الإرهاب.. خلايا السرطان التى تحول الإنسان إلى وحش

لا يزال البحث يشغلنى عن تشخيص لمرض الإرهاب وعن دواء له، بعد أن تحول إلى وباء إقليمى ودولى ينتقل من بلد إلى آخر، فضرب فى يوم واحد من الأسبوع الأسبق كلاً من الكويت وتونس وفرنسا، ثم لحقت بها مصر فى الأيام التى تلته، فضلاً عن البلاد التى توطن فيها المرض، مثل سوريا والعراق واليمن وليبيا ونيجيريا والصومال، وارتبط فى كل هذه البلاد- وفى غيرها- بالإسلام على الرغم منه، ومنا نحن المسلمين.

ولفترة طويلة، كنت أقف فى الطابور الذى يقول الواقفون فيه، ولا يزال بعضهم يقولون ذلك حتى اليوم، إن الإرهاب هو ابن شرعى للفقر، وإنه لا يتفشى إلا بين الفقراء والمهمشين، وإن الظلم الاجتماعى هو سببه الوحيد، وتحقيق العدالة الاجتماعية هو علاجه الوحيد.. إلى أن تكتشف الحقائق التى تقول إن “أسامة بن لادن” هو ابن أسرة من المليارديرات، وإن بين الذين يمولون الإرهاب، مئات من أصحاب الثروات الطائلة الذين لا يعانون من حدّة الفقر، بل من فرط الثراء، وإنهم يفعلون ذلك انطلاقاً من فهم خاطئ للشريعة الإسلامية التى تجيز للمسلم أن يجاهد فى سبيل الله بماله إذا لم يستطع أن يجاهد بنفسه.

وهكذا انتقلت إلى الطابور الذى يقول أصحابه إن الجهل هو السبب فى الإرهاب، وإن الإرهابى هو – عادة – إنسان جاهل لم يتلق القدر الكافى من التعليم والثقافة الذى يهذب سلوكه، ويحول بينه وبين إزهاق أرواح الآخرين، وهو ما ثبت فى عمليات إرهابية كثيرة، فالذين اغتالوا فرج فودة وحاولوا اغتيال نجيب محفوظ ومكرم محمد أحمد كانوا من أشباه الأميين، ولم يقرؤوا حرفاً واحداً مما كتبه هؤلاء، ولكنهم صدقوا الذين أفتوهم بأنهم كافرون، فقرروا أن ينفذوا فيهم، ما قيل لهم إنه حكم الله، وذهبت كما ذهبوا إلى أن الدواء الوحيد لمرض الإرهاب هو القضاء على الأمية، ونشر التعليم والوعي.. إلى أن تكشفت الحقائق التى تقول إن من بين الإرهابيين متعلمون على أعلى مستوى، وذهلت – كما ذهل بعض الذين عاصروا الكشف عن مؤامرة “سيد قطب” عام 1965، حين اتضح لنا أن العمود الفقاري لأعضاء التنظيم الإرهابي الذى شكله، كانوا من الذين تلقوا تعليمهم فى الكليات التى توصف بالكليات العملية، مثل الطب والهندسة والزراعة وتخصصوا فى العلوم البحتة مثل الطبيعة والكيمياء، بل كان من بينهم من يعملون في هيئة الطاقة الذرّية.

وليس معنى ذلك أن الفقر والجهل ليسا من بين العوامل التى تساهم فى تكوين شخصية الإرهابي، لكن هما ليسا السبب الوحيد فى ذلك، وربما كان الأدق أن نقول إنهما عاملان يهيئان البيئة المتعاطفة مع الإرهابيين، وإن القضاء عليهما يؤدى إلى انكماش دوائر هذا للتعاطف التى تساهم فى إنجاح عملياتهم، لكنه لا يقضي على مرض الإرهاب نفسه، الذى تتوالد خلاياه – كمرض السرطان – ذاتيا.. لذلك تتغير شخصية الإرهابي خلال ممارسته للعنف، دون أن ينتبه إلى التغيرات التى تلحقها، إذا لم يكتشف الطبيب المرض المبكر إلى أن يفاجأ بتحوله من إنسان إلى حيوان ومن صاحب قضية إلى وحش.

والإرهابي يبدأ نشاطه عادة، وهو توهم أو يوهمه غيره أنه بممارسة العنف ضد الآخرين يدافع عن قضية عادلة، وعن مبادئ سامية، وبصرف النظر عما إذا كان أسلوب العنف الذى اختاره يخدم هذه القضية أو يضر بها، فإن هذا العنف سرعان ما يقوده – ربما دون أن يدرك – لكي يتحول إلى كائن يمارس العنف لمجرد العنف، وبصرف النظر عن أي قضية.

كان “وسيم خالد” أحد المناضلين المصريين الذين انضموا فى أربعينات القرن الماضى إلى منظمة سرية، تقوم باقتناص جنود الاحتلال البريطانى الذين كانوا يملؤون شوارع القاهرة آنذاك، وفشلت أول عملية شارك فيها لخشيته من أن يصيب الرصاص سيدة كانت تدفع عربة للأطفال تضم رضيعاً، بدلاً من أن تصيب جندي الاحتلال، فمنع زميله الذى كان مكلفاً بالتنفيذ من إتمام مهمته.. وابتعد بالدراجة البخارية التى كان يقودها عن الهدف بعد أن كان فى مرمى النيران.

وبعد عشر سنوات من ذلك، ناوشته شكوك فى أن أحد زملائه فى المنظمة هو الذى أبلغ الشرطة عن بعض أعضائها، فقرر أن يستدرجه إلى جبل المقطم – حيث كان أعضاء المنظمة يتلقون تدريباتهم على إطلاق النار – لكي يقتله، لولا أن هذا الزميل تخلف عن الحضور لعذر طارئ وحمد الله لأن ذلك حدث، حين اكتشف – بعد ذلك – أن شكوكه لم يكن لها أى أساس، وحمده مرة ثانية، حين اعترف له أحد زملائه من أعضاء المنظمة، أنه كان على وشك أن يقتله هو نفسه، لأنه شك فى أنه أقام علاقة عاطفية مع إحدى قريباته.. لولا أنه اكتشف – بالمصادفة – أن ظنونه قد خدعته.

وفى عام 1953، وفى يوم الاحتفال بالمولد النبوى الشريف سلم شخص مجهول علبة من حلاوة المولد، إلى شقيقة المهندس “سيد فايز” – أحد أبرز وأقدم قيادات جهاز الإرهاب التابع لجماعة الإخوان المسلمين – قائلاً إنها هدية له، وما كاد فايز يعود إلى منزله، ويفتح العلبة ليبحث عن اسم مرسلها حتى انفجرت فى وجهه، وحطمت جدران الغرفة التى كان يجلس فيها.. ولأن الصراع كان محتدماً أيامها بينه وبين آخرين من قادة الجهاز فقد ساد الاعتقاد أن الذى قام بتنفيذ العلمية هو أحد زملائه وأخوة نضاله!

المقارنة بين “وسيم خالد” الذى حال دون تنفيذ عملية، حتى لا تصيب طفلة بريئاً لا ذنب له، و”وسيم” الذى كان على وشك أن يقتل رفيقاً له فى النضال، لمجرد شكوك عابرة وبين إخوة الكفاح التى جمعت “سيد فايز” وبين قاتله، وانتهت بتفجيره، هو الذى يؤكد صحة استنتاجنا، بأن العنف كخلايا السرطان، تتوالد ذاتياً.. وتحول الكائن البشرى من “إنسان” إلى “حيوان”!

صلاح عيسى

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

فتح ميديا أوروبا
Exit mobile version