بريطانيا: شعبوية صادمة … ثم تعود لأوروبا!

بقلم: د. خالد الحروب

كنا نتبادل الضحك والنكات، بعض جيراننا وخلود زوجتي وأنا، ونحن نخط حرف “الإكس” إلى جوار خيار البقاء في الاتحاد البريطاني، في المركز الانتخابي الصغير في حي Cherryhinton في مدينة كامبردج.
لم يدر بخلد أي منا أن تكون النتيجة صاعقة ومؤيدة للخروج في اليوم التالي وكما جاءت.
المزاج العام في مدينة كامبردج كما في أكثر المدن البريطانية التي تعودت على التعددية الثقافية والكوزموبوليتانية وعلى رأسها لندن كان وما زال مع خيار البقاء مع أوروبا.
صباح هذا اليوم غالبية الناس مصدومون: ما الذي حدث بالضبط؟ وماذا يعني خروجنا من الاتحاد الأوروبي؟ في المدرسة المجاورة الكل لا يعرف الإجابة والكل تعتريه الدهشة: المدرسون والمدرسات وأولياء الأمور.
تساءلت فعلاً إذا كان كل هؤلاء ضد الانفصال فمن الذي صوت معه إذن؟ تساؤلات كثيرة وأجوبة قليلة.
خيار الخروج والانكفاء على الذات هو التقاء نزعات اليمين، والتشدد ضد المهاجرين، وتصاعد نزعات القومية الشوفينية. لذا لم يكن غريباً أن يعبر دونالد ترمب عن غبطته وتأييده للنتيجة بعد صدورها بساعتين، حيث صدف أن تواجد في بريطانيا، وتلاعب على أوتار التشدد القومي مصرحاً بأن البريطانيين الآن استعادوا بلدهم واستردوه (لكنه لم يقل لنا من أيدي من تمت استعادته؟).
الدهشة العارمة على وجوه كثيرين هنا يخالطها خوف شديد من المُستقبل.
ليس سهلاً أن يتم تفكيك علاقة عضوية مع الاتحاد الأوروبي ظلت تتعمق على مدار أكثر من أربعة عقود، وأصبحت هي القالب المُشكل للاقتصاد والتجارة والسفر والسياسة وللمزاج العام البريطاني ـ الأوروبي.
صحيح أن الامتعاض البريطاني والتشكك إزاء أوروبا والوحدة معها ظلا على الدوام شبه تقاليد تسم علاقة الجزر البريطانية مع القارة العجوز، لكن ذلك الامتعاض والتشكك هو أقرب للشكوى داخل العائلة الواحدة منه إلى أي نوع حاد من تلك الشكاوى التي تقود إلى الانفصال التام، أو هو تشاكي زوجين من بعضهما البعض تطاول فجأة وخرج عن السيطرة ووصل إلى الطلاق، ثم اندهش الزوجان كيف آلت الأمور إلى هذه النهاية؟
ما زال الوقت باكراً لتقديم تحليل وافٍ حول خلفيات ومنعكسات التصويت ومآلات بريطانيا خارج الاتحاد الأوروبي، لكن هذا لا يمنع من التأمل في بعض الملاحظات الأولية العامة، وهذه الملاحظات تقود في مجملها إلى توقع بروز مطالبات شعبية للقيام باستفتاء جديد خلال العامين القادمين أساسه عدم القدرة على تحمل المنعكسات الكبيرة لقرار الخروج.
أعتقد أن النقاش الذي سيضرب بريطانيا للأشهر القادمة سوف يؤدي إلى بروز حملة أخرى تطالب بإعادة الاستفتاء.
الملاحظة الأولى في هذا السياق هي تفصيل للحظة وحس الاندهاش والصدمة الذي يكاد يلف الجميع هنا من النتيجة، سواء أكانوا ممن صوت للبقاء أو للانفصال.
في الساعات الأولى بعد إعلان النتيجة وعلى شاشة الـ بي بي سي عبر بعض ممن صوتوا للانفصال عن ردود أفعال ومشاعر هي أقرب إلى عدم الرغبة في تبنى هذا النصر المُلتبس، كأنه جمرة ملتهبة لا يريدون القبض عليها.
بقليل من المُجازفة يمكن القول إن كثيرين ممن صوتوا لصالح الانفصال كانوا مدفوعين برغبة التعبير عن الغضب من أوضاع قائمة أكثر من الرغبة في الذهاب بعيداً إلى آخر الشوط والتخلي عن أوروبا.
في السنوات الأخيرة تنامت النزعات ضد المهاجرين في كل أوروبا، وتنامت معها واستثمرتها خطابات التطرف والشعبوية والتخويف، وكلها تدعو للانكفاء على الذات وإغلاق الحدود. تماهت الحملة الداعية للانفصال عن الاتحاد الأوروبي مع كل غرائز الخوف والتخويف سواء من المهاجرين والبطالة وسواهم، وأصبح الاتحاد الأوروبي هو كبش الفداء الكبير الذي لا بد من التضحية به.
عملياً، وكما سوف يتضح لكثير من البريطانيين هناك مساحة عريضة من السياسة بين القضايا الضاغطة عليهم، وحتى على المشاعر القومية والشوفينية لدى بعضهم، وبين الانخلاع من الاتحاد الأوروبي، وسوف تتبدى العلاقة السببية الواهية لكثير من “الشرور” التي ترتبط بهذا الأخير.
الملاحظة الثانية، أن كثيراً من أنصار ومؤيدي البقاء مع الاتحاد الأوروبي أبقاهم الكسل والطقس الماطر في بيوتهم ولم يمارسوا حقهم في التصويت.
كثير من هؤلاء بل ربما الغالبية، كما هو الانطباع الذي ساد قبيل التصويت، لم يأخذوا الأمر بالجدية التي يستحقها.
بدا الأمر كله وكأنه مزحة سمجة، ولم يتصور أكثر هؤلاء (غير المصوتين) أن الأمور سوف تتسارع إلى النتيجة التي وصلت إليها.
مع مرور الأيام القادمة سوف ينتبه هؤلاء إلى أهمية صوتهم وخطورة الاستنكاف عن التصويت والانخراط بفعالية ما في التسيس العام.
الملاحظة الثالثة، تتمحور حول التوزيع العمري للمصوتين. كبار العمر وشريحة من هم فوق الـ 65 صوتوا مع الانفصال.
هؤلاء هم بقايا إرث الحرب العالمية الثانية والمشاعر الناقمة على أوروبا وخاصة ألمانيا.
يرون في أوروبا العدو القديم وفي قلبها ألمانيا التي هددت بريطانيا وقصفت مدنها.
ظل الشك في أوروبا قابعا وراسخا في أواسط كبار العمر. على الضد من ذلك غالبية الشرائح الشبابية صوتت لصالح البقاء مع أوروبا، ونسبة من صوت منهم أقل من نسبة من صوت من كبار العمر.
الشباب أقل اهتماماً بالسياسة والمشاركة في الانتخابات والاستفتاءات وهذا ترك مجالاً أوسع لنسبة الرافضين كي تتقدم على حساب الرأي العام.
فور إعلان النتيجة برزت أصوات عديدة تقول إنه ليس من الإنصاف أن يقرر كبار السن مستقبل بريطانيا التي سيعيش فيها صغار السن فترات زمنية أطول، وليس من حقهم أن يقرروا مصير الأجيال الشابة وطبيعة علاقتهم بأوروبا.
الملاحظة الرابعة تتعلق بالكيان البريطاني نفسه والذي تعرض إلى تحدٍ كبير من قبل اسكتلندا العام الماضي عندما صوت الاسكتلنديون على البقاء ضمن المملكة المتحدة أو الانفصال عنها، وفاز المطالبون بالبقاء.
اليوم وفور إعلان النتيجة عادت لغة الانفصال الاسكتلندي للبروز وأطروحتها الأساسية أنه لا معنى للبقاء مع بريطانيا المعزولة عن أوروبا.
علاقات اسكتلندا مع الاتحاد الأوروبي قوية ووثيقة ومدنها تعتبر مدنا أوروبية كما هي بريطانية.
الانفصال عن أوروبا سوف يقود إلى انفصال اسكتلندا وتفكك بريطانيا كمملكة فدرالية.
وعلى غرار اسكتلندا وفي يوم إعلان النتائج أيضا برزت أصوات من إيرلندا الشمالية تتساءل أيضا عن جدوى البقاء مع بريطانيا والتضحية بأوروبا.
وحتى جبل طارق التابع للتاج البريطاني يتعرض الآن لمطالبات إسبانية من أجل ضمه لإسبانيا بعد التصويت. يُضاف إلى ذلك كله أن موقع بريطانيا في سلم القوى العالمية ينهار بشكل متسارع إذا اندفعت هذه الانهيارات الجزئية وراء بعضها البعض.
هذه التحديات التي سوف تتسارع في الأشهر القادمة وتطرح نفسها بقوة في المشهد السياسي سوف تدفع كثيرا من القوى والأحزاب وكذلك الرأي العام للتفكير مرة ثانية بالأكلاف الكبيرة للانفصال عن أوروبا، وتدفعها لإعادة النظر في الموضوع برمته.
الملاحظة الخامسة اقتصادية وهذه وحدها تحتاج إلى مقالة منفصلة.
الانفصال يعني حرمان اقتصاد بريطانيا من السوق الأوروبية المشتركة وهي السوق التي تستوعب أكثر من 80% من حركة التجارة والتبادلات المالية.
سوف ترتفع في وجه بريطانيا كل التعرفات الجمركية التي ترفع في وجه البلدان غير الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، وهذا بحد ذاته سوف يحبط الاقتصاد البريطاني ويؤثر فيه سلبا.
طبعا هناك تحليلات تقول العكس لكن مجمل الرأي الاقتصادي للخبراء والمتابعين يرون منعكسات سلبية وربما قاتلة على الاقتصاد البريطاني والبطالة وقوة الجنية الاسترليني.
الملاحظة السادسة عامة، وهي أن النقمة على الاتحاد الأوروبي المدفوعة بشعبوية فائقة عرفت وقامت بتعريف أجندة واضحة وقصيرة المدى وهي الخروج من الاتحاد، لكنها لم تعرف للآن وعاجزة عن توضيح خريطة طريق آمنة للمستقبل.
عدم الوضوح هذا والتخوف العميق الذي بدأ من اليوم يتكرس في بريطانيا قد يدفع فعلا في إعادة النظر في كل هذا المسار الفجائي.
omkhaled.hroub@yhaoo.c

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

فتح ميديا أوروبا
Exit mobile version