فتح توازن الجسد والروح

بين ملكات الروح ورغبات الجسد يحدد الشعب هويته الوطنية التي تجمع طموحاته الوجدانية وآماله المادية في إطار توافقية الانتماء للجماعة وجموح غريزة الأنا التملكية. فهناك علاقة طردية بين المواطن والوطن تتسامى باحتياجات الروح وتضمحل بنوازع الأنا المادية. ففي دراسة علم المواطنة يتم التركيز على مادية العلاقة بين الوطن والمواطن وفقا لهرم ماسلو للاحتياجات الإنسانية مما يجعل ملكات الروح ترتدي رغبات الجسد في ربط عنقودي جامع ,فيقال المسكن الآمن جزء الكرامة ووفرة الغذاء جزء عدالة المواطنة.
ومن جانب آخر يرى أصحاب النظرية الروحانية أن أساس العلاقة بين المواطن والوطن هو الانسجام بين النفس البشرية وبيئتها الحاضنة وفقا لمفاهيم المدينة الفاضلة حيث تهبط النزعة المادية لمستوى الخير للجميع وتقاسم الثروة العادل في مناهج القومية الأممية ذات الأسس اليسارية. وفي علم الثورة يتم رفع الثورات الروحانية لمستوى أعلى من الثورات المادية. فيتجمهر الشعب لرفع الظلم الاستبدادي من أجل الوصول للتحرر العادل لمكونات الوطن لصقل شكل المواطنة المستقبلية فيه.
بينما تطالب الثورات المادية بإعادة توزيع الثروات بين الشعب وتقاسم منافع الوطن وهي بالغالب ثورات تكميلية لثورات روحانية تمهيدية حققت الحد الأدنى من الأمن الاجتماعي للشعب بضمان القانون وشكل السلطة ودور الدين بالحكم وآلية الجزاء والعقاب المقبولة بالقيم الاجتماعية المكتسبة من انتصار الثورات الروحانية. إلا ان الثورة الفلسطينية المعاصرة تبنّت النهج الدمجي في الثورة الجامعة على نهج حرب الشعب طويلة الأمد فهي التي تسعى إلى تضميد الجروح لروح الشعب الفلسطيني المظلوم وأيضا العمل الجماهيري لاستعادة الحقوق المسلوبة منه. فكما تم تشكيل خلايا العمل الفدائي وتدريب الشباب الفلسطيني على حمل السلاح كان هناك مجموعات أخرى تبني مؤسسات نقابية ولجانا شعبية لتلبية الاحتياجات المادية من مؤسسات تقوم بعمل حكومة بالمنفى. بل إن تطور العمل الفدائي المسلّح يتطلب توسيع قطاعات الخدمات للشعب الفلسطيني في هيئة الحضن الآمن على طريقة ماو تسي تونغ وأسس الثورة الثقافية الصينية مع تعديلات مهمة لتناسب الوضع الفلسطيني. حتى تمكنت قيادة الثورة الفلسطينية من صناعة الأسس المكونة لما يسمى الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني في جميع مناطق تواجده وبمختلف قطاعاته الاجتماعية وتوجهاته السياسية من خلال عمل تراكمي في تحمل القيادة مسؤولياتها تجاه الشعب ودفاع الثوار عن استمرار الثورة.
أما في عيون الحاضر القاسي يتصاعد شعار الفقراء لا يثورون، ولا يمكن أن يحدث تقدم في عملية التحرير الثورية قبل توفر الاحتياجات المادية للشعب الفلسطيني الذي يبحث عن الأمن الوظيفي والاستقرار المعيشي. بينما ينعت أصحاب فكر العنف الثوري شعار الكفاح المسلح لتحقيق النصر بمعركة الوجود. فهل المطلوب من قيادة الثورة توفير الوظائف لأبناء وبنات الشعب أم البحث عن طرق لتحرير الأرض من الاحتلال؟ وهل معاناة الشعب تختصر بالفقر والبطالة؟ أم أن قضية احتلال أرضه وتهجيره من وطنه هي حقيقة معاناته؟ تعتبر هذه الأسئلة صعبة الإجابة في ظل تبنّي القيادة الفلسطينية منهج بناء المؤسسات وأركان الدولة، لأنها تحول العلاقة بالوطن من علاقة روحانية إلى علاقة مادية رغم أنها دولة لا تمتلك اقتصاد منتج بل أنها تعتمد على مساعدات مالية خارجية، وأن مسألة تطور القطاع الخاص غير ممكن في استمرار سيطرة العدو الصهيوني على المعابر وموارد الطاقة في فلسطين، ومن ناحية أخرى فهي تجمد طاقات 70% من أبناء الشعب الفلسطيني الذين يعيشون خارج حدود الوطن في مخيمات اللجوء والشتات الذين لا يملكون إلا الارتباط الروحي في فلسطين ومن الصعب ربطهم بالسلطة الفلسطينية ماديا، لأن الحاجة الروحانية تجمع الشعب نحو هدف التحرير , والنوازع المادية تفرقه إلى جماعات وكتل متناحرة تختلف بقناعاتها للمضمون الاجتماعي وطرق توفير مواردها المالية، فالبعض يرى أن العودة إلى وضع ما قبل اتفاقية أوسلو والعمل وفق مبدأ مواطن درجة ثانية في دولة الكيان الصهيوني يحقق رخاء اقتصاديا ووفرة فرص العمل، ويرى البعض أن ضم الضفة الغربية للمملكة الأردنية يوفر فرص العمل ولا ينتقص من مسألة تحرير الأرض من الاحتلال، وفي تصور أقل ضررا يطالب البعض السلطة الفلسطينية بضرورة تسويق الموارد البشرية الفلسطينية في السوق العالمي والاعتماد على العوائد المالية للمغتربين، كما أن هناك تصورات وخطط لعمل مناطق صناعية إسرائيلية فلسطينية مشتركة وتطوير القائم منها. أما مسألة الفساد المالي والإداري في مؤسسات السلطة فانتقلت من كونها مجرد إشاعات يبثها المعارضون السياسيون إلى حديث الشارع اليومي بمزايدات وبهارات فاقت الخيال، حتى باتت لا تستثني أي قائد، بل القائد النظيف ماديا هو مجرد غبي (لا بهش ولا بنش) في مجتمع بات يؤمن أن مشاكله المادية لا تُحل إلا بالواسطة و(البرطيل) في نقل أسلوب تعامله مع قوات الجيش الصهيوني إلى مؤسساتنا الوطنية، وفق مفهوم استغلالي يسمى اللي بدو يعيش بدو يدبر حاله!. ومن جانب آخر تطرح قيادة الثورة الحلول السياسية التفاوضية لتحرير الأرض من الاحتلال مع دعمها للنضال الشعبي السلمي على نطاق محدود، وهذا النهج ذو مسارات طويلة يصعب فيها تحقيق إنجازات سريعة تلبّي عطش الشعب الفلسطيني للشعور أن هناك بريق أمل من العملية التفاوضية في ظل التعنت الصهيوني الرافض لكل المبادرات الدولية، مما سبب جروحا عميقة لمفاهيم الارتباط الروحي بين المواطنة والوطن وأكثر من ذلك أثر سلبا على شكل العلاقة بين القيادة السياسية والجماهير الشعبية.
أما الحقيقة السياسية الواقعية فهي تؤكد أن منهاج عمل القيادة السياسية يتناسق مع الروح الثورية المتمسكة بالثوابت الوطنية لعبور مرحلة التطاحن العربي العربي الغير داعمة لتصعيد العنف الثوري الفلسطيني فحسب بل تعمل على دفع القوى الفلسطينية للاصطفاف في جبهات إقليمية متناحرة، فالرؤيا السياسية الواقعية ترفض جز الشعب الفلسطيني في أتون الخلافات العربية العربية. إن الحفاظ على استقلالية القرار الوطني وحماية الشعب الفلسطيني من التناحر المسعور بالمنطقة العربية مع محاولة تلبية الاحتياجات المادية للشعب الفلسطيني قدر المستطاع يعد صمودا للقيادة الفلسطينية ضمن الظروف الإقليمية مما أهّلها لتوازن بين الطموحات الروحية والرغبات المادية للشعب الفلسطيني قدر مستطاع.
خالد أبوعدنان . ولدت لاجئا وأحيا مهاجرا.

مواضيع ذات صلة

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

أهم الأخبار

المكتب الإعلامي الفلسطيني في أوروبا