الرئيسيةمختاراتمقالاتالعولمة كظاهرة اقتصادية..والبديل المفقود

العولمة كظاهرة اقتصادية..والبديل المفقود

بقلم: د.ايهاب عمرو

تزامن بزوغ ظاهرة العولمة مع انهيار المنظومة الاشتراكية نهاية الثمانينيات من القرن الماضي. وسبق ذلك بعقدين بدء محادثات الوفاق بين المعسكرين الرأسمالي والاشتراكي أو ما يعرف باسم “سياسة الوفاق الدولي بين الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفييتي السابق” التي بادر إليها الرئيس الأميركي الأسبق ريتشارد نيكسون نهاية الستينيات من القرن الماضي بمساعدة وزير خارجيته آنذاك هنري كيسنجر الذي عد أحد أهم منظريها على المستويين الفكري والاستراتيجي، وذلك للحيلولة دون مواجهة عسكرية شاملة بين كلا القطبين المتناحرين خلال مرحلة الحرب الباردة.

وكنتيجة حتمية لانهيار المعسكر الاشتراكي، ظهر نظام كوني أحادي القطب سمي بالنظام العالمي الجديد أو ما يعرف باسم “العولمة”. وتعرف العولمة، وفقاً لبعض الباحثين الدوليين، بأنها سلسلة من العمليات المتفاعلة والتغييرات التي تحدث على المستوى الدولي، أهمها نماذج الإنتاج المتغيرة، وازدياد أهمية الشركات متعددة الجنسية، وزيادة أهمية التجارة والتكتلات التجارية الاقليمية، وهيمنة مفاهيم الليبرالية الجديدة على العلاقات الاقتصادية، واتجاه عالمي نحو الدمقرطة وحماية حقوق الإنسان وتعزيز سيادة القانون.

ونقصد الحديث عن العولمة كظاهرة اقتصادية، وليس كظاهرة ثقافية، والتي تعني صعود الليبرالية الجديدة التي تمثل أيديولوجيتها الاقتصادية ودعامة الاقتصاد العالمي. وظهر مفهوم الليبرالية الجديدة لأول مرة بعد بزوغ ما يعرف باسم “إجماع واشنطن” الليبرالي الجديد نهاية ثمانينيات القرن الماضي في الولايات المتحدة الأميركية. ويعرف “إجماع واشنطن” بأنه مجموعة من المبادئ ذات توجه عام يخدم السوق صممتها الولايات المتحدة الأميركية والمؤسسات المالية العالمية التي تسيطر عليها إلى حد كبير وأخذت تطبقها بأشكال مختلفة، خصوصاً في المجتمعات الأكثر ضعفاً. ويقوم “إجماع واشنطن” على تحرير التجارة والتمويل ما يشمل تحرير تدفق الإستثمارات الأجنبية، والسماح للسوق بتحديد الأسعار، وإنهاء التضخم المالي أو ما يعرف باسم “استقرار الإقتصاد الكلي”، والخصخصة التي تعني تحويل الملكية العامة إلى ملكية خاصة مع ما يتضمنه ذلك من بيع وحدات القطاع العام إلى القطاع الخاص. وعليه، فإن الليبرالية الجديدة تقوم على مجموعة من العناصر أهمها: إقتصاد السوق الحر وانتقال الأموال دون حواجز جمركية ودون تدخل الدولة عند إنتقال الأموال، وتحرير التجارة، والخصخصة. وأهم مؤسسات الليبرالية الجديدة البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، ومنظمة التجارة العالمية. وتعد تلك المؤسسات، إضافة لكونها من الركائز التي تقوم عليها الليبرالية الجديدة، أدوات لتنفيذ السياسات الإقتصادية والمالية الرأسمالية على مستوى العالم.

ورغم أن العولمة ساهمت في تعزيز التعاون الاقتصادي بين دول العالم قاطبة عبر إزالة الحواجز الجمركية، وتنشيط المعاملات التجارية الدولية، وساهمت كذلك في تحقيق تنمية اقتصادية مستدامة في بعض الدول، واستقرار اقتصادي في دول أخرى بواسطة تبني إصلاحات إقتصادية، إلا أنها تبقى محل نقد ليس من قبل أتباع المعسكر الاشتراكي فحسب بل وحتى من أبناء جلدتها. ولا بد أن نشير في هذا السياق إلى ما سبق وذكره الكاتب العالمي ذو الاتجاهات اليسارية نعوم تشومسكي في كتابه “الربح فوق الشعب” من أن العولمة تسمح بهيمنة الشركات الكبرى على مقدرات الشعوب وتتيح لحفنة من الشركات الخاصة السيطرة على أكبر حيز ممكن من الحياة الإجتماعية في جميع بلدان العالم، بما فيها الدول النامية، لمصلحة كبار الأغنياء والمستثمرين، ولصالح أقل من ألف من الشركات الكبرى. ويرى ملتون فيسك في كتابه “العيش بكرامة في ظل الاقتصاد العالمي: الصراع من أجل المنافع العامة” أنه لا بد من مقاربة الليبرالية الجديدة التي تمثل الدعامة الحقيقية للاقتصاد العالمي من جانب مدى تحقيقها للعدالة، ولا يراها في هذا السياق سياسة اقتصادية فحسب بل منظومة أيضاً. ويرى أن الليبرالية الجديدة لم تكن قدراً محتوماً لو توفرت الإرادة السياسية المناسبة. ويرى أن وضع حد لها ما زال ممكناً، بما يفسح المجال لقيام نظام إقتصادي عالمي على دعائم جديدة تتسم بعلامات من العدل والإنصاف.

والتساؤل الذي يطرح نفسه في هذا الصدد، هل توجد إمكانية لإحلال بديل مناسب للعولمة ولليبرالية الجديدة في الوقت الراهن؟ وإذا كانت الإجابة بالإيجاب، فثمة سؤال آخر يطرح نفسه أيضاً، ما هو هذا البديل؟.

إن الإجابة على تلك التساؤلات تقودنا إلى فحص مدى صلاحية النظام الاشتراكي البائد ليشكل أساساً وإطاراً يحكم الاقتصاد العالمي، ما يشمل مبادلات التجارة الدولية. إن الإجابة على هذا التساؤل تعد من اليسر ما يمكن معه الجزم بعدم وجود أية إمكانية عملية لتطبيق النظرية الإقتصادية الإشتراكية بشكل واسع، بسبب عدم صلاحيتها وعدم كفايتها من منظور عالمي. إذ لولا فشل النظرية الاقتصادية الاشتراكية في تحقيق أهدافها لما تداعت أركان منظومتها بتلك الصورة التي شاهدناها. ولست أعلم إن كان الاشتراكيون يعلمون ذلك أم لا، لكن المؤكد أنهم يحاولون ما استطاعوا التحذير من مخاطر العولمة والليبرالية الجديدة وتأثيراتهما على الشعوب، خصوصاً الفقيرة منها. وأعتقد أنهم نجحوا إلى حد ما في ذلك، خصوصاً في ظل وجود رئيس قوي للجمهورية الروسية غير غير تابع للغرب سياسياً أو اقتصادياً. وهذا قد يفسر سبب اختياره من قبل مجلة “التايم” ومجلة “فوربس” الأميركيتين كأكثر شخصية مؤثرة على مستوى العالم خلال الأعوام الماضية.

ويرى البعض كوزير المالية الألماني ولفغانغ شويبله أنه لا حاجة لإيجاد بديل عن العولمة، ويقترح في هذا السياق إعادة تفعيلها وخلق قواعد جديدة تتسم بالشمول وإطار عمل واضح ومعترف به ليحكمها.

وأرى شخصياً أن إيجاد بديل عن العولمة في الوقت الراهن يعد أمراً صعباً بعض الشيء نظراً لسيطرة النظام الرأسمالي على معظم مناحي الحياة على المستوى العالمي، خصوصاً أن المؤسسات الرأسمالية (الليبرالية) الدولية تتحكم وتتدخل وترسم ملامح أية سياسات أو خطوات إقتصادية ومالية مقبلة ليس فقط في الدول النامية بل أيضاً في الدول الغربية. وخير مثال على ذلك اليونان، التي عانت من أزمة إقتصادية ومالية هزت أركانها ما إضطرها إلى القيام ببرامج تقشف وإنقاذ مالي بواسطة إصلاحات هيكلية فرضتها المؤسسات الدولية الرأسمالية كصندوق النقد الدولي.

إضافة إلى ما سبق، لا بد من الإشارة إلى أن البديل عن العولمة يحتاج إبتداء إلى نظام سياسي قوي يفرضه، وهذا غير متيسر في الوقت الراهن، فحتى جمهورية روسيا الإتحادية التي يحكمها رئيس قوي ليست قادرة على فرض فلسفة وآليات نظام اقتصادي اشتراكي جديد على مستوى العالم، خصوصاً في ظل قيام بعض الدول المؤثرة ذات التوجهات الإشتراكية بإتباع سياسات انفتاح اقتصادي ومواءمة تشريعاتها تبعاً لذلك كالصين على سبيل المثال.

كما أن العالم الإسلامي بشكل عام، والعربي بشكل خاص، يعاني من التشرذم والتفتيت وخطر التقسيم بسبب الحروب الأهلية والأزمات الإقتصادية المتلاحقة ما يجعل من الصعوبة بمكان تطبيق فلسفة وآليات النظام الإقتصادي الإسلامي على مستوى عالمي في الوقت الراهن، رغم أن الزكاة –على سبيل المثال لا الحصر- بأبوابها الثمانية كافية لحل مشكلة الفقر في العالم كونها تقوم على فكرة تداول المال بين أفراد المجتمع بحيث لا يزداد الغني غنىً ولا الفقير فقرا. كما أن نظام المرابحة متى طبق بشكل سليم يعد بديلاً عن نظام الفائدة المعمول به في أغلبية المصارف في العالم، وهو ما دفع بعض البنوك في بريطانيا إلى تبني بعض جزئيات النظام المصرفي الإسلامي في معاملاتها.

إضافة إلى هذا وذاك، فإن أوروبا ليست بقادرة على فرض أي نظام اقتصادي على العالم بسبب الأزمات المالية التي تلاحق بعض دول الإتحاد الأوروبي، وخروج بريطانيا المتوقع من الإتحاد الأوروبي. ناهيك عن أن أوروبا تتبع -سواء بشكل مباشر أو غير مباشر- الولايات المتحدة الأميركية من حيث السياسات الاقتصادية والمالية، رغم النفي المتكرر من قبل بعض صناع القرار في أوروبا لذلك.

أخبار ذات علاقة

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

أهم الأخبار

اخترنا لكم

المكتب الإعلامي الفلسطيني في أوروبا