الشهيدة غادة السباتين التائهة بين العيد والرصاص

بقلم: عيسى قراقع

جاء العيد ، لم تصل الام والارملة والشهيدة غادة السباتين الى ساحة المسجد الاقصى المبارك ، ولم ترجع الى اولادها الاطفال التسعة المنتظرين في باحة البيت في قرية حوسان الواقعة الى الغرب من مدينة بيت لحم ، كانت الشهيدة تتمنى احياء ليلة القدر في القدس وتعود الى ابنائها بوجبة مقدسية ملائكية على مائدة الافطار .
بتاريخ 10 نيسان وفي ذكرى مذبحة دير ياسين استشهدت الام غادة السباتين بعد ان اطلق جنود الاحتلال النار عليها اثناء عبورها قرب حاجز عسكري شرقي القرية ، تركت تنزف على الارض دون منقذ حتى الموت ، ابتهج المجرمون الاسرائليون لانهم اصطادوا امرأة كانت تائهة بين العيد والرصاص ، ارتعبت الطيور وابتعدت تبحث عن سيارة اسعاف أو عش امن في اقاصي الفضاء .

تسعة اطفال صغار يفتشون عن أمهم هنا أو هناك ، تحت السياج الفاصل وكاميرات المراقبة ، في الشوارع وبين حواجز الجنود ومكعبات الاسمنت ، قرية حوسان تحولت الى سجن محاصر بالجدران وبالطرق الالتفافية والبوابات الحديدية وبالمستوطنات ، صودرت اراضيها واقتلعت اشجارها ، زرعت حقولها بالالغام ، اولاد الشهيدة يفتشون عن امهم بين مستوطنة ( بيتار عيليت ) (وهدار بيتار ) وصلوا الشارع رقم 375 شارع الموت ، انهم تائهون في قريتهم التي قسمت بين مناطق ب وج ،  ما هذا الوطن الذي هندسوه على مقاس رصاصة دمدم متفجر تخترق جسد الشهيدة غادة السباتين ؟.

في 10 نيسان تاهت الشهيدة غادة السباتين ضعيفة النظر في شوارع بلدتها ، لم تستطع التمييز بين شوارع الموت وشوارع النجاة ، دخلت كمين الجنود على ذلك الحاجز العسكري ، رفعت يدها لتقول لهم انها تائهة ولا تحمل قنبلة او صاروخا ، خطواتها قادتها في طريق تعرفه منذ زمن بعيد ، عاداتها الاولى وغريزتها التاريخية اوصلتها الى هذا الطريق ، لا تطلقوا النار ، انا امرأة من حوسان أعرف حجارتها وصخورها وطبيعتها ،لست هنا بالخطأ انتم هنا بالخطأ ، افتحوا الطريق حتى لا اتعثر بكم ، لا تطلقوا النار ،انا ذاهبة لاحضار ربطة خبز وطعام للأولاد  ، لا تطلقوا النار .

جنود الاحتلال الذين صاروا هم المحكمة والقضاة والجلادون اتخذوا قرار اعدام الشهيدة غادة السباتين ، انهمر الرصاص على الام التائهة في شوارع بلدتها ، سقطت على الارض وفي فمها كلام لا يفهمه المجرمون ، الجنود لم يحتملوا وجود امرأة تسبقهم في التاريخ على هذه الارض ومنذ الاف القرون ، الجنود لا يطيقون ورد نيسان وخضرة اللوزيات في الربيع ، الارض دائما تفاجئهم لانها تشبهنا ولا تشبههم فيصابون بالهلع والجنون.

اعدام ميداني في النهار ، القتل لأجل القتل ، سياسة ممنهجة ومتواصلة وبدعم رسمي ودون ملاحقة او محاسبة ، الجنود الاسرائيليون وجدوا أن كل شيء ينقصهم أمام هذه المرأة واثقة الخطى ، وعندما سألوهم عن أسباب قتلها قالوا : هذه المرأة استطاعت أن تتسلل من فتحات نظام الابرتهايد والسيطرة وتتجاوز مشروع القدس الكبرى ، فككت الاغلال ومشت على صوت جدول الماء والعشب الطري ، وصلت بذاكرتها الى اخر عمرها ، وصلتنا .

جاء العيد وقد مر شهر رمضان شهر الشهداء والجنازات والمعتقلين ، شهر عانق الموت تماما وعانق الحياة من القدس حتى جنين ومن الخليل حتى النقب واللد والجليل ، وقد علمت القدس العالم ان الفلسطينيين هم أول الصلاة وأخر الصلاة ، وهم الوحيدون في الارض الذين يتوضأون بالماء والتراب والدماء والانتفاضات الغامرة .

جاء العيد عشرات الشهداء ومئات الجرحى والمصابين والمعتقلين والمشردين ، كان شهر رمضان هذا العام شهر القيامة الفلسطيني ، شهر القدس بامتياز ، لم يستطع المتطرف الارهابي ابن غافير ان يخترق بوابات القدس ، فشلت ما تسمى مسيرات الاعلام ، لم تذبح تلك القرابين في الساحات بل ذبحت غادة السباتين في قرية وادعة امنة لا تعرف حدودها الا من اصابع شهيد وشهيدة ، كانت غادة السباتين تبحث عن روحها في روحها حتى اكتمل النشيد .

جاء العيد ، لا تشهروا الاسلحة قالت غادة السباتين لهؤلاء الجنود المرتعبين ، ينتظرني اذان المغرب واولادي الصغار ، ولا بد من صلاة وصوم لنكسر الجوع والخوف والحديد ، لا بد من مؤذن وقارع اجراس وحجر ومقلاع ، لا بد من انقلاب على الموت بالموت أجمل ما يسطره شعب هذا المكان الجريح،لا بد من يحمل شعلة تضاء بكل هذا الدم ويشعل هذا الليل الثقيل ، ولا بد أن نقول شيئا يشبه السياسة أو انفجار البراكين في جنازات ابطالنا الخالدين ، فعندما يتساوى الموت مع الحياة فلنكن اندادا في الدنيا والاخرة .

الشهيدة غادة السباتين امرأة من روح السماء ، هي كل النساء ، ثلاثة ايام وربما اكثر قليلا للعزاء ، ثلاثة بيانات شجب واستنكار وربما أكثر قليلا حتى جف الدم وتفرق المشيعون ، كيف يكون العيد والقاتل يجلس تحت نافذة البيت ؟ ومتى يأتي خيميائي فلسطيني يصنع ذهب الحرية من شظايا الموت والاشلاء المتناثرة ؟

لنرتفع بالشهداء فوق هذا الروتين والعادات الحزينة ، لا تطبيع مع استمرار الموت والقتل والجريمة ، لنحشوا قلوبنا بالثأر والفعل لا بأوسمة الراحلين ، ولنكن قبليون قليلا حتى نلتم  في الخيمة تحت عباءة السيف بلا يأس او بنادق مكسورة ، ليقف الشيخ او القائد أو الطفل ليقول لنا بوضوح : أن الله سبحانه وتعالى علمنا أن نعد لهم ما استطعنا من قوة ومن وحدة ومن رباط الخيل وصهيل المبارزة .
الشهيدة غادة السباتين تنام في قبرها ، أين ننام نحن بعدها ؟ لنقرأ الرسالة حتى نفهم لماذا كل هذا الزيتون يقف حارسا في المقبرة ، ولنقرأ الرسالة ، الموتى يعودون ويخرجون الينا من كل جدار وزنزانة ، يذكروننا بكلامنا ويردون الزهور الينا ويسألون عن الاولاد وسلام العائلة ، الشهداء عادوا في صباح العيد واقتحموا علينا هذا النسيان وذلك الصمت الذي جعل السراب السياسي يعتقل جموح الرجال ويخمد الذاكرة .

الشهيدة غادة السباتين تنام في قبرها ولكننا ننام في الهشاشة والمكابرة ،نتقن الخطابات وتنظيم الجنازات والمسيرات والتقاط الصور ، كلنا تحت قبضة جلاد وحاخام وسجان ومستعمرة ، كلنا صحفيون ومحللون وناشطون ومفكرون ومبدعون في الفراغ وفي الضجيج ، ولكن متى تكون الحياة مقابل حياة ؟ جندي همجي انهى حياة امرأة تائهة ، ربما كان حمورابي الاكثر حكمة ووعيا في التاريخ عندما قال : السن بالسن والعين بالعين والبادئ اظلم ، كل ذلك من اجل التوازن والعدالة وضبط المعادلة.

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

فتح ميديا أوروبا
Exit mobile version