الأســطـورة لا تــمـوت!

بقلم: رامي رشيد*

كان يجلس وحيدًا منهمكًا في الرواق في يوم قائظ من أيام شهر أغسطس من عام 1987م، هذا الرواق الطويل المليء بالمكاتب الخشبية الكبيرة الحجم والكراسي الضخمة التي تضيق المكان على ضيقه، بلا تهوية على الإطلاق حيث تم اقتطاع جزء من المخازن على عجل للتسريع في انتقال قسم السلع الاستهلاكية في مؤسسة «محمد عبدالرحمن البحر» العتيدة كليا إلى منطقة الشويخ في قلب مدينة الكويت، ولم يغفل المهندس الهمام الإبقاء على مكتبين فخمين فسيحين بإطلالة على الشارع، وبتهوية مثالية للمديرين الكبيرين وأما الأثاث فحدث بلا حرج لفخامته وغلاء ثمنه، أما أنا فمع المندوبين لا يفصلني عنهم سوى قاطع خشبي من جهة، ومن الجهة الأخرى خزانة حديدية كبيرة ضخمة بها الملفات تفصلني عن المطبخ!

تفكير عميق ينتابني وأسئلة كثيرة تراودني، فكيف أستطيع تحويل مندوبي المبيعات كبار السن إلى المهنية العالية وروح الفريق الواحد وهم الذين اعتادوا على عدم الانضباط وأحيانا الحديث غير اللائق والهمز واللمز وكأن وجودهم لوقت قصير في المكاتب خلال الفترة الصباحية وفترة العصر لمتابعة طلباتهم وزبائنهم هي فقط للثرثرة، وأيضا كيف أستطيع تلبية متطلبات الشركات العالمية العابرة للقارات والمحيطات الذين هم موكلونا لأعظم الوكالات التجارية والتي تنشد المهنية العالية والانضباط وتكريس الممارسات السليمة.

منذ أيام وخلال جولاتي الميدانية في الأسواق وبرفقتي مدير التصدير لشركة شهيرة للشوكولاتة شاهدنا مركبة الشركة «الباص» المطبوع عليها العلامة التجارية في إحدى المناطق، وبادرني بالسؤال عن المركبة ولم هي هنا؟ فقلت له بثقة متناهية إنه مندوبنا أتى هنا لخدمة الزبائن! وكان زجاج الحافلة مفتوحا قليلا من الأعلى للتهوية فوضع مدير التصدير الإنجليزي العجوز والخبير بطاقته التعريفية داخل المركبة من أعلى الزجاج، وطلب مني أن نعود كل نصف ساعة إلى نفس المكان ليرى المركبة مكانها وليضع في كل مرة بطاقته التعريفية وعليها بخط يده التوقيت، ليضع في النهاية أكثر من ستة بطاقات تعريفية مرفقة بالتوقيت لكل جولة، ليتبين لنا لاحقا أن المندوب نائم في بيته والمركبة أمام بيته!

في ذروة وحدتي وانهماكي في التفكير العميق والتأمل في الرواق الطويل عصرا، يدخل الرواق من الباب المطل على الشارع شاب قوي البنية طويل، فحمي الشعر أجعده، شنبه كثيف، بشرته تميل إلى السمرة الداكنة وملابسه متناسقة بسيطة، صافحني بحرارة، وعرفني باسمه متبوعا بأنه جاء من عند الأخ في تونس، زاد ترحيبي به وطلبت له كوبا من الشاي، وأخذ يحدثني عن الزملاء وأنهم سيطلقون البشرى قبل نهاية هذا العام، فلا تقلقوا وكونوا على يقين أن وضعنا ممتاز والبشارة على الطريق!

لم يطل الجلوس وودعني وذهب إلى حال سبيله، ففي هذه الحالات الاقتضاب مهم وقلة الأسئلة مطلوبة، وحملني بحديثه هواجس كثيرة ونقلني من هم مهني بحت إلى هموم شعب وقضية وكذلك مصير يبدو مجهولا، وحين قلبت الأمور ومحصتها، حقيقة لم أجد ما يدعو للتفاؤل والفرح، فالمخيمات الفلسطينية في لبنان تحت حصار مطبق منذ ثلاث سنوات وتحت القصف العنيف الذي لا يتوقف، والناس داخل المخيمات تطالب بفتاوى تبيح لهم أكل لحم الكلاب والقطط!

وهناك تصميم على إنهاء الوجود الفلسطيني في لبنان استكمالا لما بدأته دولة الاحتلال والعدوان صيف عام 1982م، وأكثر من 10 آلاف كادر من خيرة كوادر منظمة التحرير الفلسطينية يساقون إلى السجون زورا وبهتانا من بيروت أجمل عواصم العرب للعاصمة العربية القريبة، وانشقاق فلسطيني أفقي وعمودي كبير بدعم مالي وتسليحي عربي وجغرافيا ظالمة تلعب دورها، وقوات فلسطينية مشتتة على مساحة واسعة من الأرض وصلت إلى السودان واليمن والجزائر!

قلت لنفسي لم تفكر وحيدا؟ قدت سيارتي بسرعة إلى الشارع المجاور حيث يعمل أخي وصديقي وزميلي في الجامعة والسكن حين كنا طلبة في جامعة لويزيانا في أمريكا، وهو يعمل في شركة شقيقة للمؤسسة التي أعمل بها وحظه أفضل مني لأنه يتعامل مع مندوبات ومندوبين لمبيعات العطور ومستحضرات التجميل، وأعمار فريقه شابة وقابلة للتشكل واتباع المفاهيم الصحيحة، ومكتبه جميل ومريح، لم نصل لنتيجة ولكننا كنا على يقين أن الأخ إذا وعد أوفى وإذا حدث صدق.

نعم جاءت البشرى، اندلعت الانتفاضة الفلسطينية المجيدة في الثامن من ديسمبر عام 1987م، وكانت الفعل الإنساني الأنبل في تاريخ شعبنا العربي الفلسطيني وثورتنا المعاصرة، انتفاضة قام بها الشعب كله من دون إطلاق رصاصة واحدة أمام عدو همجي مدجج بأحدث الأسلحة التي تزودهم بها قوى الشر في العالم، تواصل ارتقاء الشهداء إلى عليين وسيق الأسرى الأبطال إلى باستيلات القهر والعذاب، وكان الجرحى بعشرات الآلاف وأبعدت الدولة المارقة قيادات الانتفاضة إلى خارج الأرض المحتلة، واستعرت الانتفاضة المجيدة وانتشرت في كل قرية ومدينة ومخيم، ولم يفلح قادة الكيان الصهيوني في إخمادها حتى باللجوء إلى تكسير عظام أطفال الحجارة واللجوء إلى الرصاص الحي على أجساد الأطفال الغضة!

اغتالت دولة الاحتلال والعدوان قائد الانتفاضة ورمزها وجذوة روحها المتقدة الأخ خليل الوزير «أبوجهاد» في عملية كبيرة معقدة اشتركت بها مخابرات دول عديدة عربية وأجنبية في يوم 16 أبريل 1988م، واشتعلت الانتفاضة باستشهاد ملهمها.

وحقق شعبنا الصامد المثابر احترام العالم بتضحياته الجسام، وأوقف الطائفي الحاقد حربه الضروس على مخيمات الفلسطينيين في لبنان إكراما للانتفاضة الفلسطينية كما ادعى، ووقفت جماهير شعبنا في الأرض المحتلة مع منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي الوحيد للشعب العربي الفلسطيني في وجه التدخلات العربية وحفاظا على القرار الفلسطيني المستقل، وخرج مليون ونصف المليون شخص في جنازة الأخ «أبو جهاد»، الذي أوصى بدفنه في مخيم اليرموك بدمشق حيث يسكن والداه.

وأجهزت جنازة «أبو جهاد» المهيبة على الانشقاق الفلسطيني وطموحات قادته المدعومة عربيا، وتواصلت موجات الانتفاضة المجيدة موجة تلو الأخرى لسنوات عدة، وعادت طلائع قوات منظمة التحرير الفلسطينية إلى جزء من الوطن السليب عام 1994 م، لتبدأ مرحلة جديدة من مراحل نضال شعبنا العربي الفلسطيني، هي مرحلة تشكل الكينونة الفلسطينية.

نتذكر ذلك الأخ المناضل بكل الاحترام فهو ملهم أجيالا فلسطينية وعربية تتلمذت على يديه ونتذكره وهو يناجي الانتفاضة برسائله الملتهبة.

ونستذكر قوله المأثور «لنستمر في الهجوم وأن نسخر حتى هواء بلادنا ضد العدو، وأن نستفيد من طاقة الشعب التي فجرتها الانتفاضة بحيث يشترك الشعب كله في المعركة ضد الاحتلال، مصير الاحتلال يتقرر في فلسطين المحتلة نفسها وليس على طاولة المفاوضات، لنستمر في الهجوم موعدنا النصر القادم بإذن الله وبإرادة الشعب والجماهير، وإنها لثورة حتى النصر».

عاشت فلسطين حرة عربية من النهر إلى البحر

عاشت منظمة التحرير الفلسطينية ممثلا شرعيا وحيدا للشعب العربي الفلسطيني.

عاشت السلطة الوطنية الفلسطينية نواة الدولة الفلسطينية القادمة لا محالة.

المجد والخلود لشهدائنا الأبرار والحرية لأسرانا البواسل والشفاء للجرحى.

*كاتب فلسطيني مقيم في البحرين.

مواضيع ذات صلة

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

أهم الأخبار

فتح ميديا أوروبا