المكتب الإعلامي الفلسطيني في أوروبا

فاروق وادي..!

كتب: حسن حميد

قيّضت لي المحبة، وأنا طيّ تجربتي الأدبية، أن ألتقي أدباء عشقتُ كتاباتهم لأنها كانت مسرات وأكثر، وعوالمها عوالم دهشة وأكثر، وبناءاتها أشبه بعمران القلاع والقصور وأكثر، ومن هؤلاء الأدباء جبرا إبراهيم جبرا، وخليل السواحري، ومحمد علي طه، ومحمود درويش، ومحمود شقير، وسميح القاسم، وتوفيق فياض، وفاروق وادي..، وقد كان كلّ واحد من هؤلاء عالماً خاصاً به له فرادته وجماله، مثلما كان لكل واحد منهم صورته التي قرّت في القلب تماماً.

التقيت فاروق وادي، قبل نحو اثنتي عشرة سنة في الشام، جاء إليها زائراً مع زوجته المثقفة، وقد غنمت هذه المحظوظية فعشت وإياه ساعات طوالاً، وفرحت به كشخص حضاري، صاحب أثر في سلوكه، وكلامه، وثقافته، ورؤاه البعيدة.

فاروق وادي له هدوء يشبه هدوء جبرا إبراهيم جبرا، هدوء مستلّ من هدوء الغابات، والغدران، والبراري، والبيوت وقت استسلامها لمطر غزير، أو ثلج عفي يهمي، وخلف هذا الهدوء ثقافة أشبه بمغارة وسيعة خزّن أهلها فيها كل غال وثمين، بلى، فاروق وادي ذكّرني بـ جبرا إبراهيم جبرا، الروائي الساحر إن تحدث عن بيت لحم والقدس، أو إن تحدث عن شعراء الإنجليز الذين فتنوا بالطبيعة، أو إن تحدث عن تراجيديات شكسبير، أو إن راح يستلّ، على مهل وريث شديدين، من الأساطير المعاني الثقال، فقد أصغيت لـ فاروق وادي طويلاً ودهشت حقّاً، مثلما أصغيتُ لـ جبرا إبراهيم جبرا طويلاً ودهشت.

كنتُ بحاجة وكيدة لأسمع من مثقف برتبة فاروق وادي ما لم أسمعه عن فترة الحضور الفلسطيني في لبنان، خلال عقد السبعينيات، أيّ أن أسمع صوت الفلسفة التي تتحدث بهدوء وروية وتأمل وتقليب للمسائل على وجوهها بعيداً عن الصخب والانفعال والأصوات العالية. قال لي: كنا أصحاب مشروع حضاري، أسسنا البنى الثقافية كلّها، من الكتابة إلى المنبر، ومن دار النشر إلى دار العرض، وارتقينا بالثقافة من أن تكون رصيداً إلى أن تكون صيغة عيش، وبذلك اجتذبنا أهم رموز الثقافة العربية طُراً، فصاروا، عبر كتاباتهم والفنون التي شغلوا بها، أشبه بالفراش الجميل الذي يدور حول النورانية الفلسطينية، لا بل اجتذبنا بعض رموز الثقافة العالمية، وفي مجالات عدة، منها الكتابية، ومنها الفنية كالسينما والمسرح والغناء والموسيقى. لقد أسسنا، خلال عقد واحد فقط، ثقافةً ذهبيةً اسمها الثقافة الفلسطينية، وقد كانت بحقّ مرآة للثقافة العربية المنشودة، على الرغم من كثرة طيوف الشغب، والادعاء، والتشويش، وهذا كلّه لم يتجاوز الهوامش على الإطلاق، لأن المتون كانت أصيلة ومتجذرة، وينهض بها أعلام لهم صلابة أعمدة الرخام.

قلت لـ فاروق وادي، أنت أديب كثر الرهان عليه، وعبر مرات عدة، كان الرهان عليك كناقد أدبي من عيار عال، حين أصدرت كتابك/ الذي تحدثت فيه عن ثلاث تجارب إبداعية ذات جمالية نايفة، وذات تأثير واسع، هي لـ جبرا إبراهيم جبرا، وغسان كنفاني، وأميل حبيبي، فقلت عن تجاربهم ما لم يسبقك أحد إلى قوله، انصفت جبرا إبراهيم جبرا الذي أراد بعض أهل النقد زلّ كتابته بعيداً عن المدونة الفلسطينية فقلت: لا ، إنها كتابة فلسطينية تقوم على الأزمنة والأمكنة والشخصيات الفلسطينية، ودلّلت على ذلك بالشواهد، وقلت: إن جمالية أدب غسان كنفاني جمالية متأتية من البناء والشغف بالعمارة الفنية، مثلما قلت: إن ما يكتبه أميل حبيبي أدب جديد رفيع في مستواه، عال في قيمته، وهو ليس حكايات أو مرويات شعبية، لكنك لم تواصل تجربتك النقدية! قال: كانت غايتي غاية من يشق الدرب نحو الغابة، أي أن أكتب نقداً جديداً يتأمل ويستقرئ، لأن شرح النصوص وتلخيصها ليس نقداً.

قلت: وكتابك (الطريق إلى البحر) جعل النقاد والقراء والمثقفين يراهنون عليك، بأن تواصل هذه الكتابة الجديدة عبر نص إبداعي جديد، يقوم على السرد، ولكن طعوم الشعر تلفّه، مثلما تلفّه طقوس الكتابة المسرحية والسينمائية، حين يرى القارئ تقاطر المشاهد وتتابعها كيما تؤلف من شظاياها نصاً متكاملاً له وحدته العضوية، ووحدته النفسية، ومكنته التي لا تستند إلى حدث، أو مناسبة، قدر ما تستند إلى ظاهرة وأحلام روّتهما تراجيديا فاقعة في أحزانها، ولكنك لم تواصل التجربة! قال: أنا أنفر من الكتابة الخطية. أنت، وحين تواجه الطبيعة، لن تجد أي شيء فيها له مسار خطي، ولن ترى أي معلم من معالمها له صفة الخطية، أي البدء من نقطة والانتهاء عند نقطة، الكتابة الأصيلة هي الكتابة التي تشبه الطبيعة أو البراري في مفاجآتها، ولا شيء مثل المفاجأة يصنع الجمال والسحر، حتى لو كان على نحو وحشي.

قلت: وفي مقالاتك التي ملت نحوها بكامل قامتك الثقافة، رأينا أن الهدوء هو من يكتبها، فلا صخب، ولا شغب، ولا ضجيج، ولا بكاء راجّ..، ترى أين خبأت حزنك ونحيبك، وأين واريت ارتجافات قلبك، وأنت تكتب عن غسان كنفاني، وكمال ناصر، وأبو يوسف النجار، وكمال عدوان، وخليل الوزير، ودلال المغربي، وعلي فودة، والخروج من بيروت، قال: لقد أردت أن أتحرر من الانفعال كي أكتب عما استبطنه الرحيل، والفقد، والبكاء، وشغور الأمكنة، وتشققات النفس، وبالمناسبة فإن جزءاً أصيلاً من صورتنا الفلسطينية موجود في مقالاتنا، وعلينا ألا نحيّد هذه المقالات، تماماً مثلما يوجد جزء أصيل من صورة غسان كنفاني في مقالاته، أو جزء أصيل من صورة جبرا إبراهيم جبرا موجود في ترجماته.

بلى، عمّني الحزن لرحيل فاروق وادي، فهو رحيل أشبه بجفاف البحيرات، وقطع أشجار الغابات، وخراب المدن، وغياب الفرح. لقد كان الرجل المفرد في هدوئه، وإبداعه، وحضوره السّاحر.

Exit mobile version