كرنفال سوتشي

بقلم: عبير بشير

حسابات الميدان السوري لم تتطابق مع حسابات السياسة لموسكو في مؤتمر سوتشي ،بعد تواضع نتائج المؤتمر، وعدم نجاحه في تكريس الرؤية الروسية للحل في سورية . وذلك بفعل تحول المؤتمر من معركة صامتة بين الولايات المتحدة،إلى معركة علنية.بعدما أدركت واشنطن متأخرة بأن روسيا تريد الاستفراد بحل الملف السوري على طريقتها ووفقا لرؤيتها ومصالحها،والتي تراعي فيها المصالح الإيرانية .فتدخلت الولايات المتحدة،وأجهضت المؤتمر الذي حاول الروس أن يجعلوه مرجعية للحل السياسي في سورية.

كان إصرار فلاديمير بوتين المريب،على مؤتمر سوتشي هو ما حفّز الإدارة الأمريكية قبيل المؤتمر،على حسم إستراتيجيتها بتوجّهات أكثر صرامة من تلك التي اتّبعتها إدارة باراك اوباما في الملف السوري، وهذا كان واضحا في الأهداف الذي حدّدها وزير الخارجية الأمريكي ريكس تيلرسون في خطابه في جامعة ستانفورد،حول موجبات مرحلة ما بعد داعش : وهي الحفاظ على وجود أمريكي مديد في شرق الفرات وفي بعض أجزاء من دير الزور وريف حلب الشمالي ،وتلازم مسار تقليص النفوذ الإيراني في سورية مع مسار إنهاء سلطة الأسد وعائلته.

وقف القيصر بوتين شخصيا، وراء انعقاد مؤتمر- شعوب سوريا-، سعيا منه لترجمة انتصاره العسكري في سورية، والذي توجه بزيارة القاعدة الروسية في حميم ولقائه الملتبس مع رأس النظام بشار الأسد،إلى انتصار سياسي مدوي متمثلا في عقد مؤتمر سوتشي.

ولذلك كرست موسكو أقصى طاقتها ونفوذها وأدواتها وقنواتها السياسية، من اجل إنجاح سوتشي وضمان البصمة الروسية للحل في الأزمة السورية..

لكن خيبة أمل من وزن ثقيل ، أصابت بوتين عشية عقد المؤتمر، بعدما تأكد أن الولايات المتحدة والدول الأوروبية، لن تشارك في سوتشي، الذي أراد أن يحوّله منصة دولية تعطي موسكو دوراً محورياً في سورية، وشكل ذلك ضربة قوية لمخططات موسكو في إلباس سوتشي شرعية أممية تقارب شرعية مؤتمر جنيف. وأضحت روسيا مقتنعة بأن هدفها الحقيقي وراء انعقاده قد تبخر. ولهذا قرر القيصر بوتين ألا يحضر شخصياً المؤتمر وكلف سيرغي لافروف بتمثيله.

وفي حين كان هناك إصرار روسي لجهة إعطاء أعداد الحضور السوري في المؤتمر رقما فلكيا ، عندما وجهت الدعوة إلى ألف وستمائة شخص . غير أن ما جرى على أرض الواقع هو أن أغلبية من حضروا هم من مؤيدي النظام وأزلامه ،ومن الهامشيين وغير المؤثرين الذي قيل أنهم يمثلوا الفعاليات المدنية والشعبية في سورية، والبعض الآخر من منصتي موسكو والقاهرة . في حين تغيب عن المؤتمر عشرات الفصائل المعارضة ، والهيئة العليا للمفاوضات، الجسد الرئيسي للمعارضة السياسية السورية ، كما قاطع الأكراد المؤتمر متهمين روسيا بالتواطؤ مع تركيا في هجومها على عفرين. مما جعل المؤتمر ينعقد دون روافع سياسية وتسبب ذلك في إضعافه وهشاشته ، وفي تحوله إلى مشهد كرنفالي ، أو إلى سوق الحميدية كما قال أحد المشاركين في المؤتمر.

وتحولت نتائج مؤتمر سوتشي على أرض الواقع إلى كابوس لموسكو، بعدما جل ما خرج به المؤتمر هو بيان ختامي أشار إلى وحدة الأراضي السورية ، وإلى أن الشعب السوري هو وحده من يقرر مستقبله عن طريق صندوق الاقتراع ،وتشكيل لجنة دستورية قوامها مائة وثمانية وستين عضوا من النظام والمعارضة، يكون مهامها إصلاح دستور سورية !! وحتى هذا لم يوافق عليه النظام السوري ، ولكن وعد بمناقشته .

وليس واضحا كيف تصوّرت موسكو منذ البداية، بأن ملف مثل الملف السوري ،وما يلفه من تعقيدات دموية طويله ، وتضارب مصالح ، وصراع نفوذ دولي شرس ، يمكن أن ينجح مؤتمر فضفاض يحضره ألف وستمائة شخص في فكفكة عقده ،والتوصل إلى الحد الأدنى من الحلول عبره.

وعشية مؤتمر سوتشي، حدث تطور لافت ، أقرب إلى ضربه على رأس موسكو ، تمثل في بروز محور جديد مقابل المحور الروسي، حيث تم استحداث مجموعة مصغرة،لمجموعة أصدقاء الشعب السوري،من خمس دول وهي الولايات المتحدة، وفرنسا،وبريطانيا،والسعودية،والأردن.

وخلال الاجتماع المغلق الذي حضره وزراء خارجية تلك الدول في باريس ، عمدوا على بلورة – ورقة للتوافقات- حول نقاط الحل للملف السوري ،وسلموها إلى المبعوث الأممي ستيفان دي ميستورا، كأفكار لتسهيل مفاوضات جنيف وتحسين أدائها. وشكل اللقاء الدولي قفزة نوعية باتجاه التدخل الإيجابي لتنفيذ القرارات الأممية ، بطريقة القفز حول المصطلحات الخلافية بين المعارضة والنظام بذكاء منها الفيدرالية ،وإلغاء النظام الرئاسي…، كما تجاوزت الورقة عقبة مصير الأسد، إلا أنها لم تسلم ببقائه بل تعتبره مشروطا .

وتضع الورقة الدولية ، في أولياتها وحدة الأراضي السورية ، والإصلاح الدستوري ،والذي تراه أساساً عملياً في الانتقال السياسي وليس العكس، وضمن ذلك تم التوافق على تقليص صلاحيات رئيس الجمهورية السورية في الدستور المقبل ، وتوزيعها على رئيس الحكومة والبرلمان، كما رسمت الورقة الحدود بين الرئيس ورئيس الوزراء ، حيث لا يتم تعيينه بموجب قرار الرئيس ، وإبطال حق الرئيس بإقالته. بالإضافة إلى سحب صلاحيات الرئيس فيما يتعلق بحل البرلمان. وهذا يعني عمليا، أن يتحول النظام الرئاسي إلى نظام برتوكولي،لحساب نظام برلماني لا مركزي.

كما تعتمد الورقة على رؤية الإتحاد الأوروبي، فيما يتعلق بشكل النظام البرلماني، الذي تقترح الورقة أن يكون مكونا من غرفتين ،إحداهما تختص بتمثيل كافة المحافظات – فيدرالية غير معلنة- ، ويرى المراقبون أن من بين العناصر الصارمة في بيان الورقة الخماسية، أن البلدان الموقعة عليها مستعدة للمساهمة في إعمار سوريا بشكل فعلي،عندما يتحقق الانتقال السياسي الجوهري والشامل عبر التفاوض بين الأطراف السورية المنخرطة بالصراع ، برعاية الأمم المتحدة،وعندما تتأسس بيئة حيادية آمنة تسمح بالانتقال السلمي،أي أنهم لن يقدموا مساعدات خاصة بإعادة الإعمار في مناطق نفوذ الأسد .

وتشكل بنود هذه الورقة مصدر قلق بالغ للنظام السوري وحلفائه،لان هذا يعني قلب مضمون وشكل الحكم في سوريا ، والذهاب إلى مرحلة انتقالية دستورية تتوافق مع رؤية سورية الجديدة .

وعلى كل حال فلا مؤتمر سوتشي ولا الورقة الخماسية ،أضافتا شيئا عندما تحدثتا عن وحدة الأراضي السورية ، وذلك

لأن الحديث عن سيادة سورية ووحدة أراضيها ،بات بلا معنى، ليس فقط في ظل التهجير والهندسة الديموغرافية التي تجري على الأرض، بل أيضاً بسبب تقاسم الكعكة السورية والأراضي السورية . فمنطقة الساحل السوري واللاذقية تحت السيطرة الروسية، والمنطقة الحدودية شمال غربي نهر الفرات تقع ضمن النفوذ التركي. وفي حين تشرف واشنطن على منطقة شرقي الفرات مع الفصائل الكردية ، بينما يسيطر النظام بدعم إيراني وميليشياته على المدن الكبرى، في حين أن لإسرائيل أيضا منطقة نفوذ وهي الجنوب السوري والجولان .

ولا غير المؤتمر ولا الورقة شيئا على أرض الواقع ، مع احتدام القتال والعنف ليحتل صدارة المشهد في سوريه على ما عداه، وتقدم القوات النظامية نحو طريق حلب- دمشق، وسيطرتها على نحو عشرين قرية بين أبو الضهور وسراقب ، وقصف النظام الشديد للغوطة الشرقية،والقتال الشرس الذي يدور في محيط عفرين ضمن عملية غصن الزيتون التركية.

مواضيع ذات صلة

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

أهم الأخبار

فتح ميديا أوروبا