العنجهية تتناقض مع التعلم والحكمة

بقلم: منير فاشة

أود التنويه أولا بأني سأتابع (في حلقة قادمة) موضوع الزراعة وفق الحكمة الذي بدأته في الحلقة السابقة، وذلك عبر قصة استعادة “فرخة” قريةً بيئية والشفاء من العيش وفق أيديولوجية الاستهلاك المهيمنة.

في هذه الحلقة سأعرض ثلاثة أمثلة على تناقض العنجهية مع التعلم والحكمة. المثال الأول: الألمان مشهورون بأن لديهم قدرة عالية للتعلم. ربما هذا صحيح في مجالات ترتبط باختراع آلات وأجهزة وتنظيم وتصميم وتخطيط وتنفيذ، وفي المجال الفكري البحت. لكن عندما يرتبط الأمر بناحية جوهرية بالحياة، فإن قدرتهم على التعلم نتيجة التعالي تتقلص كثيرا. مثلا، في مجال الديمقراطية، أظهروا ضعفا هائلا في قدرتهم على التعلم بالنسبة لعلاقتهم باليونان. فالديمقراطية في جوهرها تعني المشاركة الفعلية للناس في الحكم، خاصة فيما يتعلق بقضايا مهمة في حياتهم. أضاع الألمان فرصة نادرة كان بإمكانهم أن يتعلموا منها بُعْدًا مهما، لكنه مهملٌ تماما في الديمقراطيات المتباهية. تصرّفت الحكومة اليونانية بطريقة نادرة إذ رجعت إلى الناس في قضية تلمس حياتهم اليومية ورفضت أن تقرر عنهم، ألا وهو موضوع قبول “مساعدة” من ألمانيا وصندوق النقد الدولي، إذ طرحت الموضوع لاستفتاء الناس والذي صوتت الأغلبية ضد المساعدة. ثارت ثائرة “ميركل” و”صندوق النقد” ضد الحكومة اليونانية، أولا لرفضها المساعدة، وثانيا لتجرؤها على طرحه للاستفتاء العام، إذ من المفروض أن تتصرف مثل أغلبية الحكومات حيث تتخذ قرارات لها عواقب خطيرة على حياة الناس دون استشارتهم. أي لم تتخذ الحكومة اليونانية قرارا في قضية مهمة دون العودة إلى الشعب. بهذا المعنى، خسر الألمان فرصة نادرة رائعة للتعلّم حول بُعْدٍ هام جدا بالنسبة لمفهوم الديمقراطية. بدلا من أن يتعلموا، فسّروا تصرّف أهل اليونان وفق عنصرية إذ كالوا تُهَمًا وصفات على أهل اليونان مثل “كسالى” دون أن يفطنوا أو يتجرأوا على ذكر الحقيقة ألا وهي أن قلة في الحكومات السابقة نهبت معظم المساعدات والمطلوب من أهل اليونان أن يكدّوا ويكدّ أولادهم من بعدهم لدفع ما نهبته قلة معدومة الضمير. يقول البعض: لكن في النهاية خضعت حكومة اليونان لألمانيا والصندوق. المهم في القصة هو أن اليونان نبهتنا جميعا لناحية مهمة لا تُذْكَر عادة في الحديث عن الديمقراطية ألا وهي ليس من حق الحكومات المنتخبة أن تقرر في قضايا تمس مستقبل ومصير الناس دون استشارتهم. جدير بالذكر: حدث هذا أيضا بالنسبة للإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي أُعْلِن باسم جميع الشعوب دون استشارة أي شعب ! هذا إلى جانب أن الإعلان يتناقض مع الكرامة في نواحٍ عدة سأتناولها في حلقة قادمة.

أما المثال الثاني فيتعلق باليهود الأوروبيين الذين جاءوا إلى فلسطين حاملين معهم عنجهية القبيلة الأوروبية بدلا من روح الحكمة التي خبروها في مناطق عدة في تاريخهم مثل العراق والأندلس. تخيلوا لو عادوا في ذاكرتهم إلى الأندلس واستلهموا رؤيتهم منها، بدلا من السير وفق طريقٍ منعهم من التعلم. أي، بدلا من إتباع روح التعلم في بيت الحكمة ومدارس قرطبة اتبعوا مسار السوربون وكامبردج وبرلين وهارفارد وستانفورد الذي يخلق تراتبية وإقصاء ويحتكم بالسيطرة والفوز كقيم. تخيلوا لو تصرفوا وفق روح الحكمة في الأندلس في لجوئهم إلى فلسطين، لكانت فلسطين اليوم مصدر إشعاع في عالمٍ هو في أشدّ الحاجة للعيش وفق الحكمة (أسوةً بما خلقته الحضارة العربية الإسلامية في الأندلس). ربما يكون الوحيد بين حكام اسبانيا الذي رأى في الأندلس ظاهرة جديرة بأن يتعلم منها كان ألفونصو العاشر (الملقّب بألفونصو الحكيم) الذي حكم في المنطقة التي شملت طليطلة من 1251 إلى 1281، إذ عندما دخل المدينة لم يطرد المسلمين واليهود بل بنى على ما رآه موجودا في المدينة من تعايش غني وملهم وبنى عليه، مما جعله يطلق على نفسه “ملك الأديان الثلاثة”. لسوء الحظ لم تمتلك إيزابلا حكمة ألفونصو بل سارت طريق السيطرة والإقصاء، وبالتالي خسرت اسبانيا وجودها التعددي الحي الغني، وخسر العالم فرصة ذهبية للتعلم والسير وفق الحكمة. من هذا المنطلق، لم تكن أوروبا امتدادا وتطويرا للحضارات التي سبقتها بل سارت في طريقٍ محكومٍ بالسيطرة والفوز والنهب والفوقية (حتى يومنا هذا)؛ طريقٌ بدأ باحتلال ثلاث قارات والقضاء على شعوبها وحضاراتها ومدنها.

أما المثال الثالث حول تناقض العنجهية مع القدرة على التعلم فهو جامعاتنا الفلسطينية التي احتذت بحذاء الغير ونسيت بيت الحكمة كمصدر إلهام. لو نظرنا مثلا إلى دوائر الرياضيات في جامعاتنا نجد في كل منها بين 10 و20 مدرسا يدرّسون مساقات لا معنى ولا حاجة ولا ضرورة لها، سوى لعددٍ لا يتعدى 1 في الألف حيث يذهب الشخص ليعمل كعبد في شركات ومؤسسات تقتل الحياة من أجل تراكم رأس المال. مساقات مثل: متغيرات معقدة؛ نظرية الأعداد؛ طوبولوجيا؛ معادلات تفاضلية؛ إحصاء متقدم… بينما لا يوجد مكان لشخص واحد في جامعة واحدة تعمل وفق أروع وسيط للتعلم ألا وهو المجاورة حول “ابن عربي” مثلا. فبدلا من التعلم من تاريخنا، استبطنّا نموذجا يفتخر بالعبودية في الإدراك والعلاقات والتصرف. لا توجد جامعة واحدة مثلا رحّبت باحتضان مجاورة حول “ابن عربي” تقودها مليحة مسلماني، سوى شخص واحد هو جهاد الشويخ الذي فتح المجال ضمن إمكانيات موقعه عندئذ في “وحدة ابن رشد” بجامعة بيرزيت لمدة شهر في أربع جلسات… !!!!!! ما نحتاج له هو ليس تنمية وتطوير بل يقظة ورؤيا واسعة تعيد الكرامة والتعلم كقيم جوهرية في الحياة.

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

فتح ميديا أوروبا
Exit mobile version