التطبيع وانقسام الشارع العربى

بقلم: فاروق جويدة

سوف تبقي قضية التطبيع بين العرب و إسرائيل واحدة من القضايا الخلافية، ويبدو أننا لن نتفق عليها .. وهناك أسباب كثيرة تجعل الاتفاق قضية صعبة إذا لم تكن مستحيلة .. وأنا لا أتصور أن يتم التطبيع والشعب ال فلسطين ي لم يحصل علي شيء من حقوقه حتي الآن..

< إن كل الوعود التي قدمتها إسرائيل لم يتحقق منها شيء ابتداء بالدولة ال فلسطين ية وانتهاء بوقف بناء المستوطنات في الأرض المحتلة.. إن كل ما دار حول القضية ال فلسطين ية من مفاوضات أو اتفاقيات كان لمصلحة إسرائيل .. ولم يحصل الشعب ال فلسطين ي علي أي شيء سواء في المفاوضات أو الاتفاقيات أو إجراءات التطبيع ..

< لا أتصور أن تنجح محاولات التطبيع و القدس في يد إسرائيل ، أو أن نتحدث عن السلام وخطة ترامب للسلام تحرم الشعب ال فلسطين ي من كل حقوقه.. إن إسرائيل هي الطرف الوحيد المستفيد من التطبيع وتبادل السفراء والمصالح الاقتصادية.. ربما استفاد البعض من السياحة أو التبادل التجاري أو فتح أبواب الاستثمارات، ولكن كل ذلك لن يسهم في حل قضايا الشعب ال فلسطين ي..

< لقد كان موقف الدول العرب ية من الصراع العرب ى ــ ال إسرائيل ي يمنح ال فلسطين يين دعما كبيرا في مواجهة أطماع إسرائيل التوسعية.. ومع فتح السفارات وتبادل المصالح وانسحاب الدول العرب ية من المواجهة و التطبيع سوف تخسر القضية ال فلسطين ية أهم جوانب القوة فيها .. إن إسرائيل في شهور قليلة وربما أيام أخذت كل شيء دون أن تقدم أي شيء ..

< لقد هرولت بعض الدول العرب ية في سباق غريب ومريب وبدأت مواكب المسئولين تتجه إلي تل أبيب .. ولم يعد هناك صوت عربي يتحدث باسم الشعب ال فلسطين ي.. وإن سمعنا من يقول علي ال فلسطين يين أن يتحملوا مسئولية قضيتهم .. إن رياح التطبيع تجتاح الآن سلطات القرار في العالم العرب ي، وسوف تشهد الشعوب العرب ية حالة انقسام وخلافات حادة أمام قضية التطبيع مع إسرائيل .. وإن كان البعض يتصور أن حالة التفكك والانفلات التي يعيشها الشارع العرب ي يمكن أن تمهد الطريق لعلاقات أفضل مع إسرائيل ..

< منذ أكثر من أربعين عاما مضت علي اتفاقية السلام في كامب ديفيد بين مصر و إسرائيل لم تنجح محاولات التطبيع ومازال الشارع المصري منقسما حتي الآن .. ولم تستطع إسرائيل اختراق حياة المصريين في أي مجال من المجالات .. وقد تجاوزت إسرائيل في مطالبها بعد كامب ديفيد ولم يسمع لها أحد، وقد بقيت قضية التطبيع مثار خلاف بين النخبة المصرية .. وحين وقع الرئيس الراحل أنور السادات اتفاقية كامب ديفيد انقسم كتاب مصر الكبار منهم من أيد ومنهم من عارض.. كان من المؤيدين توفيق الحكيم ونجيب محفوظ وأنيس منصور وحسين فوزي .. واشتد الخلاف وذهب د. فوزي إلي إسرائيل وفي جامعة حيفا أطلق قذائف كثيرة، كان أخطرها أن مصر ليست عربية وأن علينا أن نتجه شمالا .. تكتل الكتاب الكبار يومها وبعضهم أعلن صراحة موقفه في دعم إسرائيل وكان منهم علي سالم .. وكتبت يومها ردا علي د0حسين فوزي وقلت إن كامب ديفيد لا تعني التخلي عن الشعب ال فلسطين ى ، وإن مصر لم تستبدل بعروبتها السلام مع إسرائيل .. وبقيت قضية التطبيع من أهم أسباب الانقسام في الشارع المصري .. ومازال لها حوارييها الذين يؤمنون بها سواء كان ذلك عن قناعة أو جريا وراء المصالح..

< وفي الأيام الأخيرة هبطت علي الشارع العرب ي عواصف كثيرة تحت شعارات التطبيع .. وتداخلت الصور والأحداث، وهرول الكثيرون إلي تل أبيب بحثا عن صفقات أو مصالح.. وازدادت حدة المواجهة بين تأييد كامل ورفض علي كل الجبهات .. إن إسرائيل بكل تأكيد استغلت حالة الضعف التي يمر بها العالم العرب ي حروبا ودمارا وانقساما .. كما أن حالة التفكك التي تعانيها سلطة القرار العرب ي منحت إسرائيل فرصة تاريخية للوصول إلي المزيد من تحقيق أطماعها علي حساب الشعوب العرب ية.. ولا شك أن سنوات حكم الرئيس ترامب قدمت ل إسرائيل ما لم يقدمه رئيس أمريكي سابق..

< إن الشيء المؤكد أن الخلاف حول قضية التطبيع مع إسرائيل سوف يبقي، وأن عشرات الاتفاقيات التي وقعتها الحكومات العرب ية لن تعيد حقا من حقوق الشعب ال فلسطين ي .. وأن الشارع العرب ي سوف يظل علي موقفه من قضية التطبيع .. هنا لابد أن تكون لنا وقفة مع فصائل الشعب ال فلسطين ي وهو يري حقوقه تضيع أمام تهاون عربي .. إن القضية الآن في يد فتح وحماس، وسوف تظل حائرة بين سلام لا يجيء ومقاومة لم تصل إلي شيء..

< لقد وقعت القيادة ال فلسطين ية عشرات الاتفاقيات مع إسرائيل ابتداء بأوسلو وانتهاء بالتنسيق الأمني ولم يصل ال فلسطين يون إلي شىء، فهل هناك فرصة لتعديل المسار؟ .. إن العالم العرب ي يبحث الآن عن مصالحة ويبدو أن كل دولة الآن تبحث عن مصالحها، وأن قضية فلسطين ربما تأخذ مكانها ولو مؤقتاً في ذاكرة الشعوب التي لن تنسي قضية العرب الأولى: فلسطين ..

< إن هوجة التطبيع التي تجتاح العواصم العرب ية الآن والوفود التي تتدفق في عرس التطبيع تثير الكثير من المخاوف والظنون وسوء النوايا .. إن إسرائيل تجد أمامها فرصة تاريخية أمام حالة الضعف التي يعيشها العالم العرب ى مابين الصراعات الدينية والحروب الأهلية وانقسام أصحاب القضية وتخلي سلطة القرار أمام حسابات خاطئة..

< إن إسرائيل تراهن الآن علي هذه الحشود القادمة إليها من بعض العواصم العرب ية والشىء المؤكد أنها لن تضيع الفرصة.. إن أمام إسرائيل الآن أكبر تكتل عربي سعي إليها، وهي الآن تنتظر ما بقي من الحكومات العرب ية لكي تلحق بمواكب التطبيع .. إن السؤال الذي يمكن أن يطرح نفسه الآن هل يمكن أن تستسلم الشعوب العرب ية لهذا الواقع الأليم؟!.. وهل يترك أكثر من350 مليون عربى أوطانهم وحياتهم أمام هذا الوحش الكاسر يغير خرائط الأوطان والبشر؟!..

< إن إسرائيل لن تستطيع ابتلاع العالم العرب ي ولكن أي أنواع السيطرة سوف تنجح فيه؟!، إن حالة الانقسام التي تعانيها الشعوب العرب ية هي التي شجعت إسرائيل علي هذا الاقتحام، ولكن عقلاء الأمة لن يفرطوا في مسئولياتهم.. وسوف تبقي قضية التطبيع مرتبطة بحقوق الشعب ال فلسطين ي وإذا كان البعض قد باعها وفرط فيها فإن هناك دماء طاهرة لن تغيب عن ذاكرة الشعوب..

< إن أفراح التطبيع التي تدور الآن في عواصم عربية لا يمكن أن تغير حقائق الزمن والتاريخ وربما جاءت أجيال تدرك قيمة أوطانها وحقيقة قضاياها وساعتها سوف تختفي مواكب التطبيع وتعود للشعوب حقوقها..

< من الخطأ أن يتصور المطبعون أننا أمام قضية سياسية علي بعض الحدود أو أن الأمر لا يتجاوز قضايا ثقافية أو فنية عن فنان أو كاتب يجرى وراء مصالح مشبوهة.. إن قضية فلسطين قضية وطن وأرض وشعب وحياة ولا ينبغى أن نختصر كل شىء في صفقة عابرة.. إن وراء قضية فلسطين شعبا ودماء وتضحيات ويجب أن تدرك الشعوب العرب ية وهي تفرط أن الدور عليها.. إن التوسع ال إسرائيل ي في هذه الهوجة لن يكتفي بصفقات سياسية أو اقتصادية أو مكاسب ثقافية ولكنه سوف يمتد إلي الأرض والنفوذ والأوطان وعلى الجميع أن يدرك حجم الكارثة..

< كان رأيى دائما أن التطبيع لا يصنع سلاما حقيقيا بين الشعوب، وخاصة أننا أمام قضية إنسانية معقدة .. نحن أمام شعب مطرود من وطنه وأمام جريمة اغتصاب لوطن له مكانة وقدسية خاصة، وإذا كانت أرض السلام لا تستطيع أن تعيش في سلام فقل على الأرض السلام..

ويبقى الشعر

أتيتُكِ نهًرا حزينَ الضِفافِ

فلا ماءَ عندي ؛ ولا سنبله

فلا تسألي الرّوضَ كيف انتهيت

ولا تسألي النهر من أَهْمَلَه

أنا زهرةٌ من ربيعٍ قديمٍ

أحَبَّ الجمال ؛ وكم ظلله

حقائب عُمري بقايا سراب

وأطلالُ حلمي بها مُهْمَلَة

وجوهٌ على العينِ مرَّت سريعًا

فمن خان قلبي ؛ ومن دلله

ولا تسألي الشِعْرَ من كان قبلي

ومن في رحاب الهوى رَتّلَه

أنا عَابِدٌ في رِحَابِ الجَمَالِ

رأى في عيونكِ ما أَذْهَلَه

يقولون في القتلِ ذنبٌ كبيرٌ

وقتل المحبينَ مَن حَلّلَه

أناديكِ كالضوءِ خلفَ الغيوم

وأسأل قلبكِ من بَدَّلَه

وأصبحتُ كالنهرِ طيفًا عجوزًا

زمانٌ من القهرِ قد أَثْقَلَه

فهذا الحريقُ الذي في يديكِ

يثير شجوني ..فمَن أَشْعَلَه

وهذا الشموخُ الذي كان يومًا

يضيءُ سماءَكِ مَن أَسْدَلَه

أَعيدي الربيع لهذي الضفاف

وقومي من اليأسِ ؛ ما أَطْوَلَه

فخيرُ الخلائقِ شعبٌ عنيدٌ

إذا ما ابتدا حُلْمَهُ ؛ أَكْمَلَه

حَزينٌ غنائي فهل تسمعينَ

بكاءَ الطيورِ على المِقْصَلَة

أنا صرخةٌ من زمانٍ عريقٍ

غَدَتْ في عيون الورى مَهْزَلَة

أنا طائرٌ من بقايا النسورِ

سلامُ الحمائمِ ؛ قد كَبَّلَه

أنا جذوةٌ من بقايا حَريقٍ

وبستان وردٍ به قُنْبُلَة

فلا تسألي الفجر عن قاتليهِ

وعن سارقيهِ ..ومن أَجَّلَه

ولا تسألي النَّهر عن عاشقيهِ

وعن بائعيهِ ؛ وما أَمَّلَه

تعالي أحبُّكِ ما عاد عندي

سوى الحب والموت والأسئلة

زَمانٌ دميمٌ أذلَّ الخيولَ

فما كان مني ؛ وما كنت له

خيولٌ تعرَّت فصارت نعاجا

فمن روّج القُبحَ ؛ مَن جَمَّلَه

ومن علَّم الخيلَ أنَّ النباحَ

وراء المرابينَ ؛ ما أجمله

هنا كان بالأمس صوتُ الخيولِ

على كل باغٍ له جَلْجَلَه

فكم أسقط الحقُّ عرشَ الطغاة

وكم واجَهَ الزيفَ كم زَلْزَلَه

فكيفَ انتهى المجدُ للباكياتِ

ومن أخرس الحقَّ ؛ من ضَلَّلَه

ومن قال إن البُكا كالصهيلِ

وَعَدو الفوارس كَالهَرْوَلَه

سلامٌ على كلِ نسرِ جسور

يرى في سماءِ العلا مَنْزِلَه

«قصيدة الخيول لا تعرف النباح سنة 2000 »

نقلاً عن الأهرام اليومي

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

فتح ميديا أوروبا
Exit mobile version