“التحريض” أداة القمع والترهيب الفضفاضة

تواصل قوات الاحتلال الإسرائيلي اعتقال الزميلة الصحفية في وكالة الأنباء والمعلومات الفلسطينية “وفا” رشا حرز الله، بعد أن تم استدعاؤها في الثاني من حزيران/ يونيو الجاري للتحقيق من قبل مخابرات الاحتلال في مركز توقيف بمستوطنة “أرائيل”.

ومددت محكمة الاحتلال العسكرية في “سالم”، اليوم الاثنين، اعتقال حرز الله، بأسبوعين إضافيين.

ويحاكم الاحتلال حرز الله بتهمة “التحريض”، إلى جانب 12 من الصحفيين من أصل 48 صحفياً تستمر قوات الاحتلال في اعتقالهم، من مجمل 80 جرى اعتقالهم منذ السابع من تشرين الأول / أكتوبر 2023.

وتقبع الزميلة رشا في سجن “الدامون” إلى جانب الصحفيات إخلاص صوالحة، ورولا حسنين، وبشرى الطويل، وأسماء هريش، وأمل شجاعية طالبة الصحافة في جامعة بيرزيت.

و”التحريض” وفق مؤسسات الأسرى ومحامين يترافعون عن المعتقلين في سجون الاحتلال، تهمة لا تستند إلى قواعد ومواد قانونية واضحة ومحددة، وهي قابلة للتطويع والتشكيل والتأويل، وقد أصبحت أداة تستخدمها سلطات الاحتلال في محاولة قمع الفلسطينيين، لا سيما الصحفيين، وكم أفواههم، تحت مظلة “إعلان الحرب” و”حالة الطوارئ” وما رافقهما من قوانين وقرارات انتقامية.

ويستهدف هذا الاتهام ناشطي مواقع التواصل الاجتماعي وإعلاميين ممن يعتقد الاحتلال أنهم قادرون على التأثير في الرأي العام، أو من المشاركين الفاعلين في الفعاليات التي تنظم في المدن والبلدات الفلسطينية، احتجاجاً على الجرائم التي تُقترف في قطاع غزة منذ أكثر من ثمانية أشهر.

وبحسب مؤسسة الضمير لرعاية الأسير وحقوق الإنسان، فإن اعتقال الناشطين على صفحات التواصل الاجتماعي وملاحقتهم بات نهجاً مقصوداً لدى الاحتلال، وأداة هدفها القمع وسلب حرية الرأي والتعبير، وتوليد شعور لدى الفلسطيني بأنه مراقب ومحاصر في جميع الأوقات.

وأصبحت القاعدة السائدة لدى سلطات الاحتلال أن المتهم مدان بـ”التحريض” حتى إثبات البراءة، بهدف ملاحقة الناشطين والصحفيين والطلبة، وكل من يجرؤ على التعبير عن رأيه، لفرض الترهيب والسيطرة على أفراد المجتمع الفلسطيني كافة.

وبالتالي ووفقاً لمؤسسة الضمير، فإن أي فلسطيني يمارس أبسط الحقوق كالتعبير عن الرأي، يقع ضمن قائمة استهداف قوات الاحتلال.

ويؤكد المحامي لبيب حبيب، أنه منذ بداية الحرب، لوحظ استخدام سياسي للوائح الاتهام في تهم ما يسمى بـ”التحريض”، كمحاولة لكمّ الأفواه وكسياسة انتقام شاملة من الفلسطينيين، دون تمييز نوعية النشر أو ظروف المعتقل.

ويقول إن الاتهام بـ”التحريض” يكتسب صيغاً فضفاضة جدا، ويسمح بتوجيه التهمة تقريبا إلى صاحب أي منشور يعلن فيه فقط تأييده للقضية الفلسطينية، ولغياب المعايير، فإن تقديم اللوائح يشكل ملاحقة سياسية وليس لها علاقة بالقانون الجنائي.

ويذكر أن “التحريض” لدى إسرائيل قانون فضفاض، يسمح باعتقال صاحب أي رأي أو رؤية يكتسبان صفة الوطنية. والإتيان على ذكر أي جانب من السردية الفلسطينية يمكن أن يصنف على أنه “تحريض”.

ويؤكد مدير الدائرة القانونية في هيئة شؤون الأسرى والمحررين المحامي جميل سعادة أن “التحريض” على وسائل التواصل الاجتماعي تهمة إسرائيلية يصعب تصنيف أو فرز ما يمكن أن يوضع تحتها من منشورات أو تعليقات.

وقال: “بالنسبة إلي كمحامٍ، لا أستطيع تمييز ما إذا كان المنشور يُعتبر محرضاً من وجهة نظر الاحتلال، ولكن الأرقام تكشف النوايا والمرامي، إذ أصبحت تهمة التحريض تبرر اعتقال عدد كبير من الفلسطينيين بعد 7 تشرين الأول / أكتوبر”.

وترى مديرة الإعلام والتوثيق في نادي الأسير أماني سراحنة، أن الاحتلال تعمّد ترك تعريف “التحريض” فضفاضاً، ليبرر بموجبه اعتقالات كانت تتم على خلفية أسباب يدفع بعضها إلى الاستهجان، كمشاركة منشور أو الإعجاب به، أو لمجرد أن تعثر سلطات الاحتلال على تطبيق على هاتف مواطن يجري توقيفه وتفتيشه عند أحد الحواجز.

وبذلك يمكن استنتاج أن سلطات الاحتلال تملك صلاحية لاعتقال الشعب الفلسطيني بأكمله على خلفية “التحريض”، بما يفسر حالة التراجع الملحوظ في النشر والتفاعل فلسطينياً مع ما يُرتكب من مجازر وجرائم في غزة، فضلا عن قيود الوصول والحجب التي تفرضها منصات التواصل الاجتماعي.

وذكرت سراحنة أن الاحتلال الإسرائيلي استهدف بشكل واسع الصحفيين والناشطين بهذه التهمة، إذ حاول تلفيق “التحريض” لهم عما ينشرونه على مواقع التواصل الاجتماعي أو عبر وسائل الإعلام التي يعملون لصالحها، ربما في محاولة للتأثير من خلالهم في غيرهم.

وأشارت إلى أن الأغلبية العظمى من الصحفيين يفشل الاحتلال في تلفيق تهمة “التحريض” لهم، إلا أن ذلك لا ينتهي بالإفراج عنهم، بل يحوّلون إلى الاعتقال الإداري تحت مسمى “ملف سري”.

ويؤكد المحامي لبيب حبيب أن محاكم الاحتلال العسكرية لم تعد تتصرف منذ بداية الحرب وفق قوانين وإجراءات، وقد تجردت من الحد الأدنى من المعايير القانونية التي كانت تتبعها رغم قلتها.

وأضاف: “الحرب أزالت كل الأقنعة عن المحاكم العسكرية، فباتت تنفذ سياسة انتقامية من الفلسطينيين تقريبا دون أي معايير “قانونية” ووسيلة تستخدمها نيابة الاحتلال لكمّ الأفواه عن الحديث وتكبيل الأيدي عن الكتابة.

ونوه المحامي لبيب إلى أن ذلك سبب تراكم عدد المعتقلين الفلسطينيين تحت هذا البند، فيما كثرت الملفات التي تقدم فيها لوائح اتهام فقط على “التحريض”، وباتت شريحة أسرى لا يُستهان بها، وجزء مهم من الملفات التي تُعرض أمام المحاكم العسكرية.

ولا تملك مؤسسات الأسرى إحصائية دقيقة حول من تم اعتقالهم والتحقيق معهم على خلفية “التحريض”، إلا أنها تقدر عددهم بالمئات من الضفة الغربية والقدس المحتلة.

ويشير نادي الأسير إلى أن معظم الحالات تفشل سلطات الاحتلال في إثبات هذه التهمة عليهم، وبالتالي لا تتمكن من تكوين لائحة اتهام بحقهم، فيجري تحويلهم إلى الاعتقال الإداري.

ويذكر المحامي جميل سعادة أن هيئة شؤون الأسرى والمحررين وحدها تابعت منذ بداية العدوان ما لا يقل عن ملفات 200 أسير وردت فيها تهمة التحريض منفردة أو مع تهم أخرى، مع الأخذ بعين الاعتبار أن هناك مؤسسات أخرى ومحامين خاصين يتابعون ملفات أسرى آخرين.

وتتهم مؤسسة الضمير لرعاية الأسير وحقوق الإنسان، دولة الاحتلال بأنها سخرت بعد السابع من تشرين الأول / أكتوبر الماضي، أذرعها السياسية والعسكرية لإجراء تعديلات واقتراح مشاريع قوانين لتكون أداة تنفيذية في يد قوات الاحتلال لتوسيع رقعة الاعتقالات.

وبموجب ذلك تم تعديل شروط الاعتقال وأماكنه، ليتسنى استيعاب أكبر عدد من الأسرى، حتى لو انطوى ذلك على انتهاكات جسيمة لحقوقهم الأساسية.

وبحسب الضمير، فإنه بموجب القانون العسكري الإسرائيلي، تطبق على الفلسطينيين إجراءات وسياسات مجحفة تمس بحقوقهم الدستورية، ومع ذلك تستخدمها دولة الاحتلال من خلال محاكمها لفرض أشد العقوبات عليهم من خلال الإجراءات، وفترة العقوبة على حد سواء.

ويبين المحامي لبيب حبيب، أن لجوء محاكم الاحتلال في الأشهر الأخيرة إلى إدراج ديباجة تشير إلى ما وقع في السابع من تشرين الأول / أكتوبر في مقدمة بعض لوائح الاتهام الموجهة إلى المتهمين بـ”التحريض” أو المنوي تحويلهم إلى الاعتقال الإداري التي تستخدمها محاكم الاحتلال منذ السابع من تشرين الأول / أكتوبر، والتي تشير إلى أن دولة الاحتلال في حالة حرب، وضعت لتشكل مسوغاً قانونياً يبرر حملة الاعتقالات الواسعة التي شنتها قوات الاحتلال منذ ذلك الحين والتي طالت نحو 9155 مواطناً ومواطنة.

وذكر أن هذه الديباجة تضع كل الإجراءات المرافقة لاعتقال الفلسطينيين تحت سياق الانتقام، وهي تكريس الخطاب الإسرائيلي ليكون الوحيد المفروض في المحاكم.

وتقول مديرة الإعلام والتوثيق في نادي الأسير أماني سراحنة، إن الديباجة الموحدة غير القانونية المستحدثة، تشرعن اعتقال أي فلسطيني لأسباب تتعلق بحالة الحرب التي أعلنتها دولة الاحتلال.

وأضافت أن هذا ينطبق على الاعتبارات التي يمكن أن تلجأ إليها نيابة الاحتلال أو تستحدثها أو تكيفها ضمن ملف الأسير في مساعي حصولها على الإدانة، وبالتالي إيقاع أكبر عقوبة ممكنة بحقه.

ويتوافق مع ذلك المحامي جميل سعادة، بقوله إن وضع الديباجة يأتي لأمرين، الأول تبرير الاعتقالات الواسعة باستخدام “قانون الطوارئ”، والثاني لكي تشكل وسيلة لمضاعفة الأحكام بحق المعتقلين.

ونوه إلى أن محاكم الاحتلال كانت تُصدر على الأسرى المتهمين بـ”التحريض” عبر وسائل التواصل الاجتماعي أحكاماً بالسجن تتراوح بين 6-8 أشهر، إضافة إلى غرامة مالية، أما الآن فهناك معتقلون تحت البند ذاته (سواء كتهمة مباشرة أو ضمن تهم أخرى) تطلب نيابة الاحتلال حكمهم بالحبس لـ20 شهراً.

وأكد أنه منذ السابع من تشرين الأول / أكتوبر لم يصدر حتى الآن في محاكم الاحتلال أي قرار حكم بحق أي أسير، إذ يعمل المحامون على دراسة الملفات بعناية ولو طال الأمد حتى لا يصدر بحق الأسرى أحكام مضاعفة مرة أو مرتين.

ولو نجح المحامي وأفلت الأسير من إثبات تهمة “التحريض” الموجهة إليه، سيكون بانتظاره الباب الدوار المعروف بالاعتقال الإداري.

وتتطرق سراحنة في هذا السياق إلى أن المحامين يواجهون تحديا كبيرا، إذ بالنسبة إليهم الاعتقال الإداري في حال فشل توجيه لائحة اتهام للمعتقل قد يكون أسوأ من اتهامه بـ”التحريض”.

وتقول إن دخول الفلسطيني إلى دوامة الاعتقال الإداري سيعني بقاءه مستهدفاً بقية حياته، ومهدداً بالاعتقال في أي وقت وتحت أي ذريعة، ودليل ذلك الأسير الصحفي نضال أبو عكر الذي استُهدف بالاعتقال الإداري منذ ثمانينيات القرن الماضي، وقضى ما مجموعه 18 عاماً في سجون الاحتلال، 14 عاماً منها كمعتقل إداري بلا تهمة ولا محاكمة.

وفا- رامي سمارة

مواضيع ذات صلة

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

أهم الأخبار

المكتب الإعلامي الفلسطيني في أوروبا