الكيان الصهيوني والسياسة الأمريكية الجديدة … قراءة أخرى !!!

كان تحت هذا العنوان قد عقدت أمسيتنا الثقافية لمساء يوم الخميس 08/02/2018م، وقد تقدم الأخ حسني مشهور بورقة عمل للندوة وتبعها نقاش وحوار معمق، وهنا نقدمها مع بعض الإضافات وذلك لتعميم الفائدة.

قد يبدو غريبا أو نوعا من الفنتازيا السياسية ما سأقوله وأصل إليه من استنتاجات لما آلت إليه مجمل علاقة الكيان الصهيوني مع الدول المؤسسة والداعمة له ككيان وظيفي في منطقتنا العربية خصوصاً ، والشرق الأوسط عموما وفي إطار الصراع على مناطق النفوذ بين الدول الكبرى (الفائزون في الغزوات والحروب الكبرى).

هذه القراءة تمت على ضوء إعادة التمعن في المعطيات والنتائج لتطور السياسة الأمريكية الجديدة ، وما أفرزته الأحداث (أو المعارك) بالنسبة للكيان الصهيوني منذ حرب 1967 وحتى الآن .

سأبدأ بتوصيف الحال الراهن للولايات المتحدة الأمريكية منذ استلام إدارة دونالد ترامب وما جهرت به من سياسة معلنة ضد الصين وروسيا كمهددين للحضارة الغربية ونستطيع القول أنها على النحو التالي :
ــ إدارة ترامب لم تكتفي بعدم تخليها عن استراتيجية تغيير الاتجاه (الصين وروسيا هما التهديد لحضارتهم)، أو العمل بها من وراء واجهات أخرى كما فعلت إدارة أوباما حين عملت وراء واجهة الإسلام السياسي … وعلى العكس أعلنت التمسك بها وجهرت بتقديم نفسها كواجهة مباشرة للاستمرار فيها والتصدي للصين وروسيا … وهذا السلوك سيولد ردود أفعال بإجراءات معاكسة من هاتين القوتين كما سبق أن ذكرنا في أمسية سابقة .

ــ إدارة ترامب وتحت شعار أميركا أولاً أعلنت التخلي عن اتفاقات التجارة الحرة مع شرق أسيا (دول الباسيفيكي) ، ومع كندا والمكسيك وما سيترتب على ذلك من المتاعب المتبادلة ، وصعوبة التجييش لبعض حلفائها من هذه الدول عند الحروب المباشرة أو بالوكالة .

ــ إدارة ترامب أعلنت موقفا وسلوكاً ابتزازيا لحلفائها الأوروبيين في حلف الناتو لتفرض عليهم تحمل أعباء كبيرة في نفقات الحلف ، إضافة إلى ابتزازها لمجاراة أمريكا في فرض العقوبات الاقتصادية على روسيا ، وتشجيع بريطانيا على الخروج من الاتحاد الأوروبي ، والتهديد بالحماية الجمركية ، وهذا أيضاً سيترتب عليه متاعب متبادلة تؤثر على التناغم بين دول الحلف عند التجييش .
ــ أعلنت التخلي عن اتفاقات المناخ التي عملت أوروبا كثيرا عليها مما يزيد من متاعبها مع أوروبا ، ومع إفريقيا التي كانت ستتلقى المزيد من المعونات المترتبة عليها.

ــ إدارة ترامب أعلنت موقفا سلبيا مع المهاجرين من أمريكا الجنوبية عموما والمكسيكيين خصوصا إضافة إلى نيتها في بناء سور على حدودها مع المكسيك وما يثيره ذلك من متاعب على حدودها الجنوبية ، ومتاعب التجييش من مواطني هذه الدول .

ــ إدارة ترامب برفعها لحدة التوتر مع كوريا الشمالية ، وابتزاز اليابان وكوريا الجنوبية لرفع نفقات التسليح والحماية وما يتركه من توتر لعلاقات هاتين الدولتين مع جيرانها الصينيين والروس رفعت من توتر علاقتها بهاتين الدولتين (اليابان وكوريا الجنوبية) مع ما يتركه هذا التوتر من متاعب عند الرغبة في التجييش منهما.

ــ إدارة ترامب ما أعلنته من مواقف وإجراءات تجاه الباكستان أثار التوتر والاتهامات الحادة مع واحدة من أهم حلفائها في وسط المحيط الهندي ووسط أسيا وإذا استمر هذا الوضع فسيصبح الموقف الأمريكي وقوات الناتو في غاية الصعوبة في أفغانستان خصوصا ووسط أسيا عموما لفقد التواصل البري مع قواعدهم هناك ، إضافة إلى اتفاقات المشاريع الكبيرة التي وقعتها الباكستان مع الصين وجاري تنفيذها وما سيتركه من متاعب عند الرغبة في التجييش من هناك .

ــ إدارة ترامب بموقفها مع أكراد سوريا والعراق وإيران عموما وتركيا خصوصا أثار توترا حادا مع تركيا ( أكبر جيوش حلف الناتو) التي تخشى من قيام دولة كردية تهدد في الصميم وحدة الأراضي التركية ، إضافة إلى قيام تركيا بعقد صفقات تسليح مع روسيا، وهذا أيضا يزيد من المتاعب في استخدام القواعد الأمريكية ، والرغبة في التجييش .

ــ إدارة ترامب بموقفها من القضية الفلسطينية والقدس خلق توترات كبيرة في علاقاتها بدول المنطقة ، إضافة إلى قيام بعض هذه الدول بعقد صفقات تجارية وتسليح كبيرة مع روسيا والصين مما يزيد من المتاعب عند الرغبة في التجييش من دول المنطقة .

ــ إدارة ترامب عندما ترفع شعار أمريكا أولاً وتعيد بعض الشركات الأمريكية العاملة في الخارج كما يجري الآن فإنها ستحقق بعض الانجازات التي ترضي جمهورها … ولكنه أنجاز مؤقت يلبي حاجة السوق الأمريكي لفترة ولا يلبث أن يتراجع بعدها لعدم قدرته على المنافسة في الأسواق العالمية نتيجة ارتفاع كلفة الأيدي العاملة وبالتالي كلفة الإنتاج خصوصا أمام الصين والهند والبرازيل.

ــ في هذا الواقع لا نجد ما تستطيع أمريكا أن تركن إليه في مواجهة روسيا والصين سوى نفسها وفي ثلاث جوانب بالتحديد هي : منتجات السلاح ــ منتجات البحث العلمي (حقوق الملكية الفكرية) ــ التحكم في حركة الأموال ( نظامها المصرفي) . وبالنسية للجانبين الأول والثاني فالدول ذات الإمكانات المتواضعة والمتوسطة تستطيع أن تتكيف مع منتجات أقل جودة وكفاءة لدرجة معقولة مما توفره الأسواق البديلة ، وبالنسية للتحكم في النظام المصرفي فنحن نلاحظ أن الصين منذ فترة وهي تعمل على نظام بديل يقوم على التبادل بالعملات المحلية بينها وبين بعض الدول (دول مجموعة بريكس ومنظمة شنغهاي وبعض الدول الأخرى) .

وهنا نستطيع القول أنه في غياب الرغبة أو القدرة على القيام بالحرب الشاملة فإن رهانات هذه الإدارة ستؤول إلى الفشل وسينحسر دور وتأثير القوة الأمريكية في العالم بعكس ما تخطط له إدارة ترامب … وسينعكس انحسار هذا الدور والتأثير على البعض من حلفائه بما فيهم الكيان الصهيوني ، وربما غياب بعض هؤلاء الحلفاء .

والآن في ظل هذا الواقع للإدارة الأمريكية بالسياسة التي تتبناها دعونا نتمعن في واقع الكيان الصهيوني ككيان وظيفي لمؤسسيه وداعميه وما آل إليه هذا الكيان منذ حرب 1967 وما تلاها من تعثر لمحاولات نقل حضانته ودمجه في دول المنطقة (مشروع الشرق الاوسط الجديد أو الكبير) ، ومن المعارك والأحداث التالية :

ــ حرب حزيران / يونيو 1967 : وصل هذا الكيان ذروة الأداء للوظيفة ومساعدة الغرب في التخلص الغرب من مشروع جمال عبدالناصر العروبي والتحرري ، وتعمق الشعور الغربي بصحة رؤية المؤسسين له وبكفاءته وجدوى الإسراف في دعمه .

ــ حرب اكتوبر/ تشرين 1973، ورغم الهزة العسكرية الكبيرة التي تعرض لها إلا أنه بفعل التدخلات العسكرية والسياسية الغربية وضعف إرادة المواجهة لدى أنظمة المنطقة احتفظ بقدرته على الحركة والتأثير ولكن بكفاءة أقل عن 1967 .

ــ غزو لبنان وذروته في معركة المتحف 1982 ، ورغم تحركه خارج حدوده بغطاء وافر من الدعم بالإمكانيات إلا أنه تعرض لخسائر واستنزاف من قوى صغيرة بإمكانات محدودة فرضت عليه أن يتراجع فاقدا لجزء من قدرته على الردع .

ــ الانتفاضتين الأولى والثانية ، ورغم ضخامة الإمكانيات والدعم الذي توفر لهذا الكيان إلا أن أطفال وشباب فلسطين كسروا هيبته وقيّدوا قدرته على الردع وعلى الحركة خارج حدوده ،

ــ غزو العراق 2003 ولجم الدور المباشر للكيان الصهيوني ، فرغم وصول الصواريخ العراقية إلى مناطق عديدة من فلسطين المحتلة وجدناه مضطرا لعدم الحركة والرد ولو بالحد الأدنى الذي يشعر المستوطنين بدرجة من الثقة في فدرة جيشهم على حمايتهم ليتعزز الشعور بالتبعية وعدم الثقة بصدق المؤسسين والداعمين .

ــ العدوان على لبنان 2006 ، وكان أهم نتائجها ورغم كل ما تلقاه جيش الاحتلال من الدعم المادي والسياسي أن تعزز شعور المستوطنين والداعمين بعدم إمكانية النجاح لجيش هذا الكيان من الخروج خارج حدوده ليقوم بأية مهام تقتضي التواجد على أرض الغير نيابة عن الداعمين .

ــ الخروج من العراق والتحول إلى استراتيجية تغيير الاتجاه 2008 ، وكان من ضرورات السير بهذه الاستراتيجية أن يتم تهدئة المنطقة ونقل حضانة الكيان الصهيوني إليها ودمجه مع دولها لتكون منطقة إمداد مستقرة خلفية تضمت توفر الدعم ولإسناد للخطوط الأمامية التي ستنتقل إلى حدود الصين وروسيا شرقا ، وهذا يعني غياب هذا الكيان عن خطوط التماس وتحويله إلى قاعدة خلفية شأنها شأن القواعد الخلفية الأخرى ، وهذا يعني تخفيض للوظيفة وبالتاي تخفيض في الاهتمام والدعم عما كان سابفا وهذا من شأنه أن يهدد مشروعية الاستمرار بالوجود ، وهذا الإحساس دفع القيادات الصهيونية بالتحالف مع غلاة المتطرفين من الأنجلوساكسون والإنجليكان الصهاينة لتسريع القيام بعمل معاكس كان يتم الإعداد له بطرق هادئة (تغيير الأنظمة وترسيم قيادات يجري إعدادها تتولى إدارة شؤون المنطقة) وقاموا بتفجير ما سموه بالربيع العربي ليقود الاستراتيجية والمشروع بالكامل إلى التعثر الذي نراه الآن ويحدث معهم كما حدث في حرب 2006 التي قاموا بها قبل موعدها وعدم استكمال التجهيز لها ففشلت … ورغم معرفة معظم الساسة الغربيين عموما والأمريكيين خصوصاً بأن هذا يحبط خططهم إلا أنهم اضطروا ولاعتبارات تخصهم لمسايرة ذلك ، ولكنهم لن يغفروا للكيان الصهيوني ذلك … وليس غريبا أن نرى انخفاض التأييد لهذا الكيان بين الديمقراطيين إلى 30 % وبين الجمهوريين إلى 90% كما أظهره آخر الاستطلاعات .

ــ العدوان على غزة 2012 / 2014 ، وما ظهر من نتائجهما بأن جيش هذا الكيان ليس قادرا على تخطي الحدود … بل أصبح يخاف من تخطيها ولم تحقق هذه الحروب أهدافه الإستراتيجية في فصل قطاع غزة عن فلسطين وقذفه في وجه جمهورية مصر العربية، وأن سمعته تتردى نتيجة ما ارتكبه من الجرائم بحق المدنيين والمنشآت المدنية . وهنا أود الإشارة إلى أن ما نسمعه كل يوم من التهديدات المتبادلة شمالاً وجنوباً بشن الحرب ليست أكثر من جعجعات تخفي حقيقة التبادل لرسائل التطمين المتبادل بعدم الرغبة في شن هذه الحرب ، ولو كان أي من الأطراف له القدرة والرغبة على شنها فلن يتأخر عنها دقيقة .
بقي ملاحظات يتوجب الانتباه لها وهي :

ــ تعثر مشروع أوباما في تغيير الاتجاه بالإسلام السياسي ، وإدراك الديمقراطيين بأن السلوك السلبي للكيان الصهيوني بما سمّوه الربيع العربي كان أحد الأسباب في هذا التعثر .

ــ تجديد عقد الدعم السنوي لعشر سنوات ورفع قيمته إلى السنوية 8 ، 3 مليار سنويا بدلاً كم 2 ، 3 مليار ، وتزويد الكيان بطائرات إف 22، وإف 35 حتى قبل اكتمال نزويد الجيش الأمريكي بها ن وتعزيز قدراته الصناعية توطئة لدفعة لحماية نفسه وعدم الاعتماد على مواصلة دعمه كما كان سابقاً .

ــ تنامي الاهتمام والدعم الأمريكي لكردستان وأفغانستان ، وما يثيره من قلق في الكيان الصهيوني على وظيفته المؤسسة لشرعية وجوده واستمراره .

ــ زيادة الاتساع لانتشار الرواية الفلسطينية وما يتركه من آثار على سلوك الكثير من السياسين الغربيين .

ــ لم تكن زيادة تكاليف دعم الكيان الصهيوني مسألة ذات اهتمام قبل غزو العراق ، ولكنها أصبحت موضع همس تساؤل واستنكار بعد ذلك كما نراه اليوم بين كثير من الأوساط الغربية عموما .

ــ الأمريكان لم يتخلوا عن استراتيجية تغيير الاتجاه … ولكنهم تخلوا عن أدواتها من الديمقراطيين وراء واجهة الإسلام السياسي … وانتقلوا للاستمرار بها بواسطة الجمهوريين مباشرة بعد أن فشلوا في إيجاد الواجهة البديلة للإسلام السياسي (استبدال الوكيل بالأصيل) .

في هذا التوصيف وهذه الملاحظات هل من يعتقد بأن الأمريكان سيصرون على الاستمرار في الدعم المطلق وبهذه التكاليف الباهظة ماديا وأخلاقياً للكيان الصهيوني كما نراه اليوم ، وفي زمن هم بحاجة لنا عرباً ومسلمين حطبا لهم فى مواجهاتهم مع روسيا والصين ؟؟؟، وفي وقت وصلت فيه ديونهم إلى ما نسمع عنه … خصوصاً أن من يتولى الترويج لهذا الدعم هذه الأيام إنما يقومون به من وازع ديني خلاصته عقيدة الرجعة … وأنهم يريدون تجميع اليهود انتظاراً لرجعة المسيح ليدخلهم في المسيحية ويقتل الرافضين منهم كي يستتب العدل !!!

وهل نستطيع تصليب وحدتنا الوطنية لإدامة وتوسيع مساحات الاشتباك مع قوات هذا الكيان لاستنزافها وإنهاكها وفرض المزيد من العزلة الدولية عليه وتسريع تفكيكه ؟؟؟

وهل هناك إمكانية مستقبلية لتخلي مؤسسي هذا المشروع عنه وهم يرون أعباءه تتزايد عليهم بدون مردود ؟؟؟

أعتقد واثقا أن كلاهما ممكن ولو بدا أنه يحتاج لزمن … كما اعتقد واثقا بحتمية انتصارنا ووصولنا إلى أهدافنا التي أقسمنا على الوصول إليها ، وتعاهدنا على الوفاء لمن سبقونا شهداء وأسرى وجرحى ومشردين من أجلها …

بناء على ما سلف فإن هذه السياسات الأمريكية التي تسعى لإدامة الصراع العربي الإسرائيلي في شقه الرئيسي من خلال الإنحياز والتبني لوجهة نظر اليمين الحاكم في الكيان الصهيوني، في محاولة منها لإدامة وظيفته وترميمها في المنطقة، فإنها أدخلته في أزمة وجودية بات الكثيرين من الكتاب والمفكرين الصهاينة المتنورين يدركون أبعادها الخطرة والإستراتيجية على مستقبل الكيان (كدولة يهودية وديمقراطية وعادلة) حيث تأخذه هذه السياسات والمواقف إلى (دولة لا يهودية وعنصرية وتوسعية) لن يقبل بها العالم كما ترفضها المنطقة العربية رفضاً مطلقاً وهذا يفتح الباب على مصراعيه امام بعض القوى الدولية لإنقاذ هذا الكيان من هذه السياسات والسعي الدولي لفرض حل الدولتين والفصل بين الشعب الفلسطيني ودولة الكيان، على أساس إقامة الدولة الفلسطينية على حدود الرابع من حزيران وهو الحل الذي لازال الفلسطينيين والعرب وكافة دول العالم تلتزم به، بغير ذلك فإن الدولة الواحدة التي ستكون مقبولة عالمياً ومحلياً هي الدولة الديمقراطية الواحدة على كامل تراب فلسطين، والتي تقوم على أساس المساواة في المواطنة والمساواة أمام القانون وعودة اللاجئين الفلسطينيين إلى مدنهم وقراهم، وهنا يفقد الكيان الصهيوني وظيفته نهائياً وينتهي المشروع العدواني التسلطي التوسعي الصهيوني، وهو الحل الذي سيتجه إليه هذا الصراع آجلاً أم عاجلاً، ويبقى نموذج جنوب إفريقيا العنصرية وما واجهه من حل ديمقراطي على أساس المساواة في المواطنة بين البيض والسود ماثلاً للعيان للتطبيق ثانية في فلسطين المحتلة.

أ. حسني مشهور
د. عبد الرحيم جاموس

مواضيع ذات صلة

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

أهم الأخبار

فتح ميديا أوروبا