريا 1950 -1953. إيران 1953، 1987-1988، 2005-الآن. جواتيمالا 1954، 1964، 1967-1969. التبت 1955-السبعينيات. إندونيسيا 1958، 1965. لبنان 1958، 1982-1984، 2021. كوبا 1959. جمهورية الكونغو الديموقراطية 1960-1965. جمهورية الدومينيكان 1961، 1965-1966. فيتنام 1961-1973. البرازيل 1964، 2016. غويانا البريطانية 1964. لاوس1964-1973. البيرو 1965. اليونان 1967. كمبوديا 1969-1970، 1980-1995. تشيلي 1970-1973. الأرجنتين 1976. أنغولا 1976-1992. تركيا 1980. بولندا 1980-1981. السلفادور 1981-1992. نيكاراغوا 1981-1990 جرينادا 1983-1984. ليبيا 1986، 1989، 2011. الفيلبين 1989. بنما 1989-1990. هاييتي1991، 2004. العراق 1991، 1992-1996، 1998، 2002-2003، 2020. الكويت 1991. الصومال 1992-1994، 2006-2007، 2020. البوسنة 1995. السودان 1998. أفغانستان 2001، 2020 اليمن 2002-2020. هندوراس 2009. بوليفيا 2019. فنزويلا 2019. غواياتا 2020.

رابعا: أن الولايات المتحدة الأميركية التي تنفرد بالقيادة الدولية، تتبنى رسميا سياسة أميركا أولا. ما يجعلها تضع مصالحها الخاصة فوق كل اعتبار. ولا يضيرها إضعاف أقرب حلفائها الأوروبيين. فسعت إلى تفكيك الاتحاد الأوروبي، وشجعت بريطانيا على الخروج منه في نهاية العام 2020. وأدارت ظهرها لحليفتها فرنسا فأبرمت في العام 2021 معاهدة أمنية ثلاثية بينها وبين بريطانيا وأستراليا ” أوروس”. وبمقتضاها، ألغت أستراليا الصفقة التي كانت قد أبرمتها عام 2016 مع فرنسا لاقتناء الغواصات.

ولم تتورع عن تهديد الشركات الأوروبية المشاركة في مشروع نورد ستريم 2 لنقل الغاز الطبيعي الروسي الى أوروبا، بفرض عقوبات اقتصادية عليهم إن واصلوا الإسهام في بنائه. ما اضطر الشركات الترويجية للانسحاب أثناء التنفيذ.

وللحفاظ على تدفق إمدادات الغاز الطبيعي الأميركية الرديئة والأكثر تكلفة إلى أوروبا، هددت ألمانيا بفرض العقوبات على ميناء رئيسي في جزيرة روغن الألمانية لأنه يشارك في بناء خط الأنابيب. ولم تعر أي اهتمام لمصالح حلفائها الأوروبيين وحاجتهم لضمان تدفق الغاز الطبيعي النظيف بأسعار تنافسية طويلة الأمد تحافظ على قدرتهم التنافسية عالميا، وتحقق أهداف سياسات الاتحاد الأوروبي المتعلقة بالمناخ.

ورغم إدراك الولايات المتحدة الأميركية بعدم تأثر شركاتها بالمقاطعة، لأن روسيا ليست من ضمن أكبر شركائها التجاريين العشرين (الصين، كندا، المكسيك، اليابان، ألمانيا، كوريا الجنوبية، المملكة المتحدة، فرنسا، الهند، تايوان، إيطاليا، سويسرا، هولندا، البرازيل إيرلندا، فيتنام، بلجيكا، ماليزيا، سنغافورة، هونغ كونغ). حيث لا تزيد نسبة التبادل التجاري الأميركي – الروسي عن 0. 8% من إجمالي التجارة الخارجية للولايات المتحدة. فقد اتخذت قرارها الملزم لدول الناتو بفرض العقوبات على روسيا دون التشاور معهم. رغم ثقل عبء تداعيات المقاطعة على اقتصاداتهم (بلغ حجم التبادل التجاري الألماني – الروسي خلال التسعة أشهر الأولى من العام 2021 نحو 40. 9 مليار دولار، وهولندا 32. 5 مليار دولار، وتركيا 23. 3 مليار دولار).

خامسا: أن الولايات المتحدة الأميركية لم تتوانى عن تهديد استقرار النظام المالي والمصرفي العالمي لخدمة أهدافها. فإيقاف خدمة السويفت بين أوروبا وأميركا والعالم مع البنوك والمؤسسات المالية الروسية سيكون له تداعيات بالغة على استقرار النظام. ولم تكن هذه هي المرة الأولى التي تقوض فيها الولايات المتحدة الأميركية، استقرار النظام المالي العالمي فقد سبق لها في مطلع سبعينيات القرن الماضي تقويض نظام بريتون وودز الذي كانت قد توافقت أربع وأربعين دولة في تموز / يوليو 1944 لتحقيق الاستقرار في النظام المالي العالمي وتشجيع نمو التجارة بعد الحرب العالمية الثانية. عبر ثبيت قاعدة الاعتماد على الذهب، وتحويل الدولار إلى ذهب، وتثبيت أسعار الصرف للعملات. واستمر العمل بالنظام من العام 1944 وحتى منتصف آب/ أغسطس 1971. عندما اتخذ الرئيس الأميركي نيكسون قرارا منفردا، ودون التشاور مع الدول الأعضاء. بوقف بلاده العمل بمبدأ تحويل الدولار إلى ذهب. وذلك لمعالجة مشكلات أميركا الاقتصادية والمالية، الناجمة عن تضاؤل كميات الذهب الموجودة لديها وهبوطها إلى أقل من 10 مليون دولار ذهبي فقط. وتراجع حصتها في التجارة الدولية من23. 6% عام 1948 إلى 13. 6%. والأعباء الباهظة لحربها الخاسرة في فيتنام والتي بلغت نحو 110 مليار دولار، لا يتوفر لها أي تغطية ذهبية. ما رفع معدلات التضخم النقدي الى مستويات غير مسبوقة. وقد طالت تداعيات القرار الأميركي، آنذاك، اقتصادات جميع الدول الصناعية والنامية. فتدهورت أسعار الصرف، وتآكلت القيمة الفعلية للعملات الأجنبية المرتبطة بالدولار.

سادسا: أن الولايات المتحدة الأميركية التي تضحي اليوم بأوكرانيا وشعبها في صراعها الجيو سياسي مع روسيا. وتدعو العالم لمعاقبة روسيا لتقييدها حرية أوكرانيا في الانضمام للاتحاد الأوروبي وحلف الناتو. هي من سبق أن رفضت طلب روسيا الانضمام إليهما في أعقاب انهيار الاتحاد السوفييتي وتفكك دوله. وهي من تسعى الآن جاهدة لمنع أي تقارب وتعاون أوروبي – روسي.

لم نسع عبر عرض هذه الحقائق الدفاع عن روسيا، أو تبرير اجتياحها لأوكرانيا. لأننا كما سبقت الإشارة في مقدمة المقال كنا على امتداد أكثر من قرن ضحايا استباحة القوي للضعيف، وما نزال.

ولأن النظام الدولي تواطأ على فلسطين وشعبها في عصري الأحادية والثنائية القطبية.

ولأننا سنكون أكثر المتأثرين بتوظيف الحرب الروسية – الأوكرانية لاقتلاع آلاف اليهود الأوكرانيين من وطنهم، واستقدامهم للاستيطان في وطننا فلسطين. في وقت يتعرض فيه شعبنا الفلسطيني لأوسع وأطول عملية إبادة وتطهير عرقي. ونهب لأراضيه وممتلكاته. واقتلاع وتهجير لأبنائه تتواصل وقائعها على امتداد مساحة فلسطين الانتدابية. وتتكثف حلقاتها في يافا وحيفا والجليل والنقب والقدس وبرقة وبيتا والخليل ونابلس وأريحا والأغوار.

ولأن المستعمرة الصهيونية ستكون أكبر المستفيدين من الصراعات والحروب الدولية والأهلية أيا كانت ساحاتها. فهي الجاهزة على الدوام لبيع خدماتها للقوى الدولية المتنفذة عندما تحتاج لوكيل تنفيذي.

وهي المستعدة لتوظيف النكبات، بما في ذلك التي تصيب اليهود، عبر تهويل الأخطار التي تتربص بهم من الأغيار على اختلاف انتماءاتهم العرقية والإثنية والدينية والعقائدية والطبقية. لمنع اندماجهم في مجتمعاتهم وأوطانهم الأصلية، والإبقاء عليهم كاحتياطي استراتيجي يمكن توظيفه كلما احتاجت.

ولم نهدف من خلال استعراض أخطار القطب الأميركي الأوحد على البشرية، الترويج لبديل روسي أو صيني. وإنما أساسا للتبصير بمخاطر تفرد أي قوة دولية متنفذة بالقيادة العالمية. أيا كانت هويتها. ومهما بلغت جاذبية شعاراتها.

فلسنا بحاجة للتأكيد على صوابية القيادة الجماعية عموما. وعلى الأخص طالما بقي النظام الدولي يحتكم في إدارة العالم لموازين القوى، وليس للحقوق المتساوية لجميع سكانه. ما يجعل بناء نظام دولي على أساس توازن القوى بين عدة أقطاب وازنين: جغرافيا، وديموغرافيا، واقتصاديا، وعسكريا. يتشاركون القيادة ويشتركون في اتخاذ القرار، قضية مصيرية لدرء الأخطار التي تتهدد البشرية.

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

فتح ميديا أوروبا
Exit mobile version