الدهاء الإسرائيلي في خلط الأوراق كتب غازي السعدي

لو قام العرب، بمراجعة الوثائق الإسرائيلية، خاصة التي دار النقاش حولها، في اجتماعات لندن، بين أعوام 1945-1947، التي أجريت من قبل الخارجية البريطانية، بحضور ومشاركة وفد من الدول العربية، وآخر عن الحركة الصهيونية، لما قام العرب، وأيضاً الفلسطينيون، بالتفاوض لعقد السلام مع إسرائيل، فنية الحركة الصهيونية حول إقامة دولة وتهجير ما استطاعت من يهود العالم لفلسطين كانت واضحة منذ البداية، والوفد العربي الذي شارك في مفاوضات لندن، ورفضه لقرار التقسيم، كان على علم بالنوايا التوسعية والعنصرية للحركة الصهيونية، قبل عشرات السنوات، وقبل أن يتضح لنا اليوم، فالدهاء الصهيوني وما تخطط له إسرائيل، ومحاولتها خلط الأوراق، وتحريف الوقائع، وسياسة التضليل والكذب والخداع والتسويف لإضاعة الوقت أصبحت معروفة، من ناحية أخرى وللأسف فإن الإسرائيليين الذين يستقون معلوماتهم من إعلامهم الضال فقط، يصدقونه ويأخذونه على محمل الجد، مثال ذلك موضوع طرد الفلسطينيين من ديارهم، ليتشتتوا ويصبحوا لاجئين في شتى أنحاء العالم، فكانت القيادة الإسرائيلية تنفي مسؤوليتها عن طردهم، مع أن بعض الجهات والمؤرخين الإسرائيليين، اعترفوا بهذه الحقيقة، وبقيت السياسة الرسمية الإسرائيلية، تقول بأنهم نزحوا بإرادتهم الشخصية، رغم أن سياسة التهجير ما زالت مستمرة، مع أن النقاش في موضوع اللاجئين تراجع عن جدول الأعمال، ليحتل مكانه موضوعا نهب الأراضي الفلسطينية من ناحية، والاستيطان الواسع المدمر من الناحية الأخرى، فإسرائيل .. كما كان موقف الوفد الصهيوني في محادثات لندن عام 1945، تعتبر الضفة الغربية أرضاً يهودية، وذلك لإلحاقها بالمنطقة المحتلة منذ عام 1948 وضمها لها.

السؤال: ماذا لو كشفت إسرائيل عن وثائقها المحفوظة بالأرشيف الصهيوني؟ فكبار المسؤولين الإسرائيليين، من وزراء، ورؤساء حكومات، يلوحون بأن إجراءات واعتداءات ومخططات ومشاريع كثيرة، يقومون بها داخل وخارج إسرائيل يحظرون نشرها، لكن لا بد أن يأتي يوم وتنكشف، كما انكشفت وثيقة جديدة نشرتها جريدة “هآرتس 27-5-2015″، بتوقيع أول رئيس حكومة إسرائيلية هو “دافيد بن غوريون”، تحوي تعليمات بمنع عودة مواطني مدينة حيفا العرب إلى بيوتهم، في أعقاب احتلالها وتهجيرهم، وتحمل هذه الوثيقة تاريخ “2-6-1948″، أي بعد شهر ونصف الشهر من احتلال حيفا، وبعد عدة أسابيع من الإعلان عن قيام إسرائيل، وكانت هذه الرسالة الوثيقة، موجهة إلى “أباحوشي” الذي كان سكرتير مجلس عمال حيفا، وأصبح فيما بعد رئيس بلديتها، ونصت الرسالة على “إن القنصل البريطاني في حيفا “سيريل ماريوت”، يحاول إعادة المهجرين إلى مدينتهم، لكننا لسنا معنيين بإعادة العدو إلى حين انتهاء الحرب، وعلى كل المؤسسات العمل وفقاً لذلك”.

إن الغريب في الأمر، سعي القنصل البريطاني لإعادة المهجرين، في الوقت الذي ساهمت السفن العسكرية البريطانية، التي يطلق عليها “زحافات”، في نقل سكان حيفا من مينائها إلى ميناء عكا، ومنها ينتشرون للانضمام إلى أقربائهم في المدينة، أو قرى الجليل، ومنهم من وجد طريقه إلى لبنان، عن طريق رأس الناقورة، ليصبحوا لاجئين، ووثيقة “بن غوريون” هذه تتناقض مع ما جاء في مذكرات “غولدا مئير” في كتابها “حياتي” حيث ادعت أن “بن غوريون” طلب منها محاولة منع هروب عرب حيفا.

وعودة إلى البدايات، ففي تاريخ 27 من شهر كانون الثاني 1947، نشرت الخارجية البريطانية تقريراً مفصلاً لأول مرة، عن مرحلة الانتداب البريطاني لفلسطين، الذي استمر ثلاثين عاماً، وعن النشاط الصهيوني في فلسطين، فالبريطانيون تقدموا بمشروع “حكم ذاتي إقليمي”، للعرب واليهود، إلا أنه رُفض من قبل الجانبين، وطلب من “بن غوريون” رسم خارطة وحدود الدولة الصهيونية، حتى قبل قرار التقسيم، بعد أن توصلوا لقناعة بعدم وجود أمل بقيام تعاون يهودي-عربي في دولة واحدة، والوفد العربي عارض تقسيم فلسطين لأنها أرض عربية، كما كانوا يشككون بإمكانية تأييد ثلثي أعضاء الجمعية العمومية للأمم المتحدة لمشروع التقسيم، بينما كانت مواقف “بن غوريون” واضحة وصريحة، بأن أهداف الحركة الصهيونية تتلخص: بتأمين الوجود القومي لليهود في فلسطين، وحرية الهجرة، وحرية الاستيطان والاستقلال السياسي، فـ”بن غوريون” أراد إقامة دولة لليهود فقط في كل فلسطين، ويرى أنه من الممكن التوصل إلى تعاون يهودي-عربي في المجالين الاقتصادي والاجتماعي، ولكن ليس في المجال السياسي، معترفاً أن العرب لن يوافقوا على هجرة يهودية حرة إلى فلسطين، وإذا أقيمت دولة واحدة مزدوجة القومية في فلسطين، فإن أول قانون ستشرعه الأغلبية العربية هو تقييد الهجرة اليهودية، وهذا ما يرفضه الصهاينة بشدة، فـ “بن غوريون” يريد إقامة دولة ليس لليهود الذين يعيشون في فلسطين في ذلك الوقت، بل للأجيال التي تولد، وليهود العالم.

خلال الاجتماعات التشاورية بين “بن غوريون” والوفد الصهيوني المرافق، من أعضاء الوكالة اليهودية، اتفق على تقديم حل عملي يتضمن رسم حدود التقسيم، والإدعاء بتأييد التقسيم، وإذا وافقوا عليه، فإنهم يقومون بتضحية كبيرة من جانبهم، ففي اجتماعات لندن آنفة الذكر، لم تكن وجهات نظر المسؤولين البريطانيين متطابقة، فوزير الخارجية البريطانية “بيفن” وصف نظرة الصهيونية للعرب، كما كان ينظر الأميركيون للهنود الحمر، وأن ما يجري من ممارسات صهيونية وأساليبها، من مماطلة والاستيلاء على أراضي العرب، وإقامة المستوطنات، صورة طبق الأصل للأساليب التي اتبعتها الصهيونية في فلسطين، للاستيلاء على الأرض، حتى قبل إقامة إسرائيل وحتى اليوم، فملحق جريدة دافار الإسرائيلية بتاريخ “6-4-1976″، نقلت ما دار من مناقشات في لندن، قبل اتخاذ قرار التقسيم، الذي حظي بتأييد (33) صوتاً ومعارضة (13) وامتناع (10) عن التصويت، وكان ذلك بالضغوط والإغراءات، فآباؤنا وأجدادنا كانوا مصيبين عندما رفضوا قرار التقسيم.

وفي وثيقة أخرى نشرتها جريدة “يديعوت احرونوت 15-10-1995″، فقد اقترح سفير إسرائيل في روما آنذاك “إلياهو ساسون” والذي أصبح وزيراً فيما بعد، والخبير بالشؤون العربية، وهو من أصل عراقي، اقترح في جلسة في وزارة الخارجية الإسرائيلية في مطلع سنوات الخمسينات، تجزئة الأردن مع الضفة الغربية، وتقسيمهما بين إسرائيل والسعودية والعراق، وذلك لحل قضية اللاجئين الفلسطينيين، وشارك في النقاش وزيرة الخارجية آنذاك “غولدا مئير” التي عارضت المقترح، وكان ذلك عشية حرب سيناء 1956، فكانت أولوية “بن غوريون” القضاء على “جمال عبد الناصر” ، فـ “ساسون” أراد نقل (400) ألف لاجئ فلسطيني من الأردن إلى العراق، دون أن يكون لإسرائيل دور مباشر، بل أن يكون التنفيذ من قبل العرب أنفسهم، لكن هذه الخطة جُمدت.

في عام 1993، وفي عهد حكومة “اسحاق رابين” ورئاسة “ياسر عرفات”، جرى التوقيع على اتفاقية “أوسلو”.. أصوات أيدتها وأصوات انتقدتها- فحكومة “رابين” التي كانت تعتمد على (61) نائباً من مجموع (120) عدد نواب الكنيست تعرضت إلى انتقادات إسرائيلية، إذ رأى اليمين الإسرائيلي بهذا الاتفاق تنازلاً إسرائيلياً لصالح الفلسطينيين، فأجهزوا على رابين وقتلوه، أما حكومة “نتنياهو” الرابعة فهي أيضاً تعتمد على (61) نائباً، كما كان حال حكومة “رابين” فإن موضوع التسوية، وتحقيق السلام غير قائم في أجندة هذه الحكومة، ولو عدنا لمراجعة مواقف الوفد الصهيوني برئاسة “بن غوريون” في اجتماعات لندن، آنفة الذكر، فإن حكومة “نتنياهو” تسير في نفس المسار، من أجل ضم الأراضي الفلسطينية لإسرائيل، ومع أن العالم بأغلبيته الساحقة يقف ضد الاحتلال الإسرائيلي، لكن إزالة هذا الاحتلال، وإقامة الدولة الفلسطينية يحتاج إلى واحد من اثنين، الأول: الحل العسكري المفقود، فالدول العربية مشغولة فيما هو أهم من القضية الفلسطينية، أما الثاني: تحول في الرأي العام الإسرائيلي، وقيام جبهة إسرائيلية عريضة، تطالب بإنهاء الاحتلال لتحقيق السلام مع الفلسطينيين، وهذا مستبعد على الأقل في الوقت الحاضر، فلم يبق أمام الفلسطينيين سوى التوجه لمحكمة جرائم الحرب في “لاهاي”الذي يحتاج إلى سنوات لإصدار قرار لصالح الفلسطينيين، وإذا حصل ذلك فلا نعرف كم من السنوات بحاجة لتنفيذ القرار، وخلال هذه السنوات، تواصل إسرائيل مشروعها الصهيوني- الاستيطان- ونهب ما تبقى من الأراضي الفلسطينية، فما العمل؟

مواضيع ذات صلة

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

أهم الأخبار

فتح ميديا أوروبا