الوصية..

زهران معالي

“تمسك بأرضك وحافظ على عرضك ودينك كي تصبح رجلا”، آخر وصايا خلف سالم بني عودة لطفله أحمد ذي التسعة أعوام، قبل وفاته بيوم واحد، في شهر أوكتوبر عام 1947.

شروط ثلاث، حملها الطفل أحمد وجاب بها قريته طمون شرق طوباس، يسأل كبار السن عن معناها، إلى أن اهتدى بأن “الموت أفضل على المرء من ترك أرضه وصون عرضه ودينه”، فحمل رغيف عيشه وغطاءه، واستقر في خربة مكحول بالأغوار الشمالية شرق الضفة الغربية، منذ أكثر من 50 عاما.

تاريخ ولادة أحمد خلف بني عودة غير معروف، وإنما قُدر على بطاقة هويته الشخصية أنه ولد في عام 1939، في بلدة طمون، وجعل الأغوار مذ كان عمره عشر سنوات مستقرا له، يرعى أغنامه ويحرث أرضه ويزرع محصوله، حتى بات أحد أعلامها.

“من أريحا حتى بيسان، أسال عن أبو خلف”.. يقول بني عودة بفخر.

يشكل شهر أيلول/ سبتمر عام 1945، شهر السعادة لأحمد؛ كونه الشهر الذي رافقته فيه والدته لإيصاله لمدرسته في صفه الأول قبل أن يفقدها في 10 أوكتوبر من العام ذاته، ويلحق بها والده بعد عامين، تاركين طفلا يتيما حمل “الوصية” صغيرا.

يقول بني عودة: “وأنا ابن 10 سنوات أرعى الغنم وأحمل خبزي والفرشة والغطاء طوال الصيف وأذهب باتجاه نهر الأردن وأجوب المنطقة، خربة مكحول وخربة مسعود والمالح…”.

وارتبط بني عودة عام 1958 بزوجته نجية، وأنجبا أول أبنائهما عام 1960 وأسمياه خلف تيمنا باسم والده، ثم أنجبا ثلاثة أولاد وابنة، عاشوا جميعا في داخل خيمة في الخربة التي كان يقطنها ذلك الوقت قرابة أكثر من 160 عائلة، وفق ما يوضح أبو خلف.

ويضيف أن أبناءه استقروا حتى عام 1995 في الخربة ثم انتقلوا للعيش في بلدتهم طمون نتيجة اعتداءات الاحتلال الإسرائيلي والمستوطنين المتكررة، وبقي برفقة زوجته يعيشان في المنطقة يربيان الأغنام ويصنعان الزبدة والجبنة سويا.

لكن ذلك الحال تغير قبل أربع سنوات، حيث يمضي أبو خلف وفق قوله الليالي وحيدا بعد أن دب المرض في زوجته التي تعود للخربة في فصل الربيع كل عام، في موسم عمل الجبنة.

ويقول أبو خلف لمراسل “وفا”، وهو يحفر قنوات لمياه الأمطار لحماية خيمته وحظيرة أغنامه، إنه عانى ويلات الاحتلال والاستيطان كثيرا، وشهد عشرات عمليات الهدم لمساكن الخربة، وعاصر طرد العائلات منها.

ويؤكد بني عودة الثمانيني، أن 160 عائلة كانت تعيش قبل عام 1967 في الخربة، إلا أن العدد تراجع لـ60 عام 1968، و25 عائلة عام 1970، وظل عدد العائلات يتناقص حتى 10 عائلات تحدت الصعاب للبقاء فيها، إلا أن إجراءات الاحتلال وتدمير الخربة عام 2013، أدى لهجرة الأهالي وبقاء خمس عائلات فقط.

ويقول أبو خلف لم تتغير الأرض بقيت مكانها لكن تركها أصحابها خوفا على أروحاهم من إرهاب الجيش والمستوطنين، وتحيط معسكرات الجيش والمستوطنات الخربة من الجهات الأربع.

ولأبو خلف مسيرة طويلة من النضال مع جيش الاحتلال والمستوطنين، بدأت بعد احتلال الضفة الغربية عام 1967، وأصيب بثلاثة رصاصات بيده وقدمه أثناء دفاعه عن أغنامه بعد مهاجمة قوات الجيش لها، ما أدى لنفوق 12 رأس من أغنامه.

ويتابع: “أملك اليوم 50 رأس غنم، عانيت كثيرا مع الاحتلال ..بالطيارة طخوا على أغنامي وبالسيارة دهسوا اغنامي، رصاصهم بيدي وقدمي، أرادوا تهجيري وترحيلي لكن أنا هنا باقٍ”.

ويشير أبو خلف بيده إلى خيام الخربة وأخرى نصبها البدو بمناطق قريبة، ويؤكد أنه لولا تلك الخيام المنتشرة في المنطقة لكانت مليئة بالمستوطنات ومعسكرات الجيش.

في السادسة صباحا، اعتاد أبو خلف الاستيقاظ يوميا، يتناول كأسا من الشاي والفطور، ثم يعلف أغنامه مما جناه من موسم الحصاد الماضي، ويخرجها للرعي ساعتين إلى مناطق لا تبعد عن سكناه كثرا نظرا لكبر سنه.

يقول أبو خلف وهو يقلب صناديق أدوية يتناول منها يوميا: “اشتري طعامي من طوباس أو جنين أو نابلس، وأتناول أغلب الطعام مسلوقا بعد أن تساقطت أسناني”.

ويلخص أبو خلف ظروف العيش في الخربة بأنها صعبة، ويقول: أنبوب مياه ضخم يسير فوق بطني وأبراج ضغط عالي للكهرباء فوق رأسي تمتد لمعسكر “ام زوقه”، فيما أنا أعيش بلا مياه أو كهرباء”، ويشير إلى أن حياتهم دائما تحت احتمالات صعبة بلا مياه أو كهرباء أو ما يحميهم من الغمر شتاء ومن حرارة الشمس الغورية صيفا، ومن تهديد الاحتلال بهدم الخربة بأية لحظة.

وكما نفذ وصية والده، يطالب أبو خلف أبناءه بتنفيذ وصيته بأن يدفن في خربة مكحول، وأشار لمغارة فوق خيمته أسفل تلة يجثم عليها معسكر “أم زوقه”، قائلا: “وصيت أن أدفن فيها، لا يمكن أن اترك المنطقة ما دام فيّ حياة، أنا سأبقى صامدا وأكافح”.

ويحتفظ أبو خلف بكفنه الأبيض في خيمته منذ 25 عاما وفق قوله، وأوصى أولاده وأحفاده أن يكفن به بعد موته، ليدفن في الخربة التي صان وصية أبيه تجاهها.

مواضيع ذات صلة

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

أهم الأخبار

فتح ميديا أوروبا