عن قضية المعتقلين الإداريين ونضالاتهم كتب علي جرادات

منذ إنشائها ترفض إسرائيل كدولة احتلال انتهجت سياسة التطهير العرقي المُخطط والطرد القهري بأشكاله، الالتزام بأبسط وأدنى قواعد القوانين الدولية والإنسانية. وبقدر ما يتعلق الأمر بالأسرى، فإنه علاوة على اعتقال نحو مليون فلسطيني منذ العام 1948 ونحو (850 ألفاً) منذ العام 1967، طبقت إسرائيل هذه أسوأ أشكال الاعتقال الإداري المعروفة في التاريخ المعاصر، إذ تكفي الإشارة إلى أنه مع اندلاع الانتفاضة «الأولى» رفعت سلطات الاحتلال منسوب الاعتقال الإداري كماً، (عدد المعتقلين)، ونوعاً، (مرات التجديد التلقائي لأمر الاعتقال)، بل وحولت صلاحية إصدار أمر الاعتقال الإداري مما يسمى «قائد المنطقة الوسطى» في الضفة و»قائد المنطقة الجنوبية» في قطاع غزة إلى مسؤول «مخابرات المنطقة»، (قرية أو مخيم أو حي في مدينة). وكل ذلك في إطار سياسة وإجراءات أمنية وعسكرية دموية قاسية، شملت القتل والجرح و»تكسير العظام» وتفجير البيوت وهدمها وحظر التجوال ومنع السفر وتقطيع أوصال المدن والقرى والمخيمات….الخ، لإخماد نار تلك الانتفاضة، إنما دون جدوى. بل، حتى بعد خفوت نار الانتفاضة «الأولى» ارتباطاً بإبرام «اتفاق أوسلو» ونشوء «السلطة الفلسطينية»، فإن سلطات الاحتلال لم تخفف سياسة الاعتقال الإداري، حيث زاد عدد المعتقلين الإداريين في الفترة الممتدة بين (1994-2000)، عن نظيره في الفترة الممتدة بين، (1992-1994)، ما يعني أن سلطات الاحتلال لم تسعَ إلى إخماد نار الانتفاضة، فحسب، إنما إلى إطفاء جمرها المتبقي تحت رمادها، أيضاً. أما بعد اندلاع «الانتفاضة الثانية»، وتحديداً بعد الاجتياح الشامل للضفة في نيسان 2002، فحدث ولا حرج، حيث عاد عدد المعتقلين الإداريين وعدد مرات تجديد اعتقالهم إلى ما كان عليه إبان الانتفاضة «الأولى». وكل ذلك دون أن ننسى الإشارة إلى قلة عدد المعتقلين من قطاع غزة، بمن فيهم المعتقلين الإداريين، منذ نشوء «السلطة الفلسطينية» عام 1994.
إن كان للإشارات السريعة السابقة من أهمية، فهي تبيان خطأ عدم وضع قضية الأسرى عموماً، وقضية الاعتقال الإداري خصوصاً، ضمن أولويات المفاوض الفلسطيني قبل التوقيع على «اتفاق أوسلو»، ما أدى إلى ضياع فرصة واقعية لانتزاع بند يقضي، (على الأقل)، بتجميد سياسة الاعتقال الإداري، كمطلب يطالب به المعتلقون الإداريون في سجون الاحتلال، وفي إطاره بدأوا، (وللدقة عشرات منهم)، منذ 1 تموز الجاري، بمقاطعة «لجان الاعتراض العسكرية» التي تُسمى-خطأً- «محاكم»، علماً أن هذه ليست المرة الأولى التي يخوض فيها المعتقلون الإداريون هذا الشكل النضالي ضمن أشكال نضالية مختلفة، أهمها الإضراب الجزئي أو المفتوح عن الطعام، فخلال العامين 1996-1997 قاطع المعتقلون الإداريون كافة هذه «اللجان» تعبيراً عن قناعتهم بأن جهاز المخابرات، «الشاباك»، يتحكم تماماً بقرارات ما يُسمى «القضاة العسكريين»، وبالتالي بأوامر الاعتقال الإداري التي يصدرها «قائد الجيش»، وأحياناً «مسؤول المخابرات»، «في المنطقة»، استناداً إلى «قانون الطوارئ البريطاني» الذي يسمح باعتقال البشر من دون التحقيق معهم، وبناء على «ملف مخابراتي سري» يُحظر كشفه، ما يحرم المعتقل من حقه في معرفة التهم الموجهة له، وبالتالي من حقه في الدفاع عن نفسه. هذا ناهيك عن التجديد التلقائي لأوامر الاعتقال الإداري الذي أمضى فيه مئات المناضلين الفلسطينيين سنوات متصلة، ( امتدت لـ7 سنوات في حالة المناضل علي الجمال)، بل وأمضى العشرات منهم، (بينهم كاتب هذه السطور)، في الاعتقال الإداري، على دفعات، وعلى التهمة المحظور كشفها ذاتها، نحو عقد ونصف العقد، وربما هنالك حالات تجاوزت هذه المدة. وكل ذلك من دون أن ننسى ما يتعرض له الأسرى، بمن فيهم المعتقلون الإداريون، من عمليات قمع واستباحة وتنكيل مبرمجة، أدت، فيما أدت، إلى استشهاد 206 أسير منذ العام 1967، بينما رفعت حكومات المستوطنين بقيادة نتنياهو منذ العام 2008 درجة التنكيل بالأسرى بصورة غير مسبوقة، وما إعادة اعتقال عدد من محرري صفقة «شاليط»، وسن قانون حبس «راشقي الحجارة» من الأطفال لمدة عشر سنوات، والبدء بنقاش مشروع قانون يقضي بإعدام الأسرى الذين ينفذون عمليات عسكرية، إلا دليل على دخول عنصرية إسرائيل وتطرفها تخوم الفاشية، إن كان في تعاملها مع أبناء الشعب الفلسطيني، عموماً، أو مع أبنائه الأسرى، خصوصاً.
وبالعودة إلى الاعتقال الإداري تجدر إلاشارة إلى أن تجديده التلقائي لم يكن مسموحاً حتى في جنوب أفريقيا إبان عهد نظام الأبرتهايد البائد، بوصفه النظام الأسوأ لاستعباد البشر وحرمانهم من أبسط حقوقهم في التاريخ المعاصر، ومنها حق كل متهم في الدفاع عن نفسه أمام محكمة مفتوحة، ولو في إطار قانون تسنه هذه السلطة المستبدة أو تلك، أو هذه السلطة الاحتلالية أو تلك، ما يعني أن إسرائيل التي تمارس التعسف،( انتهاك قانون صوري)، في حالة الأسرى «المحكومين» وتمارس الطغيان،(غياب القانون)، في حالة المعتقلين الإداريين، وتمارس التنكيل المُبرمج متعدد الأشكال بحق كل من يدخل سجونها، إنما تتجاوز في عنصريتها وطغيانها عنصرية وطغيان نظام الأبرتهايد البائد في جنوب أفريقيا. ولا عجب، طالما أن قادة إسرائيل يغلقون باب التسوية السياسية للصراع ويشترطونها بالاعتراف بـ»الدولة اليهودية» التي باتت خارج الممكن التاريخي اتصالاً بحقائق موضوعية، أهمها أن نحو 6 مليون فلسطيني يعيشون الآن في فلسطين التاريخية، فيما قرابة 6 مليون لاجئ اقتلعوا في عملية تطهير عرقي بشعة عام 48 ونزوح قهري عام 67، ما انفكوا يتمسكون بحقهم في العودة الذي عمدوه بكفاحهم الوطني وتضحياتهم ودمائهم رافضين التوطين وجحيم التشرد، بينما لم ينجح المشروع الصهيوني في استقدام سوى نحو 6 مليون مستوطن يهودي، أي ثلث يهود العالم فقط.
بل لا عجب في أن تُستثنى إسرائيل من المساءلة حتى في موضوع الاعتقال الإداري الذي وصفه يوسي بيلن بـ»لطخة عار في جبين الديمقراطية الإسرائيلية»، طالما أن الولايات المتحدة، حليف إسرائيل الثابت، يدعم مطلبها في «دولة يهودية» لا إمكانية لاقامتها إلا بإبادة الشعب الفلسطيني وإقصائه من المكان والزمان، ومن خلال المزيد من مجازر التطهير العرقي التي فشل ما ارتكب منها حتى الآن في أن يحول الفلسطينين إلى «غبار الأرض»، حيث رفضوا التسليم بنتائج «زلزال» النكبة، وثاروا عليها، واكتسبوا هوية وطنية كفاحية في سبيل قضية عادلة، بينما فشلت اتفاقات (كامب ديفيد، واوسلو، ووادي عربة)، في جلب «السلام»، وتطبيع علاقات إسرائيل مع الشعبين المصري والأردني والشعوب العربية بعامة، فيما يواصل الشعب الفلسطيني كفاحه الوطني ضد احتلال فشل في شطب وجوده وما يستولده من ارادة مقاومة تتطلع نحو اهداف اصيلة وجوهرية. فمساعي «أسرلة» التجمع الفلسطيني في 48 وتفكيك التجمع الفلسطيني في 67 وتوطين اللاجئين، اصطدمت ولا تزال بعناصر الهوية والذاكرة التاريخية والحلم المشترك وموجات النضال المستمرة. ما يعني أنه محض خداع مواصلة الادعاء بأن الشعب الفلسطيني الذي فتته الغزو الصهيوني ويوحده سياق تاريخي مديد ليس بنية واحدة.
يعنينا مما تقدم القول: إن خطوة المعتقلين الإداريين في مقاطعة «لجان الاعتراض العسكرية» التي تُزيِّن اعتقالهم التعسفي وتغطيه، فيما- أثبتت التجربة على مدار عقود- أنها بلا أي وظيفة «رقابية قضائية»، إنما هي خطوة على الطريق الصحيح، ويجب اسنادها بالمعنى الفعلي والشامل للكلمة، بوصفها خطوة في إطار كفاح عموم الشعب الفلسطيني في مواجهة عنصرية صهيونية سياسية ايدولوجية بلغت حدود الفاشية، لكنها لم تقوَ، ولن تقوى، على الغاء حقائق الحياة، ولم تنتج، ولن تنتج، غير تأبيد الصراع وتأجيجه وإعادة انتاجه، ذلك لإن رفض قادة إسرائيل الإعتراف بما حل بالشعب الفلسطيني من نكبة ومذابح وتنكيل واستباحة انما يؤكد انكشاف كذبة «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض» التي اخترعها المستعمرون البريطانيون وتلقفها مؤسس الصهيونية، هرتزل، بعد عشرات السنين، لاقامة «دولة يهودية»، ما انفك نتنياهو وقادة إسرائيل عموما، يحلمون بها ويعملون على انتزاع الاعتراف الفلسطيني والعربي والدولي بها، بينما لا إمكانية واقعية لها لا في عموم فلسطين، ولا حتى في «مناطق 48»، حيث يتشابك المجتمع الفلسطيني العربي فيها مع التجمع الاستيطاني اليهودي في الاقتصاد والخدمات وسوق العمل وخطوط المواصلات والثروة المائية تحت سيطرة العنصرية الصهيونية بسياساتها وممارساتها التوسعية العدوانية، ما يجعل الخارطة السكانية هنا شبيهة بالخارطة السكانية في جنوب افريقيا قبل سقوط نظام الأربرتهايد. هذا ناهيك عن التشابك القائم من موقع الإلحالق بين الاقتصاد الإسرائيلي واقتصاد قطاع غزة والضفة التي قام الاحتلال بقيادة نتنياهو بتمزيق سوقها وربط شمالها وجنوبها ووسطها كل على حدة بالإقتصاد الإسرائيلي سيما الأيدي العاملة والتجارة وطرق المواصلات والموانيء، بينما تم ضم القدس وسلخها عن الضفة، علاوة على التشابك الذي احدثه جدار التوسع والضم العنصري الذي التهم نحو 40% من مساحة الضفة بما تحويه من قرى وسكان وثروات، فيما معظم شبكات المياه والكهرباء والشوارع الرئيسة في الضفة شبكات مشتركة تستخدمها التجمعات السكانية الفلسطينية والتجمعات الاستيطانية اليهودية، عدا أن 80% من مياه الضفة بات تحت سيطرة الاحتلال لتلبية 40% من حاجة إسرائيل المائية.

مواضيع ذات صلة

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

أهم الأخبار

فتح ميديا أوروبا