“محمد رجا نعيرات” كتب عيسى عبد الحفيظ

أخرجت قرية “ميثلون” كثيرا من مقاتلي الثورة, كلهم انضموا اليها شبابا يافعين باستثناء “ابو رفعت” الذي التحق بها شيخا تجاوز سن التقاعد, لكنه عمل بنشاط ملحوظ واجتهاد وجرأة واقدام.

سريع الحركة, كثير النشاط, متوقد الفكر. تغلبت ارادته على سنه المتقدم, وتغلب نشاطه على امكانيات جسده.

اعتقل في بداية السبعينيات, وحكم بالسجن المؤبد نظرا لعملياته الجريئة والخسائر التي كبدها للعدو, وكان هذا السبب الرئيس في رفض القضاة الالتماس المقدم من المحامي بتخفيف العقوبة نظرا لتقدمه في السن.

بعد اصدار الحكم النهائي عليه, تم ارساله الى سجن بئر السبع “ليتعفن بين جدرانه فيما تبقى له من العمر” كما قال له القضاة.

وجد “ابو رفعت” أمامه في السجن ساحة تكتظ بالنشاط والحيوية, فانضم الى رفاقه في الجبهة الشعبية في جلساتهم التنظيمية وشارك بفعالية في النقاشات المستمرة, يجادل ويناقش, يثور ويهدأ, ويبحر في عالم السياسة, والمفاهيم التنظيمية, والاصطلاحات الوطنية.

كان يضايقه ان يتفوق عليه شاب في النقاش, لذا عمل على الدراسة والتحصيل الثقافي الوطني مطورا نفسه باستمرار ليستطيع التغلب على من يناكفونه في الجلسات التنظيمية.

لم يقتصر نشاط “ابو رفعت” على ما يجري داخل السجن, فقد انتقل من مزارع الى مقاتل, ثم الى مثقف ثوري ومنظر سياسي ومحرض, حتى التحق به ابنه رفعت بعد فترة الى سجن بئر السبع محكوما سبع سنوات.

التقى الأب والابن في نفس السجن وفي غرفة واحدة. كان من الطبيعي ان يسعى الابن لمساعدة والده الشيخ في بعض الأمور التي تتطلبها حياة المعتقل, لكن ابو رفعت رفض رفضا قاطعا, كما رفض الاعفاء الذي قدمه زملاؤه له في خدمة النظافة الدورية التي يؤديها السجناء.

كان يصر على أخذ دوره في غسل الأطباق, وتنظيف الأرضية والحمامات.

حدثت مفارقة مميزة بعد عدة سنوات. فقد تفوق الابن على الأب في التراتبية التنظيمية, فأصبح موجها له في الجلسات التنظيمية والادارية, واضطر أبو رفعت الى مخاطبة ابنه بكلمة “يا رفيق”. لم يكن سهلا على “ابو رفعت” ان يتجانس مع هذا الواقع لكنه التزم به وأظهر انضباطا واضحا.

ظهر اسمه في عدة عمليات للتبادل واشتملت كلها على اسمه, لكن الاحتلال رفض المساومة عليه ورفض اطلاق سراحه باصرار وتعنت.

تقدم “ابو رفعت” في السن وهو ما زال قيد الاعتقال وانتشرت في جسده الهرم والنحيل عدة أمراض حتى أقعدته عن الحركة نهائيا وبدأ بفقدان الذاكرة حتى اختفت نهائيا.

فقط, وعندما وصل الى حافة النهاية, قامت سلطات الاحتلال باطلاق سراحه: فالاحتفاظ به داخل السجن بات مكلفا وعديم الفائدة, ونهايته أصبحت محتومة. وهكذا خرج من السجن ليقضي بين ذويه.

عاش بكرامة ومات بكرامة, لم يساوم ولم يتخاذل, ولم يحن رأسه للعدو رغم ضعف بنيته الجسدية.

محمد نعيرات “أبو رفعت” ليس حالة خاصة ولا استثنائيه في العطاء الفلسطيني من أجل الوطن والحرية. ما ميزه هو تقدمه في السن فقط. لكنه وبهذه الخاصية كان يدرك أن عليه تلقين جيل الشباب درسا في المقاومة والصمود وهذا ما فعله بالضبط, أدى واجبه الوطني النضالي ودفع الثمن كاملا, وأدى واجبه الوطني في السجن ومثل قدوة فلسطينية وطنية لمن هم أصغر منه سنا, وكان مثالا يحتذى في التصدي لآلة السجان الجهنمية, ومثالا في الصمود الشامخ رغم عدم التكافؤ بينه وبين الخصم.

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

فتح ميديا أوروبا
Exit mobile version