نهاية الشرق الأوسط: كيف تشوه خريطة قديمة واقعا جديدا؟ (2-2)

مارك لينش* – (فورين أفيرز)

ترجمة: علاء الدين أبو زينة

الأسواق تتحرك شرقاً
تمامًا كما جعلت الديناميات السياسية الأخيرة الخريطة القديمة للشرق الأوسط قديمة عفا عليها الزمن، كذلك فعلت التغييرات الاجتماعية واسعة النطاق. منذ الخمسينيات وحتى الثمانينيات، أدت الهجرة الجماعية للعمال من الدول العربية الأفقر إلى دول الخليج سريعة النمو إلى خلق روابط قوية داخل المنطقة. ولعبت التحويلات المالية لهؤلاء العمال دورًا رئيسيًا في الاقتصادات غير الرسمية في مصر ومعظم دول المشرق العربي، ومكَّنت الإقامة الطويلة لهؤلاء العمال في دول الخليج من انتشار الأفكار الإسلامية المحافظة التي لم تكن تجد في السابق الكثير ممن يشترونها خارج المملكة العربية السعودية. ولكن، بعد الغزو العراقي للكويت في العام 1990، الذي كان يُنظر خلاله إلى العمال الفلسطينيين واليمنيين على أنهم غير موالين، تم استبدال العمال المهاجرين العرب في تلك البلدان بعمال من جنوب آسيا أكثر أمانًا من الناحية السياسية. وقد أدى هذا الاتجاه إلى إضعاف الروابط الاقتصادية والاجتماعية بين منطقة الخليج وبقية دول الشرق الأوسط إلى حد كبير، بينما عزز العلاقات في المقابل بين الخليج ودول المحيط الهندي.
وبالمثل، فقد الإعلام العربي الكثير من تماسكه الثيماتي. حتى العام 2011، كانت الفضائيات العربية تفعل الكثير لتشكيل ثقافة مشتركة على المستوى الشعبي، بما في ذلك أثناء الانتفاضات العربية. ولكن، في العقد الذي تلا ذلك، أصبح المشهد الإعلامي مُبلقَناً، على نحو يعكس الاستقطاب السياسي في المنطقة. وهكذا، بينما عملت قناة “الجزيرة” كمنصة مشتركة للسياسة العامة العربية في التسعينيات والسنوات الأولى من هذا القرن، أصبحت بعد العام 2011 واحدة فقط من بين العديد من المنصات الإعلامية المتحزبة، بما في ذلك مجموعة “روتانا” الإعلامية ومقرها في السعودية، وقناة “العربية” ومقرها في الإمارات، وقناة “العلم” الإيرانية الناطقة بالعربية. وتعزز مثل هذه المحطات الاستقطاب السياسي، حيث يتبنى سرد كل واحدة منها أولئك الذين في نطاقها السياسي وتزدري من هم خارجه. كما قامت أنظمة في المنطقة بتسليح وسائل التواصل الاجتماعي التي كانت ذات يوم قوة لتكامل الجمهور العربي، من خلال الاستخدام الواسع لجيوش الـ”بوتات” (1) والرقابة، التي مزقت هذا الفضاء وحولته إلى حجرات إطلاق عدوانية.
على مدى العقدين الماضيين، أعادت الأسواق المالية العالمية تشكيل توجهات بعض أغنى دول الشرق الأوسط، بما فيها الكويت، وقطر، والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة. وبالنظر إلى استثماراتها الكبيرة في العقارات والأندية الرياضية الغربية، وروابطها الاقتصادية المتنامية مع آسيا، والعدد الكبير الذي تستضيفه من عمال الخدمات غير العرب والمغتربين الغربيين، أصبح من المنطقي باطراد أن ننظر إلى هذه الأماكن على أنها مراكز للرأسمالية العالمية أكثر من كونها دولاً شرق أوسطية؛ وهكذا، أصبح لدى دبي من المشتركات مع سنغافورة أو هونغ كونغ أكثر مما لديها مع بيروت أو بغداد. وبالمثل، يعكس استخدام بعض الدول العربية لأدوات المراقبة الرقمية إسرائيلية الصنع نموذج الصين بقدر ما يعكس نموذج الأنظمة العربية الأخرى. وقد تلعب هذه الروابط العالمية في الاقتصاد والتكنولوجيا قريبًا دورًا كبيرًا في السياسات الخارجية لهذه الدول كما تفعل أي أولويات إقليمية تقليدية -مما يدفعها أقرب إلى آسيا، على سبيل المثال، أو يوفر لها حوافز جديدة للتلاعب بالانتخابات في الديمقراطيات الغربية.
في المقابل، تلاشت إلى حد كبير أهمية الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، الذي كان يشكل ذات يوم قوة موحدة في العالم العربي. واجتذبت “حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات”، التي تهدف إلى توسيع إسرائيل للمستوطنات في الضفة الغربية، اهتمامًا في حرم الجامعات الأميركية وفي قاعات الكونغرس أكثر مما فعلت في الشرق الأوسط. وتشكل أوروبا والأمم المتحدة والمحكمة الجنائية الدولية ساحات معركة مركزية للنزاعات الإسرائيلية الفلسطينية أكثر من أي عاصمة عربية. وبينما تحظى القضية الفلسطينية اليوم بتأييد غير مسبوق في الغرب، فإنها نادرًا ما حظيت بتعاطف أقل من دول المنطقة العربية، كما يتضح من قرار البحرين والإمارات تطبيع العلاقات مع إسرائيل في اتفاقية أبراهام للعام 2020. وعلى الرغم من الآثار الملموسة المحدودة لهذه الاتفاقية، فقد بدا أن الإسرائيليين يحتضنونها بحسّ من التنفيس، في ما يرجع جزئيًا إلى أنها أشرت على نهاية “الشرق الأوسط” كميدان أساسي للمخاوف الأمنية أو السياسية -للعرب بقدر ما هو للإسرائيليين.

إنها خريطتهم، وليس خريطتنا
على مدى 75 عامًا، كان الشرق الأوسط كما نعرفه من بنيان الهيمنة الأميركية إلى حد. ولجزء كبير من كل هذا الوقت، كانت خريطة الولايات المتحدة تبدو منطقية لأن أولويات واشنطن في المنطقة استطاعت أن تقطع شوطًا مهمًا نحو التأثير على سياسة المنطقة. وشكلت العقائد الإستراتيجية للحرب الباردة التي اعتنقتها واشنطن التحالفات والتدخلات منذ أزمة السويس في العام 1956، عندما حلت الولايات المتحدة محل فرنسا والمملكة المتحدة لتكون القوة الغربية الأساسية في المنطقة، حتى سقوط جدار برلين في العام 1989. ورسخت حرب الخليج في 1990-91 نظامًا إقليميًا أميركيًا بدا فيه أن كل الطرق تؤدي إلى واشنطن. واحتكرت الولايات المتحدة قيادة عملية السلام العربية الإسرائيلية، من مؤتمر مدريد إلى اتفاقيات أوسلو، وعرّف احتواؤها المزدوج لإيران والعراق الجغرافيا السياسية للخليج.
لكن الموقف العالمي للولايات المتحدة تراجع بسرعة، وكذلك فعل أيضاً تماسك منطقة منظمة إلى حد كبير حول المصالح الأميركية. ووسط تداعيات القرار الكارثي بغزو العراق في العام 2003، سعى ثلاثة رؤساء أميركيين متعاقبين إلى التقليل من التزامات الولايات المتحدة في الشرق الأوسط وإعادة التمحور نحو آسيا. ومع اعتبار الولايات المتحدة في حالة تراجع، أكدت القوى الإقليمية تعريفاتها الخاصة للمنطقة: نظام متمحور حول المحيط الهندي لدول الخليج؛ وتوجه عبر منطقة الساحل لدول شمال إفريقيا. لكنّ هذا لا يعني أن مناطق الصراع التقليدية قد اختفت. قامت إيران، على سبيل المثال، ببسط شبكاتها ونفوذها بالوكالة في جميع أنحاء الدول الممزقة، مثل العراق ولبنان وسورية واليمن، وهي عالقة في منافسة متصاعدة مع إسرائيل والمملكة العربية السعودية. لكنها كثفت إيضاً، مثل منافسيها الإقليميين، أنشطتها في إفريقيا وشرعت في بناء شراكات مع دول في آسيا، وخاصة الصين.
بالنسبة للولايات المتحدة، جعل صعود حركات التمرد الجهادية في أفريقيا جنوب الصحراء من عقيدة مكافحة الإرهاب التي تركز على الشرق الأوسط والتي ظهرت بعد 11 أيلول (سبتمبر) بالية عتيقة الطراز. وعلى الرغم من انسحاب القوات الأميركية من العراق وسورية، ما تزال ضربات الطائرات من دون طيار الأميركية وعمليات مكافحة الإرهاب مستمرة، من الصومال وعبر كامل منطقة الساحل. والمربك أنه حتى مع إشارة الولايات المتحدة إلى خروجها من الشرق الأوسط، فإنها تحافظ على البنية العسكرية نفسها أو تقوم بتوسيعها، للتعامل مع العديد من المخاوف الأمنية نفسها، في منطقة الساحل الإفريقي وشرق إفريقيا.
والآن، يجب على الولايات المتحدة أيضًا أن تتعامل مع بكين التي تفكر في الشرق الأوسط بشكل مختلف عما تفكر فيه واشنطن بشأنه. وتتبع خريطة الصين للمنطقة مصالحها الإستراتيجية الخاصة، وليس مصالح واشنطن. زمن خلال مبادرتها “الحزام والطريق”، وسعت بكين مصالحها في مجال الطاقة في الخليج ووجودها في إفريقيا. ووقعت سلسلة من الاتفاقيات مع دول الخليج على نحو يسد الفجوة بين إيران ودول الخليج العربي من خلال التقليل من أهمية السياسة والتركيز على البنية التحتية وموارد الطاقة. وقد فتح التدخل الصيني المتزايد في المنطقة آفاقًا جديدة لتحقيق الاستقرار في إنتاج النفط وأشكال أخرى من التعاون الإقليمي، لكنه ضاعف أيضًا من فرص حدوث أخطاء خطيرة في الفهم، بينما تسعى واشنطن إلى تحقيق التوازن بين مصالحها الإقليمية وتنافسها المتزايد مع الصين.
إذا بدأ العلماء والمحللون وصناع القرار الأميركيون في فهم الشرق الأوسط بشكل أقل كمنطقة جغرافية متمايزة وبشكل أكثر كمجموعة مرنة سائلة من الدول والسكان، والتي تتحرك عبرها القوى الاجتماعية الأوسع والمنافسة المتغيرة لتدفق السلطة، فإن العديد من هذه التطورات الأخيرة ستبدو أقل إثارة للدهشة. وسوف تكون للتفكير فيما وراء الشرق الأوسط التقليدي أيضًا فوائد تحليلية واستراتيجية مباشرة لواشنطن، ليس لأنه يستلزم استعادة تاريخ منسي فحسب، وإنما لأنه سيؤدي أيضاً إلى تحقيق فهم أفضل للواقع سريع التغير على الأرض.
لكن هناك مخاطر تتصل باعتناق نهج عابر للأقاليم. قد ينتهي الأمر بتبني تعريف وزارة الدفاع الأميركية الأوسع للمنطقة إلى إعادة إنتاج التركيز المدفوع بالأمن الذي ميز العديد من السياسات الأميركية الفاشلة في أفغانستان والشرق الأوسط على مدى العقدين الماضيين. وستكون هذه مأساة. يجب أن تسمح العدسة عبر-الإقليمية للأكاديميين وصانعي السياسات -ليس فقط بتجاوز النماذج القديمة، ولكن أيضًا بإعادة التفكير في كيفية تعزيز الولايات المتحدة للتنمية والحكم الرشيد في الخارج. ويمكن أن تساعد واشنطن على توليد استجابة أكثر فاعلية لأزمة الهجرة في إفريقيا وأوروبا، والاصطفاف مع القوى العالمية بشكل أفضل للرد على الحروب الكارثية في ليبيا واليمن، وتجنب الصراع غير الضروري مع الصين في المجالات والقضايا التي سيكون التعاون بشأنها أكثر منطقية. ويمكن أن يؤدي التخلي عن الافتراضات الثقافية والسياسية القديمة حول الشرق الأوسط والنظر إلى المنطقة ضمن سياق عالمي أوسع إلى تمكين الولايات المتحدة وحلفائها أخيرًا من العمل بجدية في مجال الدفاع عن حقوق الإنسان وتعزيز التغيير الديمقراطي الحقيقي هناك.
ببقائها عالقة في مفهوم قديم بالٍ للمنطقة، تخاطر واشنطن بقصور فهمها لسلوك ومصالح اللاعبين الرئيسيين في الشرق الأوسط؛ وسوء فهم تصرفات القوى العالمية الأخرى، مثل الصين، هناك؛ وكذلك المبالغة في تقدير الآثار التي ستترتب على انسحاب أميركي من المنطقة. بطبيعة الحال، سوف يكون من الصعب التفكير فيما وراء الشرق الأوسط: ثمة الخبرة المتراكمة، وأنماط التفكير المتكرسة بعمق، والهياكل البيروقراطية الراسخة، والتي تقف كلها في الطريق. لكن الديناميات المتغيرة للقوة العالمية والممارسات الإقليمية تعيد توجيه العديد من الدول البارزة في الشرق الأوسط بسرعة، ولم تعد الخريطة التي تتبعها هذه القوى هي خريطة واشنطن؛ لقد أصبحت لديها خرائطها الخاصة. والأمر الآن متروك لواشنطن لتتعلم قراءتها.

للاطلاع على نهاية الشرق الأوسط: كيف تشوه خريطة قديمة واقعًا جديدًا؟ (1 – 2) اضغط هناك

*مارك لينش Marc Lynch: أستاذ العلوم السياسية والشؤون الدولية بجامعة جورج واشنطن. عمل أستاذاً مساعداً للعلوم السياسية بجامعة ويليام، وهو متخصص في شؤون الشرق الأوسط، خاصة شؤون الإسلاميين والعراق وفلسطين، ومؤلف كتاب “أصوات الشعب العربي الجديد” من منشورات دار جامعة كولومبيا للنشر، صدر في كانون الأول (ديسمبر) 2005، بدأ التعرف على الوطن العربي مبكراً، وعاش فيه لثلاث سنوات في فترة بداية التسعينيات متنقلا بين عمان والقاهرة، وله رؤية تقوم على ضرورة دمج الإسلاميين في الحياة السياسية في المجتمعات العربية. حصل على درجة البكالوريوس في العلوم السياسية من جامعة ديوك، وحصل على درجتي الماجستير والدكتوراه في الحكومة من جامعة كورنيل. يقوم بتدريس دورات في سياسات الشرق الأوسط والعلاقات الدولية. وهو مدير مشروع العلوم السياسية في الشرق الأوسط، ومحرر مساهم في صفحة Monkey Cage للعلوم السياسية في صحيفة “الواشنطن بوست”، ويحرر سلسلة مطبوعات جامعة كولومبيا، دراسات كولومبيا حول سياسة الشرق الأوسط، وينشر لينش كتابته في مجلة السياسة الخارجية “فورين بوليسي”. وهو زميل أول غير مقيم في مؤسسة كارنيجي للسلام الدولي في للشرق الأوسط.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: The End of the Middle East: How an Old Map Distorts a New Reality

هامش المترجم:
(1) بوتات الإنترنت Internet Bot‏: تعرف أيضاً باسم روبوتات الويب أو روبوتات الشبكة العالمية أو ببساطة بوتات، وهي برامج تقوم بعمل مهام تلقائية على الإنترنت. وعادة تقوم البوتات بإجراء مهام بسيطة ومركبة بصورة متكررة، بمعدل أعلى مما يمكن أن يقوم به الإنسان وحده. الاستعمال الأكبر للبوتات هو فهرسة صفحات الإنترنت، حيث يقوم برنامج بجلب وتحليل المعلومات من خوادم الويب تلقائياً بسرعة أعلى من سرعة الحاسوب، كل خادم بالإمكان احتواؤه على ملف يسمى robots.txt، يحتوي على قواعد لفهرسة هذا الخادم وعلى البوت طاعتها، هذا الملف هو ببساطة نص يذكر القواعد التي تحكم سلوك البوت على ذلك الخادم. وبوتات الشبكات الاجتماعية عبارة عن مجموعات من الخوارزميات التي تتولى واجبات مجموعات التعليمات المتكررة من أجل إنشاء خدمة أو اتصال بين مستخدمي الشبكات الاجتماعية. تختلف التصميمات المختلفة لبوتات التتبع الشبكية من برامج الدردشة، والخوارزميات المصممة للتحاور مع مستخدم بشري، إلى البوتات الاجتماعية، الخوارزميات المصممة لتقليد السلوكيات البشرية للتحدث مع الأنماط السلوكية المشابهة لنمط المستخدم البشري. (ويكيبيديا)

 

مواضيع ذات صلة

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

أهم الأخبار

فتح ميديا أوروبا