مسرح صندوق العجب.. يثير العجب

بقلم: المحامي د. ايهاب عمرو

ربما لعبت الصدفة وحدها دوراً في حديثي عن مسرح “صندوق العجب” وعن “أبو العجب”، إذ بينما كنت برفقة صديقين من ألمانيا نتجول في البلدة القديمة لمدينة رام الله لفت انتباهي ذلك المكان الصغير المعروف باسم مسرح صندوق العجب. ولفت انتباهي أكثر ذلك الشخص المميز شكلاً، وبعد حديثي معه عرفت أنه مميز مضموناً، ألا وهو الفنان المسرحي والحكواتي صاحب التاريخ المسرحي الطويل الأستاذ عادل الترتير.
وصندوق العجب شكل شعبي قديم كان له دور وأثر كبير في حياتنا الفلسطينية بواسطة نشر المعرفة والبهجة والفرجة والعبرة والحكمة، خصوصاً بين الأطفال. وكان صاحبه يحمل الصندوق على ظهره ويطوف به، وكان يصل الحارات والأزقة والشوارع والأماكن الشعبية التي يتواجد فيها الناس سواء كانوا صغاراً أم كباراً، وكان يعرض ما في الصندوق من حكايات للناس الذين كانوا يسمعون منه قصص وحكايات وسير شعبية مثل أبو زيد الهلالي وعنتر وعبلة والزير سالم وذات الهمة.
وهذا اللون أو الشكل المسرحي منتشر في مختلف دول العالم وبين مختلف شعوب العالم وعمره آلاف السنين، والناس كانت تقدم لصاحب صندوق العجب هدايا عينية بسيطة مقابل الفرجة.
ويعد الأستاذ عادل الترتير مبتكر ورائد فكرة مسرح صندوق العجب في فلسطين كوسيلة فنية يتبناها منذ أوائل التسعينات حيث عمل على إحياء فكرة صندوق العجب وشخصية الحكواتي أبو العجب التي ابتكرها والذي يقوم بسرد الحكايات لإيصال رسالته الفنية إلى الناس كون أن الفنان دائم الالتصاق بأرضه وهموم شعبه وأمته. وفكرة مسرح صندوق العجب والحكواتي أبو العجب هما خليط لفكرة طورها بنفسه وأغناها وأضاف عليها وقدمها بشكل جديد وبأسلوب مسرحي مختلف ومتكامل، خصوصاً أنه مشخصاتي إضافة إلى كونه ممثل وفنان مسرحي. وينتقي أبو العجب القصص التي يرويها للناس بنفسه لأنه صاحب فكر ووجهة نظر وصاحب رأي ورسالة هادفة ما يجعله حريصاً على الفكرة التي يهدف إلى إيصالها بواسطة صندوق العجب، خصوصاً أنه يهدف من خلال تلك الأداة الفنية إلى التعبير عن هموم الناس وقضاياهم.
يذكر أن الترتير بدأ مسيرته المسرحية في أواخر الستينات في “مسرح السقيفة” وبعدها في فرقة بلالين المسرحية التي تأسست عام 1970 على نهج الابداع والعمل الجماعي والاستقلالية والاعتماد على الذات. وقدم مسرح صندوق العجب وهو أول مسرح فلسطيني محترف ومتفرغ عدة مسرحيات منذ تأسيسه عام 1975 أهمها “لما انجنينا”، و”راس روس” كأول عمل مونودرامي على صعيد المسرح الفلسطيني قاطبة يتم تجسيده على خشبة المسرح قام هو نفسه بتأليفه وإخراجه وتمثيله، و”تغريبة سعيد بن فضل الله”، و”الحقيقة”، و”الأعمى والأطرش” وغيرها من الأعمال المسرحية. ثم قدم بعد ذلك سلسلة حكايات أبو العجب التي تحتوي على القصص والحكايات المأخوذة من التراث الشعبي الفلسطيني ومن حكايات الشعوب، وكذلك من قصص حديثة أو من حكايات الناس. وهذه القصص سلسلة طويلة أهمها “الجراد في المدينة”، و”الباطية”، و”نص نصيص”، و”الحطاب”، و”سيرة صندوق العجب وولادة الحكواتي”، و”حذاء الطنبوري”، وغيرها من القصص الموجهة للأطفال والكبار على السواء.
ومع كل الصعوبات والتحديات على مر السنين والمراحل، ما زال الترتير ومسرح صندوق العجب متمسكان بالمبادئ الأصيلة التي نشأوا عليها رافضين اشتراطات المانحين وغيرهم، ومستمرين في تأدية رسالتهم المسرحية والفنية والوطنية والإنسانية. وعلى الرغم من ضعف وغياب دعم المؤسسات الرسمية للقطاع المسرحي خاصة والقطاع الفني والثقافي بشكل عام، إلا أن نبض مسرح صندوق العجب وعطاء أبو العجب لم يتوقفا بسبب غياب هذا الدعم الضروري، إضافة إلى التعقيدات البيروقراطية وغياب المهنية لدى بعض الجهات المختصة، وغياب الاستراتيجية الثقافية العامة والشاملة كذلك.
فمسيرة المسرح، كما عهدها الترتير على مدار السنوات الخمسين الماضية، هي مسيرة طويلة وشاقة وتتطلب النفس الطويل والصبر والتحمل. فيا حبذا لو تلتفت الجهات الرسمية للجهود الإبداعية هذه، وتدعمها بدلا من أن ترهقها. ومن ذلك مثلاً أن تطالب بعض تلك الجهات، الفنان المسرحي بضرورة الحصول على شهادة “رخصة” مزاولة مهنة من خلال دائرة الضريبة التابعة لوزارة المالية حتى يتسنى دعوته للمشاركة في مناسبات محلية متنوعة، ما يبرز الحاجة إلى إعادة النظر في تلك الإجراءات كافة، والعمل على إزالة تلك التعقيدات التي تعيق تطور المسرح الفلسطيني عموماً. إضافة إلى نوع الرقابة المفروضة على العروض المسرحية التي يتم تقديمها في المدارس الحكومية وتقييمها في بعض الأحيان من قبل أناس غير مختصين يجهلون تفاصيل العمل المسرحي محل التقييم والأمور الفنية الأخرى ذات العلاقة.
خلاصة القول: إن مسرح صندوق العجب فكرة فريدة من نوعها تستحق الإهتمام بها ورعايتها كون أن تلك الفكرة تقوم على سرد القصص والحكايات الشعبية المستوحاة من التراث الفلسطيني الذي يجب الحفاظ عليه من الإندثار والضياع والنسيان، خصوصاً لدى الأطفال والأجيال الناشئة من أبناء شعبنا الفلسطيني. إضافة إلى أن هدف المسرح، بجانب سرد القصص والحكايات الشعبية، هو إدخال البهجة في نفوس الناس. ناهيك عن الرسالة التي يحملها أبو العجب ويهدف من خلالها إلى حث الناس على التمسك بقيم مجتمعية وأخلاقية وإنسانية توشك أن تندثر في عصر المتغيرات الذي نعيش.
لذلك، يتعين على الجهات صاحبة الإختصاص تيسير مهمة مسرح صندوق العجب حتى يصل إلى شرائح المجتمع كافة وذلك بواسطة التعاون بين الوزارات والجهات المختصة. إرث كهذا ومسيرة إبداعية كهذه تتطلب الاحتفاء الفوري والتقدير المستحق.

مواضيع ذات صلة

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

أهم الأخبار

فتح ميديا أوروبا