مؤسسات رعاية الأطفال مجهولي النسب..بين ضرورة الواقع ونظرة المجتمع

بقلم: د. إيهاب عمرو

كان يدور في خلدي منذ فترة طويلة كتابة مقالة أو إجراء بحث حول مؤسسات رعاية الأطفال مجهولي النسب في العالم العربي، خصوصاً بعد مشاهدتي برنامج تلفزيوني على إحدى القنوات اللبنانية منذ سنوات إستضاف من خلاله أحد اللقطاء، كما تم التعريف عليه أثناء البرنامج، الذي أصبح شاباً يافعاً. وعرفت القناة على الشاب بالقول أنه فلسطيني وأنه أقام في إحدى مؤسسات رعاية الأطفال منذ تم العثور عليه وهو طفل ملقى في الطريق العام. ومع تحفظي على إطلاق جنسيته على الهواء مباشرة، أشار شكوكي كيف إستطاعت القناة تحديد جنسية الشاب الذي وجد عندما كان رضيعاً، إذ لا يعني وجوده في مكان قريب من سكن الفلسطينيين أنه فلسطيني، مع العلم أنه بالتدقيق في ملامحه كان يظهر بشكل جلي أنه لبناني. وأياً كان الأمر، فإن تلك الواقعة حركت دواخلي من أجل الحديث عن تلك الظاهرة.
وتوالت الأحداث بعد ذلك التي تعلقت بتلك الظاهرة ودور المؤسسات ذات العلاقة ونظرة المجتمع لها، أذكر منها عثورسيدة كبيرة السن قبل عدة سنوات على رضيع ملقى أمام حاوية قمامة في منطقة جبل عمان في الأردن تم نقله بعد إتخاذ الإجراءات اللازمة إلى مؤسسة تعنى برعاية الأطفال، وقد سمعت الرواية التي كانت حديث الناس آنذاك من إحدى قريباتي التي تسكن المنطقة منذ أكثر من ستين عاماً وكيف كان لهذا الأمر وقع الصدمة على سكان المنطقة كافة كونها المرة الأولى التي يحدث مثل هذا الأمر في منطقتهم.
وثمة أمر آخر حدث في قطاع غزة مؤخراً تناولته وسائل الإعلام وأثار ضجة كبيرة هو إعلان العثور على رضيع ملقى في محيط معهد الأمل في قطاع غزة تم نقله بعد تلقي العلاج إلى المؤسسة “الجمعية” التي تعنى باللقطاء أو “الأطفال مجهولي النسب”.
وبين هذا وذاك، حدثت بعض الوقائع التي أحيت لدي الوازع بتناول هذا الموضوع والتركيز على أثاره الإجتماعية تحديداً. من ذلك، قيام أحد الأصدقاء بإثارة موضوع نظرة المجتمع إلى مؤسسة رعاية الأطفال في مدينة بيت لحم. وأفادني ذلك الصديق العزيز كدليل على سلبية نظرة المجتمع وعدم صحتها أن ممن يقيمون في تلك المؤسسة “القرية” أطفال أيتام ومحتاجين وغيرهم ما يعني أن تلك المؤسسة تعنى في أغلب الأحيان بحالات أطفال أيتام أو محتاجين، وأعطى مثلاً حالة الأطفال الذين فقدوا والديهم في حادث سيارة وفتحت القرية لهم ذراعيها بعد أن لم يجدوا من يعتني بهم من أقربائهم، كما تعنى القرية بحالات أخرى.
إن نظرة فاحصة لدور تلك المؤسسات التي تعنى برعاية الأطفال الأيتام والمحتاجين والمشردين في العالم العربي كفيل بأن يدق ناقوس الخطر حول نظرة المجتمع السلبية للأطفال الذي يقيمون في تلك المؤسسات والقرى والجمعيات. إذ لا بد من قيام المجتمع بتغيير نظرته ومعاملته لهؤلاء الأطفال سواء أثناء طفولتهم أو بعد بلوغهم سن الرشد بشكل عادل ومتساو كون أنهم ضحايا في الأساس لواقع إجتماعي أو إنساني معين وجدوا فيه دون إرادتهم، إذ ما ذنب الرضيع الذي ألقي به على قارعة الطريق في جبل عمان في الأردن في فصل الصيف شديد الحرارة، وما ذنب الرضيع الذي ألقت به والدته على قارعة الطريق في فصل الشتاء القارص في قطاع غزة، وما ذنب الأطفال الذين توفي والديهم في حادث سيارة وأصبحوا أيتاماً دون معيل في الضفة الغربية.
إن المجتمع كفيل بإدماجهم فيه عند بلوغهم سن الرشد وإنهاء دراستهم وتقدمهم بطلبات للحصول على عمل دون الحاجة إلى معاملتهم بشكل غير متساو أو النظر إليهم نظرة دونية تعكس جهل الناظر أو رغبته في إشباع مركب النقص الكامن في نفسه دون إدراك لما يقوم به، خصوصاً أن الشريعة الإسلامية الغراء حثت على إلتقاط الطفل الصغير الذي يطرحه أهله خشية فقر أو خوفاً من تهمة الزنا بل وإعتبرت ذلك فرض عين على من يجده إن وجد في مكان يغلب على الظن هلاكه لو ترك فيه، وقد وردت أثار عن الصحابة رضي الله عنهم بالترغيب في إلتقاطه وبيان فضله على كثير من أفعال الخير لأن فيه إحياء لنفس بشرية.
كذلك، فإنه لا بد من زيادة الإهتمام الرسمي بتلك المؤسسات وتعزيز دورها ورفدها بكافة مستلزمات البقاء كونها تقوم على رعاية شريحة الأطفال الأكثر فقراً وحاجة داخل المجتمع ما يجعلهم قادرين على مواصلة حياتهم بصورة طبيعية. ومن صور هذا الإهتمام العمل على إصدار قانون يعنى برعاية الأطفال مجهولي النسب أسوة بدول عربية أخرى كالإمارات التي أصدرت قانون إتحادي يعنى بالأطفال مجهولي النسب في العام 2012 تضمن، من ضمن مسائل أخرى، إنشاء دور رعاية وتأمين أسر حاضنة، وتوفير الرعاية الصحية والنفسية والاجتماعية والترفيهية والتعليمية لهم، وفقا لأحكام ومبادئ الشريعة الإسلامية وحقوق الإنسان، وبما يضمن بأن تكون هذه الشريحة أفرادا نافعين في المجتمع، وبما يتماشى مع المستوى الذي وصلت له دولة الإمارات من تقدم وتطور في جميع المجالات. وتضمن القانون كذلك النص على كفالة حقوق مجهولي النسب وحرياتهم المدنية وحماية حياتهم الخاصة وحقهم في الأمن الشخصي، والحفاظ على مصالح الطفل الفضلى، وحماية مجهولي النسب من الإساءة و المعاملة غير الإنسانية والإهمال. إضافة إلى ما سبق، نص القانون على تأمين الخدمات المعيشية اللازمة لهم من الغذاء والملبس والمسكن، توفير الرعاية الاجتماعية والصحية والنفسية لهم بما يتناسب ومراحل أعمارهم المختلفة، توفير فرص تعليم متكافئة في مراحل التعليم المختلفة في جميع المؤسسات التعليمية النظامية أو المتخصصة، تنمية قدراتهم الإبداعية والفنية والفكرية واستثمارها في صقل شخصيتهم، ودمجهم مع غيرهم من الأطفال في المراكز والأندية الرياضية والثقافية والمخيمات وتوفير الأنشطة المناسبة لهم.

مواضيع ذات صلة

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

أهم الأخبار

فتح ميديا أوروبا