ما بعد انضمام فلسطين إلى المحكمة الدائمة للتحكيم كتب د. إيهاب عمرو

نجحت دولة فلسطين بعد محاولات حثيثة ومضنية في نيل العضوية الكاملة في المحكمة الدائمة للتحكيم ومقرها مدينة لاهاي الهولندية، وذلك بتاريخ 14 آذار من العام الجاري. وقد جاء هذا النجاح بعد قيام فلسطين بتقديم طلب الانضمام لدى الحكومة الهولندية، كون هولندا هي الدولة المضيفة للمحكمة، وقبول المحكمة لهذا الطلب.

لا بد أن نشير ابتداء إلى أن انضمام فلسطين إلى المحكمة الدائمة للتحكيم من شأنه أن يجعل فلسطين عضواً في المجلس الإداري للمحكمة، ذلك أن ممثلي الدول لدى هولندا يعتبرون أعضاء في هذا المجلس، تحت رئاسة وزير الخارجية الهولندي. ويقوم المجلس، بالتعاون مع السكرتير العام للمحكمة، بوضع السياسات الخاصة بالمحكمة، إضافة إلى قيامه بتزويد التوجيهات العامة حول عمل المحكمة. كما يشرف على المسائل الإدارية، وأمور الموازنة والإنفاق. ويعمل المجلس المذكور بمقتضى قواعد الإجراء الخاصة بالمجلس الإداري للمحكمة الدائمة للتحكيم. إضافة إلى هذا وذاك، فإن انضمام فلسطين إلى تلك المحكمة الدولية سوف يكون له دون شك تأثير إيجابي على تسوية أية نزاعات مستقبلية بين دولة فلسطين وأية دولة أو منظمة حكومية أخرى بواسطة تلك المحكمة، اعتماداً على قواعدها الإجرائية الخاصة بتسوية المنازعات الدولية.

وتعد المحكمة الدائمة للتحكيم منظمة حكومية دولية مكونة من 117 دولة عضوا، إضافة إلى دولة فلسطين، أنشئت بموجب الإتفاقية الخاصة بتسوية المنازعات الدولية التي وقعت في العام 1899 في مدينة لاهاي الهولندية على هامش مؤتمر لاهاي الأول للسلام، بهدف المساعدة في إيجاد نظام دولي خاص بتسوية المنازعات بين الدول الأعضاء، خصوصاً عن طريق التحكيم، وذلك عبر التعاون مع الدول الأعضاء ومؤسسات التحكيم الأخرى حول العالم. وتعد المحكمة الدائمة للتحكيم أول إطار قانوني دولي لتسوية المنازعات بين الدول، في حالة فشل تسوية تلك المنازعات بالطرق الدبلوماسية. وقد نصت المادة (20) من الاتفاقية المذكورة على إنشاء المحكمة الدائمة للتحكيم من خلال التأكيد على رغبة الدول الأعضاء في الاتفاقية كي تعمل وفاقاً لقواعد الإجراء المتضمنة في ذات الإتفاقية، ما لم يتفق الأطراف على خلاف ذلك. وقد تم تعديل الاتفاقية المذكورة في مؤتمر لاهاي للسلام الذي انعقد في العام 1907. في الوقت الراهن، تقوم المحكمة الدائمة للتحكيم بتقديم خدماتها الخاصة بحل النزاعات بين الدول الأعضاء، الكيانات الحكومية، المنظمات الحكومية الدولية، وأطراف من القطاع الخاص. ويمكن تنفيذ أحكام التحكيم الصادرة عن المحكمة الدائمة للتحكيم بناء على اتفاقية نيويورك الخاصة بالإعتراف وتنفيذ أحكام المحكمين الأجنبية لسنة 1958 رغم كون تلك الاتفاقية تتعلق أساساً بتنفيذ أحكام المحكمين التي تقع ضمن نطاق القانون الدولي الخاص بمفهومه الواسع. ويمكن أن نعزو ذلك إلى عدم وجود اتفاقية دولية تنظم تنفيذ أحكام المحكمين الصادرة في نطاق القانون الدولي العام لغاية الآن، مثل الأحكام الصادرة عن المحكمة الدائمة للتحكيم.

ومما يجدر ذكره في هذا الصدد، أن فلسطين كانت قد أصبحت عضواً رسمياً في اتفاقية نيويورك سالفة الذكر في مطلع العام 2015.

ويعكس انضمام فلسطين إلى المحكمة الدائمة للتحكيم توجه السلطة الوطنية الفلسطينية نحو تبني التحكيم الدولي كوسيلة لفض المنازعات الدولية سواء تلك الناشئة بينها وبين دول أو منظمات حكومية أخرى، أو الناشئة عن معاملات التجارة الدولية، والاستثمار الأجنبي. وقد أكدت السلطة الوطنية هذا التوجه سابقاً، من خلال إبرام العديد من الاتفاقيات والعقود مع الجهات الدولية المانحة والشركات الأجنبية، التي تضمنت بين ثناياها شروطا خاصة بإحالة النزاعات الناشئة إلى التحكيم، بحيث يتم تسوية تلك النزاعات من خلال المحكمة الدائمة للتحكيم، أو أية هيئة تحكيمية دولية أخرى. ومن هذه الاتفاقيات على سبيل المثال اتفاقية التمويل التي وقعتها السلطة الوطنية ممثلة بوزارة المالية في العام 1997 مع السوق الأوروبية المشتركة(Financing Agreement between the European Community and the Ministry of Finance of the Palestinian Authority). وقد تضمنت هذه الاتفاقية تمويل العديد من القطاعات في فلسطين، ومن ضمنها الجزء الخاص بتقديم المساعدة التقنية لإدارة الجمارك. وقد نصت في المادة (26) على إحالة النزاعات الناشئة عن تنفيذ تلك الاتفاقية إلى التحكيم بواسطة قواعد الإجراء الخاصة بالمحكمة الدائمة للتحكيم.

وكذلك الاتفاقية الموقعة بين دائرة الآثار في السلطة الوطنية، والحكومة الهولندية ممثلة بوزارة التعاون والتنمية الهولندية بتاريخ 1/7/1996 (Arrangement between the Palestinian Department of Antiquities and the Netherlands , Ministre For Development and Cooperation).

وقد تضمنت تلك الاتفاقية في المادة (19) شرطا خاصا بإخضاع النزاعات الناشئة إلى التحكيم، على أن يدار بواسطة قواعد الإجراء الخاصة بالمحكمة الدائمة للتحكيم، في حال فشلت تسويته بطريقة ودية.

مما يجدر ذكره في هذا السياق، أن المحكمة الدائمة للتحكيم كانت قد أصدرت النسخة الأخيرة من قواعد التحكيم الخاصة بها في العام 2012، والتي تم بوجبها توحيد كافة القواعد الإجرائية التي كانت سارية المفعول قبل ذلك وهي قواعد التحكيم الإختيارية لتسوية النزاعات بين دولتين للعام 1996، قواعد التحكيم الاختيارية لتسوية النزاعات في حالة كون أحد الأطراف دولة للعام 1993، قواعد التحكيم الإختيارية لتسوية النزاعات بين دولة ومنظمة حكومية للعام 1996، وقواعد التحكيم الاختيارية لتسوية النزاعات بين منظمات حكومية وأطراف خاصة للعام 1996.

من نافلة القول، يعد التحكيم من الوسائل البديلة عن القضاء لحل النزاعات سواء كانت محلية أو دولية، وسواء كانت تقع ضمن علاقات القانون الخاص بين الأفراد أو الشركات أو كانت تقع ضمن علاقات القانون العام بين الدول. ويشمل الإطار القانوني للتحكيم في فلسطين كل من قانون التحكيم الفلسطيني رقم 3 لسنة 2000، اللائحة التنفيذية الخاصة بقانون التحكيم الصادرة في العام 2004، وكذلك مجلة الأحكام العدلية، التي تضمنت في الباب الأخير المعنون “في بيان المسائل المتعلقة بالتحكيم”، النص على جواز التحكيم في دعاوى المال المتعلقة بحقوق الناس. إضافة إلى ما سبق، فإن بعض القوانين الأخرى سارية المفعول قد تناولت مسائل الاتفاق على التحكيم لفصل النزاعات الناشئة بين الأطراف ذات العلاقة مثل قانون تشجيع الاستثمار لعام 1998، قانون العمل لعام 2000 والذي تناول موضوع التحكيم الإجباري الذي يتم عن طريق وزير العمل بالتنسيق مع الجهات المعنية، في حالة النزاع العمالي الجماعي، وأخيراً قانون التأمين لعام 2005.

*أستاذ القانون الخاص بجامعة الخليل ومحكم معتمد من وزارة العدل

مواضيع ذات صلة

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

أهم الأخبار

فتح ميديا أوروبا