باي باي اوسلو كتب حسن سليم

حتى بلوغه السطر الاخير من خطابه، لم تكن لتتوقف التنبوءات بماهية الجملة القادمة، ودوام السؤال عن القنبلة التي كثر الحديث عنها.

خطاب الرئيس ابو مازن في مقر الامم المتحدة بنيويورك، كان ابعد مما توقعه المنجمون، وجاء على غير ما توقع هواة السياسة ومراهقوها، فقد ترك الرئيس وعلى مدار الايام الماضية المحللين والعسس يتنبأون، ويمارسون هواية جس النبض واطلاق البالونات السياسية حول مضمون الخطاب، وينشرون احيانا بـ “فهلوة” نصوصا قالوا انها مسربة لعلهم يحصلون على رد بالتاكيد او بالنفي يقربهم من مضمونه استعدادا للتعامل مع ما بعده.

كعادته يحتفظ الرجل الحكيم بقصاصات ورق في جيبه، يقرأها بهدوء وتمعن في ساعة خلوة، ويستخلص منها ما ينفع، دون ان يعرف من حوله ماذا استخلص منها، في حين لو تم جمعها، قد تشكل خطابا مكتملا، وقد تخلق حولا لمن يقرأها لتناقض مضمونها.

انتهت ساعة التوقعات بانتهاء الكلمة الاخيرة في الخطاب، الذي كانت الواقعية عنوانه، وقوة الحق دائمة الحضور بين مفاصله، وقاطعه الحضور بالتصفيق ثمان مرات، حيث حمل بين ثناياه هموم الشعب المقهور الذي مل الانتظار والتسويف من قرب خلاصه من احتلال ملامحه تشير الى استقرار بنائه على ارض المفروض ان تقوم عليها دولتنا، وفق ما اقرته الشرعية الدولية، وايدها قادة الدول ممن استمعوا لخطاب الرئيس ابو مازن، فكان خطابا انسانيا عاقلا قبل ان يوصف بانه سياسي، فلم ينس حرق عائلة الدوابشة ومحمد ابو خضير ومن قبلهم محمد الدرة.

و بعد ما حققه الرئيس ابو مازن من انتصارات دبلوماسية جسدت ملامح الدولة وثبت وجودها على الخارطة الدولية، وبعد ان رفع علم فلسطين الى جانب اعلام الدول المئة والثلاث وتسعين، الذي لم تعد دلالته رمزية فقط، وليس مجرد قطعة قماش كما اعتقد بعض الموتورين، بل هو تعبير سياسي وقانوني عن اعتراف دولي بحقوقنا، حتى وان كان العالم عاجزا عن اجبار دولة الاحتلال على الاعتراف بحقوقنا وانسحابها لاقامة دولتنا المستقلة بعاصمتها القدس الشرقية، وبعد ان اصبحت فلسطين صاحبة صفة دولة غير عضو بصفة مراقب، واصبحت طرفا وعضوا في عشرات الاتفاقات والمعاهدات الدولية، جاء وقت الوداع لاتفاق اصرت اسرائيل عبر ممارساتها العنجيهة على دفنه، ولم تبق منه غير اسمه، جاء الموقف الفلسطيني والوطني بما لخصه الرئيس ابو مازن من توصيف بان الفلسطينيين لن يكونوا الطرف الوحيد الملتزم باتفاقات تريد لها اسرائيل ان تكون مهينة، طالبا بالمقابل بتوفير الحماية الدولية لشعبنا، ومهددا من يفكر بالاقدام على ارتكاب الجرائم، بان المحكمة الجنائية الدولية بانتظاره.

وداع اوسلو بوقف العمل فيه، ولا سيما البند الاهم المتعلق بالتنسيق الامني، خطوة شجاعة لرئيس اعتقدت اسرائيل وبعض العرب، ووكلاء التهريج السياسي، انه ضعيف وفقد الخيارات ولم يعد امامه سوى التسليم بما هو موجود، لكن خطابه اليوم الذي اغدق فيه عليهم معرفة وحنكة، اثبت فيه كما في كل مرة سبقت بانه يدرك حجم الفجوة بيننا كشعب اعزل من كل شيء الا قوة الحق والارادة، وبين دولة احتلال تهافتت دول العالم على مدار العقود الماضية على دلالها واستراضائها، الا انه مصر على حفظ العهد ووصية سلفه، وبانه لن يخون شعبه ولن يفرط بحقوقه، فكان خطابه بمثابة مرافعة وطنية استنهضت الوعي الدولي لاعادة قراءة التاريخ والحقوق لحث العالم على القيام بواجبه تجاه قرارات دولية تم تطبيق نصفها، فيما تركت النصف الاخر لمزاجية اسرائيل المقيتة.

وبعد هذا الوداع المشرف من قبل الرئيس ابو مازن رأس الشرعية الفلسطينية من خلال خطابه التاريخي في بيت الشرعية الدولية لاتفاق اعتقد الكثير انه نهاية المطاف، يحضر الوقت لان يتحمل الكل الوطني مسؤولياته، ويتخلى البعض ولو قليلا عن حفلة التنظير التي اضاعت البلد بمزاوداتهم الجوفاء، وان يستجمعوا قواهم بعد عمل مساج فكري، ليقدموا اعتذارا يليق برئيس جليل، تحمل نكرانهم وتشكيكهم وتخوينهم له احيانا، فيما كان هو مسكون بحفظ الحقوق والدفاع عنها.

مواضيع ذات صلة

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

أهم الأخبار

فتح ميديا أوروبا