أن تكون عنصريًا ضدي لأنني فلسطيني

بقلم: حسن العاصي*

الاستعارة من الجانب المظلم للذاكرة الفلسطينية، تُظهر أنها ليست المرة الأولى، التي يجري فيها توجيه الإساءة القصدية للشعب الفلسطيني من جهات لبنانية. في العام 1992 صدرت تصريحات عنصرية من النائب نقولا فتوش وصف فيها المبعدين الفلسطينيين أنهم “نفايات سامة”. واليوم تظل علينا جريدة “الجمهورية” الكتائبية برسم يشبه الإنسان الفلسطيني في لبنان بكوفيته، بفيروس كورونا، وكلاهما بلاء أصاب لبنان في عامي 1975 و-2020 على التوالي. وبين هذا وذاك العديد من مظاهر العنصرية ضد الفلسطينيين، يمكن لأي متتبّع للوضع اللبناني أن يرصدها. ليس أقبحها مقطع الفيديو لثلاث شقيقات لبنانيات، تعترف أحداهن وتصرح أنها تحب شاب لديه مواصفات رائعة، لكن عيبه الوحيد أنه فلسطيني (!)؛ هذه العنصرية دفعت يومًا المرحوم شفيق الحوت لأن يقول “يحبون فلسطين، ويكرهون الفلسطينيين”. فما هي الصورة التي يريد الشعبويون اليمينيون العنصريون الجدد في لبنان، أن يكون عليها؟

الخطاب العنصري البغيض من قبل جهات لبنانية ضد فلسطين والفلسطينيين متشعب. ويبدو أنه أصبح من ضرورات الحياة السياسية والحزبية اللبنانية للبعض. حين يبرز الخلاف بين الفرقاء هناك فلا بد من أن يتم استحضار الموضوع الفلسطيني وتشعّبات وجود المخيمات على الأراضي اللبنانية. صار هذا الأمر من لزوم المتاجرة بالشعارات، وسلعة حاضرة في سوق المزايدات السياسية والوطنية. إن العنصرية التي مورست على الفلسطيني بشكل خاص في لبنان أكبر من أن يتم استيعابها في مقال كهذا.

في المشهد العربي، يتواصل مسلسل استغلال القضية الفلسطينية، من قبل معظم الأنظمة العربية، لا يكاد يمر يوم من دون أن نسمع تصريحًا أو خطابًا لقائد عربي هنا، أو زعيم سياسي هناك، يؤكد خلاله على عدالة القضية الفلسطينية، والمظلومية التي وقعت على الشعب الفلسطيني المضطهد، وأن إسرائيل التي تحاصر المسجد الأقصى، وتعمل على تهويد مدينة القدس هي العدو الأول للعرب الذين لا يدّخرون جهدًا ولا مالًا لنصرة ودعم هذه القضية.
لكننا جميعًا نعلم أن هذه الشعارات يتم استخدامها من قبل معظم الأنظمة العربية لدغدغة مشاعر شعوبها. إذ تم توظيف القضية الفلسطينية لتنال تلك الأنظمة الشرعية من شعوبها تارة، ولقمعها وتجويعها تارة أخرى بذريعة الاستعداد لمعركة تحرير فلسطين. تم استخدام القضية لتحقيق مكاسب سياسية وانتخابية من قبل بعض الأحزاب العربية، بل حتى لجني ثروات من قبل بعض تجار الفن الذين استخدموا رمزية القضية الفلسطينية لتسويق أعمالهم وانتشارها. لكن لا العرب حاربوا، ولا فلسطين عادت لأهلها، ولا الدول العربية تطورت وتقدمت وأنجزت، ولا الشعوب العربية استعادت حريتها وإنسانيتها من الأنظمة الاستبدادية.

الراهن العربي الكسيح

لكن هل الراهن العربي في الواقع قابل لنصرة الشعب الفلسطيني وقضيته الوطنية؟
الإجابة: قطعًا لا، فالجسد العربي في حالة من الموت السريري، قلب العرب مريض ومرهق، ورأسه مصاب بالهرم، وأطرافه مشلولة.
إن قضية العرب الأولى- فلسطين- تحتاج إلى أمة حرة قادرة على التعبير وتقديم الدعم، تحتاج إلى أمة لا تلهث غالبيتها خلف رغيف الخبز، أمة قادرة أن تختار مستقبلها، أمة لا يقرر مصيرها حزب واحد ولا عشيرة واحدة ولا زعيم واحد.
تحرير فلسطين يحتاج إلى جسد عربي معافى ومتحرر من الخوف والقمع والفساد والمرض والفقر والأمية ومن المحسوبيات والرشوة والشللية؛ جسد يتمتع بحرية الحركة والانتقال، يؤمن بالديمقراطية إيمانًا حقيقيًا، ويمارس تداول السلطة، ولا يعتقل معارضيه.
لقد جعلت معظم الأنظمة العربية من القضية الفلسطينية مطية لتحقيق مآربها الخاصة، وجرى استخدام القضية في الخطابات الديماغوغية التي تتشدق بها بعض النظم العربية بهدف استمالة الشعوب العربية والإسلامية إلى جانبها، بل إن بعض الدول العربية تحارب دولًا عربية أخرى بسيف القضية الفلسطينية التي أصبحت مادة للمزايدات بين أطراف عربية كثيرة.

وبما أن موضوعي اليوم هو هذا المستوى من الانحدار والسقوط الأخلاقي والفكري في مستوى القيم والمُثل لليمين المتطرف في لبنان الذي أظهر وجهًا بشعًا، وفاض بقذارته. سوف أحاول مساعدته في التقرب من الكائن الفلسطيني الذي يجهله.

ماذا يعني أن أكون فلسطينيًا

أيها العنصري البغيض: أن أكون فلسطينيًا يعني أن أعشق وطنًا أعرف اسمه ولم أراه. أن أكبر وأنا لا أعلم أين سوف أكون غدًا، لأنني ممنوع من الاستقرار ومن التفكير في المستقبل، وعليّ أن أحارب نيابة عن أمة الضاد، لأني القومي العربي الأول. وأن أحارب نيابة عن جميع المسلمين، فأنا حامي الأقصى الشريف وهو تكليف خصّني به رب العزة. ثم يجب أن أقاتل نيابة عن جمع الأحرار والشرفاء في العالم، فأنا الأخ والرفيق والمناضل الأممي الأول ضد الإمبريالية العالمية، وضد الاستعمار وضد العولمة.

ثم أجدهم يشيدون بي في الخطابات والمهرجات والمؤتمرات والقاعات المغلقة، ويكيلون لي المديح وينظمون قوافي الشعر في وصفي، لكنني يا حسرة حافي القدمين، فأنا الضحية الأولى في كل الأزمات.

أن أكون فلسطينيًا يعني أن أرضع من ثدي أمي مع حليبها الإحساس بالقهر والظلم، وأن أرضع كذلك التحدي والرجولة والإصرار، ومفردات السياسة ومصطلحات الفلسفة وأسماء الأسلحة.

وحين أصبح مراهقًا يجب عليّ أن أقرأ الشعر وأحفظه ثم أكتب القصائد وأكون ملمًا بأنواع وبحور الشعر وأسماء كبار الشعراء.

وحين أصبح شابًا أُعتقل، ليس مهمًا أين، قد أعتقل عند الأعداء الطبيعيين، وقد أُعتقل عند الأشقاء العرب. وكذلك ليست التهمة مهمة -فهي موجودة دومًا بانتظاري لأنني فلسطيني.

حين أكون فلسطينيًا أيها الأرستقراطي الكريه، فهذا يعني أنني أحفظ أسماء الشهداء منذ ثورة فلسطين الكبرى عام 1936 حتى اليوم. وأن أعلم أعداد المعتقلين الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية، وفي المعتقلات العربية.

أن أكون فلسطينيًا، يعني أن أكون صاحب الكوفية الفلسطينية، التي حملت منذ قرن من الزمن معاني الشرف والنضال والإباء والتضحية. وأصبحت الكوفية الفلسطينية منذ العام 1936 رمزًا للهوية الوطنية الفلسطينية، وشعارًا يلتف حوله الأصدقاء والمناصرون والمتعاطفون معها في كل بقاع الأرض.

أن أكون فلسطينيًا، فهذا يعني أن أعرف أماكن وأسماء السجون والمعتقلات في العالم، وأحفظ تاريخ الثورات في العالم وأسماء قادتها وأبرز منجزاتها، بداية من ثورة سبارتاكوس حتى ثورة الجوع والتغيير في لبنان.

أن أكون فلسطينيًا يعني أن أصاب بمرض اسمه الحزن يصاحبني طوال حياتي، ويلتصق أنين الحجارة بصوتي، ويفترسني الخوف من المطارات العربية، وتربكني الموانئ، لأن أيام عمري تتساقط على هذه الأرصفة محطة تلو المحطة وأظل غريبًا.

يعني أن يكون لدي ذاكرة قوية بالفطرة والاكتساب. فأنا أتذكر عدد حبات رمال البحر على شواطئ فلسطين، وأتذكر صوت كل مئذنة وجرس، وأعلم موقع كل جامع وكنيسة من صوت الآذان والترتيل. أتذكر ضحكة كل طفل في مدينتي، أماكن أفران خبز الصاج. أن أظل متذكرًا أن لا عصفور لي يرابط عند نافذتي، وأن أظل أتذكر أقنعة الجلّادين، وطعم الوجع، وجدران المدينة، وأذكر لون الفجر، ورائحة الموت الممتزج بالبارود.

لأنني فلسطيني، أدركت مع الوقت أهمية الأرقام والأعداد في حياتي. تحوّل اسمي إلى رقم في جداول وكالة الغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين التابعة للأمم المتحدة، وتحوّلَ تاريخي كله إلى أرقام ومحطات، بدءًا من العهد الإغريقي مرورًا بالانتداب البريطاني لغاية اللحظة. كل شيء في حياتي تحول إلى أرقام. موقع بيت جدي في فلسطين الذي يسكنه مهاجر يهودي من روسيا؛ كم يبلغ بالأرقام عدد أفراد أسرتي، المعتقلين والمنفيين والمفقودين والمقتولين. عدد الأيام التي أمضيتها في المعتقلات وفي المشافي وأمام أبواب أجهزة الأمن. عدد السنين التي عشتها في المخيم، رقم لجوئي في المنافي البعيدة. عدد المجازر والمذابح التي ارتكبها الآخرون بحق أهلي وشعبي. عدد وتواريخ المناسبات الوطنية، وعدد هزائم العرب. سوف يلهج لسانك بالشكر لمن اخترع الأرقام، إذ لولا وجود الأرقام لما كنت أصلا موجودًا. يعني أنني عشت حالة من الحنين الدائم في جميع أحوالي، في صحوتي ويقظتي، إلا وتكون فلسطين حاضرة تعيش بي وأعيش بها ولا تفارقني لحظة.

هل أرغب أن تعرف أكثر عن الفلسطيني؟ حسنًا، سوف أخبرك.

تعرف على هذا الكائن

أن أكون فلسطينيًا فهذا يعني أنه كان لي وطنًا جميلًا مثل وطنك، وكان لنا بيارة وبيتًا دافئًا مثل بيتك، ولنا بستان جميل، ومكان عمل، وعائلة وأقارب وأصدقاء وجيران، مثل عائلتك وجيرانك. لكن فجأة جاء أحد ما، لسبب ما، بمساعدة ودعم من جهات ما، ومنها جهات عربية شقيقة، وخيانة وتآمر ما، تم قتل نصف عائلتي، وطُرد الآخرون خارج وطني. بقي بعض الأفراد القلائل من عائلتي على قيد الحياة في وطنهم، لكنهم أصبحوا ضيوفًا ثقلاء في أرضهم.

أن أكون فلسطينيًا هذا يعني أنني كنت أسيرُ في شارع ما، في عاصمة ما، في دولة ما، ولم أكن أعلم هل سأعود إلى بيتي أم لا، خاصة إن كانت دولة عربية ما. أنني كنت متواجدًا في مطار ما، في دولة ما، غادر الجميع قاعة الوصول وخرجوا وكان أهاليهم في انتظارهم. إلاّ أنا بقيت في المطار لسبب ما لا أفهمه. ثم يتم اعتقالي أيامًا أو أسابيعًا أو شهورًا أو أعوامًا، دون أن يجرؤ أحد على السؤال عني. وقد يقتلونني داخل المعتقلات، دون أن يرتعش جفن السجان، فأنا فلسطيني. في أحسن الحالات، كان يتم احتجازي في المطار داخل غرفة قذرة، ثم يقومون بتسفيري في أقرب رحلة عائدًا إلى حيث قدمت. طبعًا دون توضيح أو ذكر الأسباب، فأنت فلسطيني.

أن أكون فلسطينيًا، هذا يعني أن تصبح كل الجهات رماحًا أمام عيني. أن تتدلى المشانق من أجل عنقي في معظم العواصم. أن ينمو الصقيع على شرفات المنافي التي تتقاذفني.

أن أعود في يوم ما محمولًا فوق الأكف إلى عشب أمي. أن أرى والدي يموت في مكان ما، فوق فراش بارد، وكان لايزال يتحدث عن كروم العنب والزيتون في فلسطين، وعن أمله في العودة إليها يومًا ما.

أخيرًا

لبنان الذي تغزّل بها الشاعر السوري الكبير نزار قباني، وبيروت النجمة والخيمة الأخيرة للشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش، ليست لبنان بوجهها القبيح الذي أظهرته اليوم. من أساء إلى الفلسطينيين في لبنان عبر الرسم الكاريكاتيري، فقد أساء إلى لبنان أولًا وإلى العلاقات الأخوية المتميزة بين الشعبين الفلسطيني واللبناني.

هذا الانزلاق الصادم من صحيفة الجمهورية اللبنانية بنشرها الرسم الاستفزازي المهين، دون أي مبرر، يبعث برسالة تحمل رمزية دنيئة تنضح بالعنصرية والكراهية، وتستفز عموم الشعب الفلسطيني، في لبنان وخارجه، ويكشف حقدًا دفينًا ضد الفلسطينيين عند أصحاب هذا التيار الذين أذكّرهم- وكل الذين يتطاولون على الشعب الفلسطيني- أننا الشعب الوحيد في الكون الذي انهار كل شيء من حوله، انهارت مدننا وقرانا ومخيماتنا، انهارت مقابرنا وأفراح صغارنا، ولا زلنا نأمل أن ينبت الحطب زهرًا. فكيف يموت قلبنا؟

*باحث وكاتب فلسطيني مقيم في الدنمارك

مواضيع ذات صلة

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

أهم الأخبار

فتح ميديا أوروبا