مكانة «بومبيو» في تاريخ الدبلوماسية الأمريكية

يعد منصب وزير خارجية الولايات المتحدة ليس فقط الأبرز دبلوماسيا في الوقت الحالي، بل هو أيضا واحد من المناصب السياسية العالمية القليلة التي لها تأثير هائل على الشؤون الدولية. وبالتالي كان طبيعيا أن يؤثر العديد من أولئك الذين شغلوا وزارة الخارجية الأمريكية بشكل كبير على السياسة العالمية خلال مدة عملهم، من أمثال جيمس بيكر، وكولين باول، ومادلين أولبرايت، وكونداليزا رايس، وهنري كيسنجر.

وفي الوقت الحالي، يشغل «مايك بومبيو» رئاسة الخارجية الأمريكية منذ عام 2018، وغالبا ما يُنظر إلى موقف وزير الخارجية كمحقق لضبط النفس مقارنة بمواقف «ترامب» المتقلبة للسياسة الدولية، حيث يجب أن يضطلع بمستوى جديد من الأهمية في صياغة سياسة متماسكة، لتعويض السلوكيات الغريبة للرئيس الأمريكي الحالي. وكوزير للخارجية فشل في تحقيق ذلك من نواح عديدة، فقد كان بمثابة الدبلوماسي المثالي لترامب شخصيا، بعد أن استطاع الموازنة بين تخفيف سياساته العدوانية وتجنب الوقوع في خطأ نتيجة تقلب مزاجيته.

ولم تشهد الحياة السياسية في الولايات المتحدة في تاريخها الحديث ظاهرة مشابهة لما شهده البيت الأبيض خلال رئاسة «ترامب»، حيث ستدخل فترته التاريخ الحديث كمثال سيئ للقيادة غير الفعالة والانقسام في ضوء العديد من الأحداث التي وقعت؛ بداية من «حمى الإقالات» التي ضربت إدارته وطالت شخصيات بارزة، مثل رئيس أركان البيت الأبيض «جون كيلي»، والمستشار الخاص السابق للرئيس «ستيف بانون»، ووزير الدفاع «جيمس ماتيس»، بالإضافة إلى ثلاثة مستشارين للأمن القومي؛ وهم مايكل فلين، وهربرت مكماستر، وجون بولتون، ووزير الخارجية الأول ريكس تيلرسون، فضلا عن السقطات السياسية والدبلوماسية غير المحسوبة له، والمواقف المغايرة بين الرئيس وإدارته، وكشف لمؤامرات وتسريب لأسرار الدولة، ونقض لتعهدات ومعاهدات، وتحولات وعواصف سياسية، والأخطر هو ظهور لأصداء عنصرية بغيضة.

وفي حقيقة الأمر، لم يكن قرار إقالة وزير الخارجية الأمريكي السابق «ريكس تيلرسون»، يوم 13 مارس 2018 مفاجئا. فطوال عام من منصبه كانت هناك توقعات مؤكدة بإقالته؛ بسبب تباين الكثير من المواقف بينه وبين الرئيس. وربما كان اختلاف وجهات النظر هذه علامة على اختيار الأخير للشخص الذي سيحل محلّه، حيث اختار مدير وكالة الاستخبارات المركزية لهذا المنصب.

وعلى عكس «تيلرسون»، ينحاز «بومبيو»، بشكل واضح إلى «ترامب» ونهجه السياسي، ويتبنى وجهات نظر مطابقة لرأي الحركة اليمينية المحافظة، التي تشكل الغالبية العظمى من قاعدة ناخبي الرئيس الأمريكي. ويؤيد استخدام القوة العسكرية ضد أعداء الولايات المتحدة، ويدافع أيضًا عن مفهوم «الخصوصية أو الاستثناء» الأمريكي، وهو ما يعزز العزلة الدولية والأفكار المتعصبة، فعلى سبيل المثال رأيه بخصوص المسلمين، حيث اتهم جميع المسلمين بأنهم «شركاء محتملون» في المنظمات الجهادية الإرهابية. ونتيجةً لذلك أشارت صحيفة «الا يكونوميست»، البريطانية، إلى أنه بالرغم من أنه لم يكن في السابق على وفاق مع الرئيس الأمريكي، ولا سيما حول مدى التدخل الروسي في الانتخابات الرئاسية الأمريكية عام 2016، إلا أنه من أكثر الداعمين لرؤية «ترامب» العالمية «أمريكا أولاً»، مع أنه في قرارة نفسه لا يوافق عليها.

وبعيدًا عن أي وفاق آيديولوجي، فإن «ترامب» و«بومبيو» لديهما شخصية جيدة وعلاقة مهنية، وهذا ما ذكره «ترامب»، بقوله: «أنا و«بومبيو» على الموجة ذاتها والعلاقة بيننا دائمًا جيدة وهذا ما أنا بحاجة إليه». وبالنظر إلى الانحياز والصداقة لكليهما من الناحيتين الشخصية والسياسية، كان لذلك تأثير ملحوظ على العديد من الملفات خاصة في منطقة الشرق الأوسط، التي تعد بؤرة ساخنة بالنسبة لترامب، نظرًا إلى عدد من التطورات الناتجة عن سياسته الخارجية، مثل قرار الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، ونقل السفارة الأمريكية إليها. وبينما أعاق «تيلرسون» تنفيذ هذا التحرك، دعم «بومبيو» جهود «ترامب» نحو مزيد من التقارب مع إسرائيل على حساب الفلسطينيين، نظرًا إلى سمعته المعروفة بأنه معاد للإسلام ويؤيد جمعيات تناهضه. وعليه، فقد تجنب مصير سابقيه من خلال إظهار الرغبة في اتباع الرئيس في مسائل السياسة الخارجية دون انحراف؛ حيث لم يبتعد أبدا عن خط السياسة الخارجية المتفق عليه لإدارة ترامب. ونتيجة لذلك أعلن «كولم كوين»، من مجلة «فورين بوليسي»، أن «وزير الخارجية أصبح الشخصية الأكثر ثقة لدى الرئيس الأمريكي». كما أن ترامب قال للصحفيين عام 2019: «أنا أتجادل مع الجميع، ما عدا بومبيو».

ونظرًا إلى قبوله لاستراتيجية السياسة الخارجية التي تظهر من دون دور ملموس له في صياغتها، فهو «منفّذ» فقط، وليس «صانعا» للسياسة الخارجية. وفي هذا الصدد لا يمكن مقارنته بأقرانه من أمثال (هنري كيسنجر، وجيمس بيكر، ومادلين أولبرايت) وغيرهم، الذين لعبوا جميعا دورا رئيسيا في تشكيل أهداف السياسة الخارجية. ويعكس ذلك حقيقة افتقار الإدارة الأمريكية الحالية إلى المخطط الاستراتيجي وعدم وجود اتجاه لأهداف مستقبلية تتجاوز ممارسة ضغط لا نهاية له على أعداء الولايات المتحدة.

ووفقا للعديد من المحللين، تعد عدم قدرته على التأثير بشكل كافٍ في مسار السياسة الخارجية أمرا بارزا بالنظر إلى امتلاكه بعض الاختلافات في نظرته العالمية عن الرئيس. ووفقا لـ«سوزان جلاسر»، من مجلة «ذا نيويوركر»، فإن نظرته للولايات المتحدة في النظام الدولي هي وجهة نظر «أممي محافظ شكلت خدمته العسكرية في حقبة الحرب الباردة شخصيته». ومن ثم «يختلف من دون أن يعلن مع ترامب على مبدأ أمريكا أولا، وبشأن دور الولايات المتحدة في العالم»، لأنه كما وصفوه «صوت سيده».

وتتعلق ثاني الاختلافات بروسيا. وقبل توليه الخارجية، كان ناقدا حادا لموسكو. وفي خطاب له عام 2016، تحدث عن الضم الروسي لشبه جزيرة القرم من أوكرانيا، متسائلا: «ما هي عقوبة بوتين لاستيلائه على ما يمثل خُمس دولة أوروبية؟». كما قال إن: «الهجمات الروسية على السياسة الأمريكية في الفترة التي تسبق الانتخابات الرئاسية لعام 2016 ترقى إلى محاولة جعل أمريكا تبدو وكأنها دولة في العالم الثالث». وفي اجتماع مع نظيره الروسي «سيرجي لافروف» في منتصف مايو 2019، اعترض على الدعم الروسي لإيران وفنزويلا، وفشلت المحادثات الدبلوماسية التالية في التوصل إلى نتيجة ناجحة.

وعلى الرغم من هذه الاختلافات، يؤيد «ترامب» و«بومبيو» التحالف الأمريكي السعودي، ولا يتزعزعان في دعمهما لإسرائيل ومعارضتهما لإيران. وذكر الأخير في خطاب له عام 2018 أن إدارة أوباما «كانت تحترم زعماء إيران أكثر من إسرائيل»، كما كان مؤيدا قويا لخطة ترامب للسلام في الشرق الأوسط التي كانت محسومة عند وصوله، وهو أيضا المسؤول الأمريكي الذي أعلن أن واشنطن لم تعد تنظر إلى المستوطنات الإسرائيلية على أرض محتلة تعتبر دوليا فلسطينية على أنها غير شرعية. علاوة على ذلك يعتبر الشخصية الأمريكية الرئيسية في الأزمة السياسية المستمرة في فنزويلا، ودعم باستمرار زعيم المعارضة خوان غوايدو منذ انتخابات 2018 المتنازع عليها.

وعلى الرغم من افتقاره إلى التأثير على صياغة السياسة الخارجية؛ فقد وجد فيه الرئيس الأمريكي أيضا حليفا سياسيا موثوقا به يمكنه إزالة الضرر الدبلوماسي الذي يخلفه في أعقاب خطاباته الصاخبة وتغريداته الغاضبة ومناوراته العدوانية. ومقارنة بسلفه، أثبت أن هذه المهمة مهمة للغاية. وكتبت «بي بي سي» في وقت إقالته أن تيلرسون قال: إنه «مندهش من قلة فهم ترامب لأساسيات السياسة الخارجية». ولاحظ «بيتر فيفر»، عضو مجلس الأمن القومي في إدارة الرئيس الأسبق بوش، أن «بومبيو» يعمل في ظل رئيس على عكس أي شخص في رفضه العمل على صنع سياسات من دون إبداء رأي». وعلى الرغم من ذلك، فقد تمكن من تحسين المواقف المحرجة قدر الإمكان، فعندما اختار ترامب سحب القوات الأمريكية من سوريا، كان هو من قدم حجة مُقنعة للصحفيين قائلا: «سنقوم بذلك بطريقة منظمة ومدروسة تحمي الأمن القومي الأمريكي، وتسمح لنا بمواصلة المهمة التي نقوم بها؛ وهي مكافحة الإرهاب».

وسمحت جائحة كورونا، لبومبيو بأداء دور أكثر نشاطًا كدبلوماسي بارز لبلاده. وبحسب «روبي جرامر»، في مجلة «فورين بوليسي»، فإنه: «جدد جدول أعمال الإدارة السابق لانتشار الوباء والخاص بقمع إيران ومحاولة الإطاحة بفريق الرئيس الفنزويلي مادورو من السلطة»، كما كان نشطًا للغاية مع كل من وسائل الإعلام الأمريكية والدولية، مستغلاً هذه الفرص لإلقاء اللوم باستمرار على الصين في انتشار الفيروس، وكرر باستمرار المزاعم بأن الفيروس خرج من مختبر في مدينة ووهان الصينية، وليس من «سوق رطبة»، كما تقول الصين، فيما اتهمها بتدمير عينات من فيروسات كورونا كجزء من حملة حجب الحقيقة.

ويمثل الخطاب المناهض للصين عنصرا أساسيا في سياسته كوزير للخارجية. وفي حين تواصل وزير الخارجية الأسبق «هنري كيسنجر» مع حكومة «ماو تسي تونغ» في أوائل السبعينيات، اختار الوزير الحالي -مُتبعا خُطى ترامب- محاربة القوة الصينية الصاعدة. وهو ما وصفه «روبي جرامر» بأنه «وجه الاستراتيجية المتشددة للإدارة الأمريكية في التعامل مع الصين». وفي يناير 2020، أعلن أن الحزب الشيوعي الصيني هو «التهديد الرئيسي في عصرنا»، وأكد أن «بكين تريد أن تكون القوة الاقتصادية والعسكرية المهيمنة في العالم، ونشر رؤيتها الاستبدادية للمجتمع وممارساتها الفاسدة في جميع أنحاء العالم».

ومع ذلك، فقد نال هو نفسه العديد من الانتقادات في تعامله مع الأزمة. وانتقد «مايكل فوشز» من «مركز التقدم الأمريكي» تعامل وزير الخارجية السيئ مع أزمة كورونا، قائلاً: «في أزمة بهذا الحجم، سيكون على وزير خارجية أقوى دولة أن يقف في صف الدول لمُحاربة الوباء مع تركيز الرئيس على الاستجابة المحلية؛ لكن لسوء الحظ، غاب عن العمل على هذا الهدف منذ اليوم الأول». ومن ثم فإن أي مقارنة بـ«كيسنجر» ستقتصر على التشابه بين محادثاته مع النظام الكوري الشمالي لـ«كيم جونغ أون» في أبريل 2018 واجتماع كيسنجر مع «ماو» في بكين عام 1971. وكل من هذه الخطوات عجلت بمحادثات سرية للغاية أدت إلى تحسن العلاقات الخارجية بين الطرفين.

وعموما، على الرغم من أن «بومبيو» لا يعد صانعا للسياسات بقدر ما هو منفذ لها في نظر الكثيرين، إلا أنه يعد واحدا من عوامل الاستقرار في الإدارة الحالية؛ بسبب التفاهم الشخصي بينه وبين ترامب، ما جعله مقربا منه، فضلا عن قدرته على تجاوز أي عاصفة قد تسببها تصريحات الأخير المثيرة للجدل، وهو ما جنب هذه الإدارة المزيد من الانقسام.

ومع ذلك فإن الاستقرار المحدود الذي يجلبه لا يعوض افتقاره إلى التأثير على تحديد أهداف السياسة الخارجية، مقارنة بما قام به نظراؤه السابقون من دور رئيسي في تشكيل نظرة أمريكا إلى العالم، ومن ثم حسم مُجريات الأحداث. ولعل عدم قدرته على تأكيد نفسه كلاعب بارز في السياسة الخارجية تجعله واحدا من وزراء الخارجية الأقل فعالية. وعلى هذا النحو إذا سقطت إدارة ترامب في نوفمبر القادم فمن المرجح ألا يجري تذكر «بومبيو» إلا فقط كشخصية ثانوية في هذه الفترة المضطربة من السياسة الأمريكية.

مركز الخليج للدراسات الإستراتيجية

مواضيع ذات صلة

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

أهم الأخبار

فتح ميديا أوروبا