“غزة: في كواليس الحركة الوطنية الفلسطينية” لحسان البلعاوي

صدر هذا الكتاب في نهاية عام 2008 وهو يبين الدور التاريخي الذي لعبته غزة في تقرير مصير الحركة الوطنية الفلسطينية منذ نكبة عام 1948
أهدى حسان كتابه الأول إلى ذكرى والده فتحي البلعاوي الذي عاش في غزة مطلع الخمسينات وشغل منصب نقيب المعلمين الفلسطينيين وتميز بكونه اطارا جماهيرياً ضم القوى السياسية الرئيسية في ذلك الحين: جماعة الاخوان المسلمين، الحزب الشيوعي الفلسطيني في القطاع، التيار القومي  وقد قادت نقابة المعلمين التحركات الجماهرية الكبرى ضد مشاريع توطين اسكان اللاجئين الفلسطينيين في صحراء سيناء.
يتوزع الكتاب الذي الذي وقع في مائتي صفحة من القطع المتوسط وأصدرته دار نشر ” دونويل”  المرتبطة بمجموعة “غاليمار” الشهيرة ومن كبريات دور النشر الفرنسية، على تسعة فصول تبدأ من تاريخ غزة القديم منذ فترة الكنعانيين وصولا إلى أعتاب العدوان الاسرائيلي الأخير على غزة، وقد لاقى رواجا في أبرز المكتبات الفرنسية و تغطية اعلامية  واسعة خصوصاً مع بدء العدوان الاسرائيلي على غزة،  وتعتزم دار النشر ترجمة الكتاب الى عدة لغات منها العربية .
يبتعد البلعاوي في تجربته الاولى عن السرد التاريخي محاولا تقديم  وقائع تاريخية ليسقطها على الوضع السياسي الحالي وعرض تفسير للاستخدام السياسي لهذه الوقائع  اعتماداً على تجربته الشخصية و المهنية في المؤسسة الفلسطينية. الكتاب مزيج من التاريخ المختصر والتحليل السياسي من منظور شخصي لمخاطبة الرأي العام الغربي بهدف ايصال فكرة بسيطة تتمحور حول أن لا سلام ولا استقرار في منطقة الشرق الاوسط و ضفتي البحر الأبيض المتوسط دون تحقيق الأهداف الوطنية المشروعة للشعب الفلسطيني المتمثلة في المشروع الوطني الفلسطيني بما فيها غزه التي تشكل فقط 2% من مساحة فلسطين التاريخية ، ومع ذلك شكلت منذ نكبة فلسطين الأولى العام 1948 الساحة الرئيسة التي تتحدد فيها ملامح  المشهد السياسي الفلسطيني والذي يمتد الى بقية المساحات الفلسطينية سواء داخل الوطن او في سياج منافي اللجوء  والشتات.
يتناول الكتاب الموقع الاستراتيجي الهام لغزة كمنطقة تواصل بين قارتي اسيا وافريقيا لموقعها جنوب البحر الابيض المتوسط ،والتي  قال عنها القائد الفرنسي نابليون بونابرت بانها بوابة اسيا و جسر لافريقيا. كانت أول مركز اداري للكنعانيين في فلسطين، وقلعة متقدمة للفراعنة في مصر تصد الغزوات القادمة من اسيا، وغزة  من أقدم مدن العالم كما أظهرت حملات تنقيب الآثار الاوروبية التي بدأت العام 1894 بفريق سويسري مرورا بالبعثات  البريطانية خلال الانتداب البريطاني، وصولا للبعثات الفرنسية مع انشاء السلطة الوطنية الفلسطينية والتي اشارت لوجود مدينة رومانية في مخيم الشاطئ. يستعرض الكتاب سريعا الحقبات التاريخية التي مرت بها غزة من فترة حكم الامبراطور الاسكندر المقدوني وقيام مدارس فلسفية وجامعة، مرورا بالحقبة المسيحية والتي تركت عدة كنائس وآثار تاريخية هامة ما زالت قائمة حتى اليوم، وانتهاء بالفتح الاسلامي الذي شيد مساجد غنية بالمستوى المعماري، ومنها مسجد السيد هاشم ، جد رسول الله محمد “صلى الله عليه واله وسلم “والذي اعطى المدينة اسم غزة هاشم ، وصولا لحقبة الحروب الصليبية أو حروب الفرنجة التي شهدت صلح الرملة بتوقيع القائد صلاح الدين الأيوبي مع ملك الفرنجة ريتشارد قلب الاسد.
يستعرض الكتاب مرحلة النكبة وأثرها في التغير الجذري لغزة من زيادة سكانية تقدر بنحو 300% نتيجة لتدفق اللاجئين وما فرضه ذلك من وقائع جديدة، ووقائع عقد أول مجلس وطني فلسطيني برئاسة مفتي فلسطين الحاج أمين الحسيني مطلع اكتوبر 1948 في مدرسة الفلاح الذي اعتمد العلم الفلسطيني الحالي، كما دعم انشاء حكومة عموم فلسطين كأول محاولة كيانية فلسطينية ونالت اعتراف الجامعة العربية انذاك، وكانت تصدر جواز سفر خاص بها ولديها وزراء ومبعوثين تجولوا في العالم لشرح القضية الفلسطينية بما في ذلك الجمعية العامة للامم المتحدة .
تناول البلعاوي الأسباب التي جعلت من جماعة “الاخوان المسلمين” الأكثر تاثيراً  في القطاع، والتي خرجت من رحمها الطلائع الأولى المؤسسة لحركة “فتح”، كما تناول تأسيس رابطة الطلاب الفلسطينيين في القاهرة مطلع الخمسينات لتشكل احدى الحاضنات  الرئيسية لولادة الفكرة الوطنية الفلسطينية باسناد التحركات الجماهرية التي قادتها نقابة المعلمين كاتتلاف  بين تياري الاخوان المسلمين والحزب الشيوعي وعدد من الشخصيات المستقلة في افشال مخطط التوطين.
كما استعرض مرحلة الاحتلال الاسرائيلي الأول للقطاع اثر العدوان الثلاثي على مصر العام 1956 مركزا على تجربة المقاومه الشعبية وعلى الرفض الشعبي لتدويل قطاع غزة طبقا لمشروع طرحة وزير الخارجية الكندي انذاك ، متناولا بروز الشخصية الوطنية الفلسطينية ببعدها القومي ودعوة الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر بتأسيس الاتحاد القومي ثم المجلس التشريعي العام 1962 وصولا لانشاء منظمة التحرير الفلسطينية.
قدم الكاتب قراءة لتطور المشروع الوطني الفلسطيني بقيادة حركة فتح عبر مراحل متعددة  بدءا من معركة الكرامة 1968 مرورا بخروج المقاومة الفلسطينية من لبنان العام 1982  والذي دفع لعودة الثقل النضالي الفلسطيني للداخل المحتل واشتعال الانتفاضة الأولى من مخيم جباليا أواخر العام 1987 وما صاحب ذلك من ” هجوم السلام ” الفلسطيني والذي تجسد بدورة الاستقلال في المجلس الوطني الفلسطيني في الجزائر العام 1988  وصولا لحرب الخليج الثانية وما نتج عنها من مؤتمر مدريد للسلام قاد الى اتفاق اوسلو العام 1993 .
يلقي الكتاب الضوء على انشاء السلطة الوطنية كمرحلة جديدة في مسار الحركة الفلسطينية تلخص في محاولة الانتقال من الشرعية الثورية الى الشرعية الدستورية، حسب وصف  الرئيس محمود عباس لدى اجتماع المجلس المركزي لمنضمة التحرير في تونس في اكتوبر 1993
ويقدم الكتاب قراءة  للمعادلة الصعبة التي حكمت النظام الفلسطيني الوليد بمحاولة الانتقال من حركة تحرر وطني الى بناء مؤسسات دولة في ظل تجربة فريدة من نوعها  في تاريخ الشعوب الواقعة تحت الاحتلال تتمثل في انجاز مهمتين في آن واحد: البناء واستكمال مهام التحرير ويبرز الكاتب نهج ” المدرسة العرفاتية ” نسبة للرئيس الراحل ياسر عرفات في قيادة الشعب الفلسطيني الى بر الامان بكل الطرق والوسائل وضمن خيارات وآليات سياسية يصعب فهمها ضمن منطق معيار الادارة الدولية.
تناول الكتاب اندلاع الانتفاضة الثانية العام 2000 والتغير الجذري الذي فرضته، مرورا بحصار الرئيس ياسر عرفات واستشهاده وأثر ذلك على مجمل النظام الفلسطيني، ثم انتخاب أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير محمود عباس رئيساً  وانسحاب اسرائيل من قطاع غزة وصولا الى فوز حركة حماس في  انتخابات الدورة الثانية للمجلس التشريعي مطلع العام 2006.
شرح البلعاوي طبيعة وأسباب أول فوز للحركة الاسلامية في المشرق العربي وابعاده مرورا بالتجربة  القصيرة لحكومة الوحدة الوطنية، وما تبعه من انقسام داخلي في حزيران 2107 وسيطرة حركة جماس على قطاع غزة، الى  اعلان اسرائيل للقطاع ككيان معادي  وصولا للمرحلة التي سبقت العدوان الاسرائيلي ثم توقعه كنتيجة للوضع القائم.
الكتاب وإن تحدث بوضوح عن المسؤولية الفلسطينية  لمأساة غزة، إلا أنه لا يغفل مسؤولية اسرائيل المباشرة الاصلية ومسؤولية المجتمع الدولي تاريخيا وعلى جميع الاصعدة في استمرار الاحتلال الاسرائيلي، ويشير بوضوح ان منظمة التحرير الفلسطينية واحدة ، قوية  وموحدة تضم جميع القوى الفلسطينية بما في ذلك حماس و الجهاد الاسلامي هي وحدها القادرة على صنع حل الدولتين طبقا لقرارات الشرعية الدولية والا فكل البدائل مطروحة . ويطالب المجتمع الدولي بتحمل مسؤولياته القانونية والتاريخية والاخلاقية ليعم السلام والعدالة في منطقة الشرق لتعود غزة مركز التقاء الحضارات كما كانت على مدى العصور.

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

فتح ميديا أوروبا
Exit mobile version