الرئيسيةمختاراتمقالاتفكرة الأمن القانوني ودلالات الواقع العملي

فكرة الأمن القانوني ودلالات الواقع العملي

بقلم: د. إيهاب عمرو

يقصد بمصطلح الأمن القانوني استقرار المراكز القانونية وعدم المساس بها. بمعنى، أن المراكز القانونية التي تكونت واستقرت أو تم اكتسابها لا ينبغي المساس بها في حال تعديل القوانين أو صدور قرارت قضائية متعلقة، كما سنبين في الأمثلة العملية لاحقاً. وترتكز تلك الفكرة بشكل رئيسي على حكم القانون كأداة ناظمة للعلاقات كافة داخل المجتمع على اختلافها، سواء كانت اقتصادية، أو تجارية، أو اجتماعية، أو إدارية، أو غير ذلك.

ولا يقصد بمفهوم الأمن القانوني بأي حال من الأحوال –كما يعتقد البعض واهماً ويروج البعض الآخر جازماً- أن يرتكز على مبررات الأمن لعدم تطبيق القانون، حيث إن هذا التفسير لمفهوم الأمن القانوني هو تفسير قاصر ويحصر الفكر القانوني برمته في نطاق الأمن بمفهومه الضيق بحيث يجعل من القانون بشكل خاص، والفكر القانوني بشكل عام، أسيراً لمقتضيات الأمن داخل الدولة، وهذا التفسير غير علمي وغير دقيق.

وفكرة الأمن القانوني كفكرة دستورية نشأت من حاجة المجتمع إلى توفير الأمن والحماية لأصحاب المراكز القانونية داخل المجتمع. وترتبط مع فكرة الأمن القانوني أشكال أخرى –إن بشكل مباشر أو غير مباشر- مثل فكرة الأمن الفكري الذي يعني حماية المجتمع بأطيافه وعقائده كافة من أية أخطار فكرية قد تهدد حاضره ومستقبله، وذلك بواسطة ضمان أن يستقي أفراد المجتمع المعلومات من مشارب فكرية معروفة ومصادر موثوقة. إضافة إلى حماية أفراد المجتمع، خصوصاً الأطفال منهم، من أي فكر منحرف ما يشمل نشر أو توزيع مواد إباحية، وذلك بواسطة الجزاءات المقررة قانوناً. ويرتبط بها كذلك فكرة الأمن الإقتصادي الذي يُعنى بتوفير البيئة الإقتصادية الملائمة لنمو المبادلات التجارية والاستثمارات المحلية والأجنبية ما يساهم في تحقيق التنمية المستدامة داخل المجتمع من خلال إطار قانوني واضح يحكم تلك العلاقات الاقتصادية ويفرض العقوبات والغرامات على المخالفين. إضافة إلى ذلك، يوجد الأمن البيئي الذي يستوجب تحقيقه مشاركة أفراد المجتمع في حماية البيئة من خلال اتباع وسائل تضمن الحصول على بيئة نظيفة وخالية من مصادر التلوث. وهناك الأمن الغذائي الذي يقوم على فكرة العناية بالأطعمة والمنتجات الغذائية داخل المجتمع من أجل منع أية تأثيرات سلبية لتلك الأطعمة على صحة جميع أفراد المجتمع، خصوصاً الأطفال منهم، وحظر القانون لأية احتكارات للمواد العذائية من قبل التجار. وهناك أيضاً الأمن القضائي، والأمن العلمي، والأمن الوظيفي، والقائمة تطول في هذا السياق.

ومؤدى فكرة الأمن القانوني أنه لا يمكن تجسيد الأشكال السابق ذكرها دون توفير الحماية القانونية للمراكز القانونية التي تحكمها أو تتحكم بها ما يستوجب ضرورة وجود إطار قانوني واضح ينظمها ويشكل أهم ملامح فكرة الأمن القانوني. إذ لا يتصور، على سبيل المثال، تحقيق الأمن الإقتصادي دون الحاجة إلى إطار قانوني يحكم النشاط الإقتصادي، ويحدد صلاحيات الجهات العامة ذات العلاقة، وحقوق وواجبات المخاطبين بأحكام القانون من الأشخاص، سواء كانوا أشخاصا طبيعيين أو معنويين كالشركات.

ويمكن تطبيق فكرة الأمن القانوني التي تستند على استقرار المراكز القانونية وعدم المساس بها في حالات كثيرة سواء تعلق الأمر بقضايا حقوقية أو جزائية أو إدارية، ذلك أن المراكز القانونية التي تكونت واستقرت يجب أن تتوفر لها الحماية القانونية على الدوام في حالة تغير القوانين أو تبدل الأوضاع السائدة في المجتمع. ويمكن تطبيق فكرة الأمن القانوني في العلاقات كافة سواء تلك التي تندرج ضمن فروع القانون العام أو ضمن فروع القانون الخاص. ومعلوم أن القانون العام يشمل القانون الدستوري، والقانون الجنائي، والقانون المالي، والقانون الدولي العام، والقانون الإداري، ويمكن إضافة القانون البيئي أيضاً. وتشمل فروع القانون الخاص كل ما لا يندرج ضمن فروع القانون العام، وأهم فروع القانون الخاص تشمل القانون المدني، وقانون الأحوال الشخصية، والقانون التجاري ومشتملاته كقانون التحكيم، وقانون الملكية الفكرية، وقانون العلامات التجارية، وقانون الأسماء التجارية، وقانون المعاملات الإلكترونية وغيرها.

وحتى تتضح فكرة الأمن القانون بشكل عملي، يمكننا إيراد أمثلة تطبيقية مستقاة من القانون الجنائي والقانون الإداري كفروع من القانون العام، ومن قانون التحكيم كفرع من فروع القانون الخاص. حيث من المعلوم بالضرورة في نطاق القانون الجنائي أنه إذا صدر حكم قضائي قطعي في قضية معينة فإن إستقرار المركز القانوني للمحكوم عليه يستوجب قضاء العقوبة المقررة وفق القانون الذي تم تقرير العقوبة إستناداً إلى أحكامه، وفي حالة صدور قانون جديد يزيد من مدة العقوبة بخصوص ذات الجريمة فإن ذلك لا ينطبق على المحكوم عليه سابقاً وفقاً لقاعدة قانونية أصيلة مؤادها عدم رجعية القانون ليحكم وقائع الماضي إلا إذا كان أصلح للمتهم، كونه تقرر له مركز قانوني كمدان أو محكوم عليه وفق عقوبة مقررة بموجب أحكام القانون ساري المفعول وقت إرتكاب الجرم.

ونجد فكرة الأمن القانوني أيضاً في بعض القرارات الصادرة عن المحاكم الفلسطينية، منها على سبيل المثال القرار الصادر عن محكمة العدل العليا كمحكمة قضاء إداري، التي أكدت في القضية رقم 56 لسنة 99 بتاريخ 2003/2/5 أنه: “… لقد استقر الفقه والقضاء على أن للإدارة سلطة تقديرية في تقدير المرفق العام وتنظيمه شريطة عدم المساس بحقوق الأفراد والموظفين …”.

ويمكن إعطاء مثال عملي آخر يستند إلى قانون التحكيم الأردني كقانون خاص مقارن، حيث قضت المحكمة الدستورية في الأردن في قرار صدر في العام 2013 بعدم دستورية المادة (51) من قانون التحكيم الأردني لعام 2001 التي نصت على ما يلي: “إذا قضت المحكمة المختصة بتأييد حكم التحكيم وجب عليها ان تأمر بتنفيذه ويكون قرارها في ذلك قطعيا. وإذا قضت ببطﻼن حكم التحكيم فيكون قرارها قابلا للتمييز خلال ثلاثين يوماً من اليوم التالي للتبليغ، ويترتب على القرار القطعي ببطلان حكم التحكيم سقوط اتفاق التحكيم”. ويتبين لنا من النص سالف الذكر أنه يمنح المحكوم له الحق بالطعن ضد قرار محكمة الإستئناف أمام محكمة التمييز متى صدر قرار محكمة الإستناف ببطلان حكم التحكيم، في حين أن ذات النص يحظر على المحكوم عليه الطعن ضد قرار محكمة الإستئناف متى صدر ذلك القرار بتأييد حكم التحكيم. وواضح دون شك أن النص المذكور يمس بمبدأ دستوري مهم هو مبدأ “المساواة الإجرائية في نطاق الخصومة القضائية” تأسيساً على حكم المادة (6/1) من الدستور الأردني، إضافة إلى مساسه بمبدأ آخر هو “التقاضي على درجتين”. والسؤال المطروح، ماذا عن المراكز القانونية التي تكونت واستقرت خلال الفترة الواقعة بين تطبيق القانون منذ العام 2001 وصدور قرار المحكمة الدستورية سالف الذكر في العام 2013؟. إن الإجابة عن هذا التساؤل تقودنا أو تعيدنا إلى فكرة الأمن القانوني ما يمكن معه الجزم أن المراكز القانونية التي إستقرت خلال تلك الفترة ينبغي عدم المساس بها. بمعنى، أن قرار المحكمة الدستورية سالف الذكر ليس له أي أثر رجعي في التطبيق وإنما له أثر فوري فقط تأسيساً على فكرة الأمن القانوني.

أخبار ذات علاقة

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

أهم الأخبار

اخترنا لكم

المكتب الإعلامي الفلسطيني في أوروبا