التيارات الإسلاموية المتطرفة و”وعاء الآلهة” كتب بكر أبو بكر

مرت تجربة الفكر الإسلامي بمراحل متعددة، وإن كانت البداية في شأن التعددية قد ارتبطت بالخلاف على السلطة والحكم والسياسة، فإنها سرعان ما مزجت بينها-كتجربة صراع سياسي فكري- وبين العقيدة فيما ينتج عنها الفتنة الكبرى في التاريح الاسلامي.
ورغم أن التوزّع والاضطراب والاحتراب أصبح سمة المختلفين إلا أنه وبالاتجاه الآخر نشأت مجموعة من الأفكار والصراعات والحوارات التي جعلت من العقل الاسلامي عقلا متحركا مستنيرا لا يقبل بالقليل ولا يرضى بالمسلمات دون نقدها.
كانت فكرة العقيدة وفكرة القِيم وفكرة السياسة تشير في محاولة جادة لمفكري المسلمين لتحقيق الربط بينها الا أن الربط لم يتحقق، إذ سرعان ما أصبح لكل منها أي العقيدة والسياسة والقيم مسار ليس بالضرورة مرتبطا بالآخر، فحيث أصبحت العقيدة تعني القداسة والمطلق ويتم التعبير عنها بالعبادات والمعاملات وقواعد الإيمان، فان أخلاق التعامل لم تخضع بالضرورة لطبيعة الإيمان.
أما عن الشأن الدنيوي السلطوي السياسي فأبحر في محيط الاستثمار أوالاستغلال للعقيدة أو للقيم بما يوطّد السلطان والحكم إلا من رحم ربي.
توزعت تيارات الأمة الإسلامية على قاعدة الخلافات الثلاثة (العقدية،القيمية/الأخلاقية،السياسية) وما كان بينها من تقاطع أو تنافر أواستغلال، فنشأت الطوائف التي حملت عقيدتها على سيف السلطان (السياسة) وجيّرت (العقيدة) لمصلحة السلطان، وحاولت أن تتحلى بقيم وأخلاق جاذبة تؤهلها لموقع الإمارة أوالسيادة.
الانشقاق الأول في التاريخ العربي الاسلامي لم يكن سهلا، إذ كانت أصعب فتراته في رحاب الخلافة الراشدة ما أنتج على مدار زمني طويل كلاً من السنّة والشيعة بفرقها أو مذاهبها المختلفة، كما أنتج مذاهب أخرى لم يكتب لها الاستمرار مثل الخوارج والمرجئة والقدرية…..
إلا أن الحوار الفكري ظلّ متصلا ولم يتوقف بين الأئمة والمجتهدين والفلاسفة والمفكرين، واستطاعوا أن يحققوا تلاقحا في التجارب والأفكار ما أنتج أفكارا مستنيرة واجتهادات، كان للعقل فيها دور رئيسي حتى أطلت عصور الظلام ببشاعتها على الأمة فحط العقل رِحالهُ ليسود خطاب (الستارة السوداء) ممثلا بتقديس ما لا يمكن الوصول إليه (الفكرة السامية) أو (الدولة/الجماعة/المجتمع النموذجي)،وصيغت بناء على ذلك مجموعة من الافتراضات حُمّلت على عبء الموروث وألصقت بسيرة سيد الخلق أوصحابته أو آله رضوان الله عليهم أجمعين.
ساد التمجيد والتنزيه والتقديس للتاريخ سواء للأفراد أو للمحتوى التاريخي، كما ساد لمجموعة من الوقائع والاستنتاجات التي أصبحت مسلّمات! وصلت في مراحل متعددة لدرجة انها اعتبرت جزءاً من الإيمان لا ينفصل عنه مطلقا، مثل أفكار آخر الزمان، وافتقاد العدالة التي تحتاج لنبي أو “من يحمل عصاه” ليعيدها، في استلاب للآيات القرآنية التي ألقت العبء على الإنسان ليصنع يومه ومستقبله وحضارته بفكر ودعوة الرسالة المحمدية المهدية.
الصراع في الأمة، وما زال حتى اليوم، ينبثق من مدرسة العقل الناقد المجدد والمستنير والمتطور، ومدرسة النقل الماضوية التقديسية النصوصية، وثالثهما مدرسة الإفراط والمغالاة التي أنتجت اليوم العقل الماضوي المتطرف الذي مزج بين الماضوية والتطرف والعنف وكأن هذا يؤدي الى ذلك.
حديثا ومع ظهور فرصة قوية لخلق “مجتمع موازي” أو مجتمعات أصبحت الأمكانية أفضل لينتقل المجتمع المحلوم به من الواقع الافتراضي لدى التيارات الماضوية إلى الواقع المعاش عبر3 أشكال، الشكل الأول من خلال (العزلة المكانية الجغرافية أوالهجرة) أو من خلال المجتمع الموازي ممثلا (بالجماعة) أو (التنظيم)، أو من خلال (الواقع الالكتروني/الحياة الافتراضية)،.
سعت التنظيمات الإسلاموية منذ القرن العشرين وعلى أثر صدمة سقوط “الخلافة” أو السلطة العثمانية لإعادة مجد الأمة -كما تنظّر لها-، إلا أنها توقفت عن الإشعاع العقلي والعلمي والفكري الثري لتخترع أو تتعامل بدلا من ذلك مع مجموعة من “الأعداء” المفترضين كعامل استقطاب، دون أن تحصّن ذاتها في المسارات الحقيقية للنهضة، وهي العلم والاقتصاد والوحدة.
قادت التنظيمات المتطرفة والفكرالمُغالي عملية ابتدأت برفض المجتمع القائم باعتباره ليس مسلما بشكل كامل (جاهلي)، إلى أن أصبحت التهمة بالرِّدة أو التكفير لازمة عند هذه الجماعات، وما كان من التبلور لديها لفكرة (الخلافة) أو (المهدوية) الخدّاعة، أو فكرة “الجهاد” بمعنى القتال الهجومي فقط، أو فكرة الأمة المقدسة إلا برهانا على خروجها في حقيقة الأمر عن سماحة الإسلام ورحابته وحقيقة دعوته للعالمين.
جاء الإسلام الحنيف للعالمين، ولم يأت للمسلمين وحدهم، فكان أن أصبح سيف السلطان (الخلافة/الإمامة) لدى هذه التيارات بتّارا أكثر من (القيم والاخلاق) والانسانية السامية التي تمدّد وانتشر لسببها الإسلام العظيم، حيث تنتشر الدعوة بالقلوب والعقول، وتتمدد الامبراطوريات بالحرب والقدرة العسكرية والاقتصادية، والفرق بين قوة الرسالة والامبراطورية، هو فرق بين البندقية وزراعة الأشجار المثمرة.
لا نريد الخوض في العوامل الخارجية المسببّة للتطرف الاسلاموي على أهميتها ووجاهتها، ولكن سنركز في التطور الحاصل في ( البيئة ) أو(الوعاء) كما في (الفكرة) وعوامل تجليّات أو ظهور الفكرة ما نطلق عليه اسم نظرية مثلث (وعاء الآلهة).
كل من الكمال والجماعة (التنظيم) والظهور تشكل الأضلاع الثلاثة لمثلث “وعاء الآلهة” الذي يعتبر الانخراط فيه الفردوس المفقود أو الجنة الأرضية أوالحقيقة الافتراضية أو المجتمع المثالي التي يسعى (الكاملون) للعيش فيها في مساحة الجماعة.
أصحاب الفكرة (الكاملون كما يعتقدون) من فاسدي العقل يتوجهون لفئات بعينها وينخرون كالسوس في أدمغتها، فهم يختارون الفرائس من فئات محددة مثل المتطرف في آرائه أو أفعاله، أوالعاطل عن العمل الناقم على حياته أو عائلته أو أبيه أو بلده، المنعزل الانطوائي المتدين،المتعصب في تكوينه،أو المستنكف عن المواجهة للغير أو عن العمل، ويتوجهون نحو الجاهل علميا وفكريا وفقهيا أو قليل العلم توجها يعطي ثماره غالبا، ويتوجهون نحو شخص مظلوم أو مقصر دينيا أومنبوذ مجتمعيا أو مريض نفسيا، أو ذو طابع استعراضي أو متوتر وهم في كل ذلك يستغلون البيئة السلفية النقلية المجمدة للعقل التي يتربي عليها غالب هؤلاء.
إن (الكاملون) في جماعتهم يتطورون، فلا تبقى الأفكار فقط هي الجامع أوالأفكار والعلاقات الداخلية، وإنما يتطورون ليعبّرواعن كمالهم ومجتمعهم الخاص عبر الظهور للعلن.
أن نظرية وعاء الألهة افتراض قداسة ،وكمال للذات في الشخص-كل شخص مع درجات ومراتب، وهو مرتبط بالضرورة باعتقاد واهم انها –هذه الشخصية-تمتلك الفكر الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وعليه تكتفي بذاتها وفكرها (وهو فكر جماعتها المشوّه) وبما لديها من تفاسيردينية أو تأويلات ذات طابع نقلي ماضوي مغلق، وهذا الشخص في إطار انغلاقه يُنشيء كراهية للآخر، فما دام لديه إحساس طاغ بالنقاء والكمال فهو مؤهل للاحساس بالتفوق (ما هو وَهْم) والتميز.
ومثل هؤلاء المتطرفين الاسلامويين الذين يصفهم المفكر الكبير محمد أركون، بأنهم من يمتلكون “التصور الهوسي للنموذج النبوي” أي أن فكرتهم عن النموذج النبوي الشريف أنه لا يدانيه تطور أوتقدم مطلقا.
الكمال (في ذات الشخص) هو الضلع الأول في وعاء الألهة يكمله ضلع التنظيم أوالجماعة الربانية التي تقوم بتربية الأعضاء على السمع والطاعة قياما وقعودا، بعد أن تكون قد استدرجتهم بخطاب القلب والعاطفة الدينية لتغزو عقولهم فيصبح ما يقومون به من قبائح ورذائل قابل للتقبّل، لأن العضو هو النقي وهو الكامل داخل الجماعة النقية والكاملة مهما فعلت أو فعل قادتها من فواحش، فهم تحت إمرة القيادة (كالميت بين يدي المغسل) كما كرر كل من مختار نوح وثروت الخرباوي من قيادات الاخوان الخارجين من الجماعة، وتصبح الجماعة هي المجتمع البديل للمجتمع الحقيقي، ما يؤهل العضو للنفور من المجتمع العام أيضا، فهو مكتفي بما لديه وتتولد لديه منظومة كراهية ورفض للآخر وصولا لمحاربته.
إن ضرورة الظهور أو تحقيق التمكين تمثل للجماعة والعضو مطلبا ساميا فقد لا يكتفي بالعزلة الشعورية أو المكانية عن المجتمع فيما هو يعيشه من خلال أوهام أنه (أنهم) من سيعيد مجد الأمة وأنه من سيعيد “الخلافة” المدعاة “على منهاج النبوة” كما أعلنها أبوبكر البغدادي ومثله الكثير، وأنه وجماعته من ستستقبل “المهدي المنتظر” بالسجاد الأحمر والألعاب النارية، و(أنه وجماعته) لأنهم المطهَّرين والأنقياء والمكتفين بذاتهم فلا داعي لوجود الآخرين الذين يصبحون حُكما مرتدين أو كفرة، بل يجب محاربتهم.
وهنا يستوجب الظهور والتمكين ما تعبر عنه التنظيمات المتطرفة أولا بصراع الزعامة وبممارسة الافتاء المضلِل وبالتكفير والقتل، وثانيا باستغلال القيم الدينية من خلال المفتين (جمع مفتي، ويسمونهم داخل الجماعات المتطرفة اليوم الشرعيين نسبة للشرع في داخلهم، مقابل القادة الميدانيين العسكريين) لتطويعهم لأي قرار تتخذه القيادة على اعتبار أنه من صميم الدين وصلب الايمان مقرونا بآيات وأحاديث يتم ليّ عنقها، أما ثالثا فإن الجماعات المتطرفة تسعى للتمدد والتوسع أفقيا وعموديا، أفقيا بالانتشار بين مختلف الفئات وعموديا بتدجين الشباب والجهلة وقليلي المعرفة ليكونوا أدوات للقادة، أما رابعا فإن من مكونات التمكين إرهاب وإرعاب الآخرين بممارسات وحشية، وخامسا تستخدم هذه التيارات المتطرفة حديثا عنصر الصورة والصوت والإبهار لتعطي لذاتها معنى القوة والعظمة والنصرة من الله.

مواضيع ذات صلة

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

أهم الأخبار

فتح ميديا أوروبا