الرئيسيةمتفرقاتكتابأن تقع سبيّاً .. صلاح التعمري الإنسان والمناضل من زمن الثورة

أن تقع سبيّاً .. صلاح التعمري الإنسان والمناضل من زمن الثورة

الكاتب والباحث/ ناهـض زقـوت

في الثالث والعشرين من ابريل عام 2022 غيب الموت القائد والمناضل الفلسطيني صلاح التعمري (أسعد سليمان حسن عبد القادر سليمان) من مواليد بلدة التعامرة بيت لحم عام 1942. بعد معاناة طويلة مع المرض سنوات، عاشها مغيباً عن المشهد السياسي الفلسطيني، بعد أن كان ذات يوم علماً من أعلام هذا المشهد، فهو سياسي وعسكري فلسطيني برتبة لواء، وقيادي في حركة فتح بل من المؤسسين الأوائل في حركة فتح، وقائد الشبيبة في حركة فتح في لبنان، وعضو اللجنة القيادية لحركة فتح في لبنان، وبطل وقائد معسكر الأسرى في الجنوب اللبناني (أنصار) عام 1982، وعضو المجلس الثوري لحركة فتح، والمجلس الاستشاري للحركة، والمجلس العسكري، والمجلس المركزي الفلسطيني، والمجلس الوطني الفلسطيني. انتخب عضواً في المجلس التشريعي الفلسطيني خلال انتخابات عام 1996، وشغل منصب وزير الشباب والرياضة في الحكومة الفلسطينية الثامنة، وشغل محافظ سابق لمحافظة بيت لحم، ومستشاراً للرئيس محمود عباس لشؤون الاستيطان والجدار.
لقد خلد الكاتبان الزوجان الإسرائيليان “عماليا (ارغمان) وأهرون برنيع” في كتابهما (أن تقع سبيّاً) ملامح من سيرة حياة المناضل الوطني صلاح التعمري. جاء الكتاب في أصله باللغة العبرية، وترجم إلى عدة لغات أجنبية، وترجمه إلى العربية محمد حمزة غنايم، ونشرته دار الهدى للنشر، كفر قرع 1988.
أن تقع سبيّاً، عنوان كتاب مثير، لم يقل أسيراً، بل سبيّاً، كلمة سبي أوسع وأشمل في التعبير من كلمة أسير، وإن تقاربا في المعنى، أي أخذ الشخص من مكان إلى مكان آخر قهراً، ولكنه ثمة معاني أخرى للسبي منها فتنة القلوب والعقول، والذي يأسر القلوب. وهذا ما يؤكد على ما جاء في متن الكتاب أن شخصية صلاح التعمري تأسر القلوب، وفتنة للعقل.
يقع الكتاب في 360 صفحة، ويتكون من 16 فصلاً. لن نقرأ الكتاب كله في مقالنا، بل ما يشكل ملامحاً من شخصية صلاح التعمري الإنسان والمناضل، وقدرته على التأثير في محدثه الاسرائيلي، مما يجعله يغير رأيه وأفكاره عن الفلسطينيين، بأنهم ليسوا ارهابيين، بل ثمة قواسم مشتركة تجمع بينهم، لذلك حينما تحدث الصحفي اهرون بعد اللقاء مع زوجته عن تفاصيل اللقاء، قالت له أنها لا تريد أن تسمع في بيتها كلمة واحدة عن ذلك (المخرب)، ولكن حسب قول اهرون، بعد ذلك بأسبوعين، كانت عماليا هي من قدمت له القهوة في بيتنا.
جاء في تقديم الكاتبين ما يوضح أهدافهما من الكتاب: “ليس الغاية من هذا الكتاب عرض مجابهة سياسية، وإنما سرد وقائع لقاء إنساني، حاولنا ألا نقصره على نقل الحقائق والأحداث فقط، بل أردناه أن ينقل تجربة هذا اللقاء وقصة العلاقة الشخصية التي تدور على الهوامش الضيقة للكراهية الكبرى والصراع المشبع بالدم، فهو ليس كتاباً موضوعياً أو متوازناً، ولا يرمي لأن يكون كذلك. إن قصة صلاح التعمري هي قصة فلسطيني يختلف كثيراً عن الصورة المتعارف عليها لدينا نحن الاسرائيليين عن أعضاء فتح، وكثيراً ما تركنا التعمري يتحدث عن نفسه، لمعرفتنا الأكيدة بأن هذا الأسلوب هو أنجع أسلوب لاختراق الآراء المسبقة لدى الاسرائيليين التي رسمت للفلسطينيين، صورة قاسية للغاية، وهو ما رمينا إلى تحقيقه من وراء ذلك”.
ورغم محاولة الكتاب رسم صورة مغايرة للفلسطينيين في الذهنية الاسرائيلية، إلا أن الكاتبين في تقديمهما يعترفان بتدخلات الرقيب الاسرائيلي في صياغة بعض جمل الكتاب، يقولان في التقديم: “وهناك حالات قسرية كثيرة، وبخاصة ما يتعلق منها بالرقابة الاسرائيلية، جعلت الغموض في عدد من الفصول يربو على ما هو جلي فيها، .. وكذلك قمنا بتحريف عدد من الفصول والأحداث، وأخفيت كذلك وقائع معينة بشكل تام ..”. لذا على القارئ العربي أن يكون حذراً في نقل بعض ما جاء في الكتاب لأن ثمة حقائق غير منطقية أوردها الكتاب تتعلق بحياة صلاح التعمري (مثلاً أن التعمري هو الذي سلم نفسه للإسرائيليين)، في حين أن حديث التعمري مع الصحفي وفق ما سجله يتناقض مع هذه المعلومة، لذلك نحن نشكك في مصداقيتها، حيث نجد ما جاء على لسان الصحفي الاسرائيلي نفسه: “لم يغادر التعمري وحيداً مثل كثير من القادة الفلسطينيين، بل بقي بين الناس يتفقد أحوالهم ويسأل عن رجاله وأشباله من بقي حياً ومن استشهد، عاش بين البيارات والكروم مختبئاً”. وفي مكان أخر من الحديث قال الصحفي: “أن التعمري قطع عهداً أمام نفسه، وأمام عرفات أيضاً، بأن يتواجد مع رجاله في ساحة القتال، ووعد بأن يقوم المقاتلون سوية مع الاشبال بالرد، ولن يسمحوا للإسرائيليين بتحويل غزوهم للبنان إلى نزهة صيفية”. كيف يستقيم هذا الحديث مع أنه سلم نفسه؟!!. في حين أنه أن الاسرائيليين فتشوا بيته بحثاً عنه، وطالبوا أخته أن يسلم نفسه، وكانوا يبحثون عنه في كل الأماكن، ويسالون عنه بالاسم. وحينما وزع الاسرائيليون منشورات تطالب السكان بالتجمع عند الشاطئ، رفض لعائلته وأصدقائه من الجيران أن يمتثلوا للأمر وأن يذهبوا إلى الشاطئ. كل هذا وغيره يتناقض مع رواية الكتاب التي تلاعبت بها الرقابة الاسرائيلية. وكذلك ما لاحظناه في قراءة الكتاب أنه يخلط بين رأي الصحفي وحديث صلاح التعمري، لذا على القارئ أن يفرق بين ما يقوله الكتاب (على لسان الصحفي الاسرائيلي) وما جاء على لسان التعمري.
جاءت قصة الكتاب واللقاء مع صلاح التعمري بعد أسره في صيدا خلال حرب لبنان عام 1982، واعتقاله في معسكر أنصار الذي أقامته السلطات الاسرائيلية في الجنوب اللبناني كمعتقل للفلسطينيين خلال الحرب، فقد اتصل مكتب الناطق بلسان الجيش الاسرائيلي مع الصحفي اهرون برينع المحرر للشؤون العربية في إذاعة صوت اسرائيل، ليخبره باعتقال قائد أطفال الار. بي. جي. في لبنان، وهو قائد كبير في فتح، وكان هذا الاتصال في الأسبوع الثالث من يونيو 1982، وعرض عليه اجراء لقاء صحفي معه. لم يشعر الصحفي بالحماس لهذا اللقاء، وطلب تأجيله إلى أيام أخرى، وقال في نفسه: “قائد أطفال الار. بي. جي. بطل فلسطيني يرسل إلى الموت أطفالاً في الثانية عشرة من عمرهم وهم يحملون أسلحة يصل طولها أحياناً إلى طول حامليها أو أكثر، أية قصة يمكنه بيعها لي بعد هذا كله”. بعد أسبوع أبدى استعداه للقاء، وأخبر زوجته (عماليا) أنه لن يتأخر أكثر من ساعة.
في غرفة قائد معسكر أنصار الاسرائيلي كان اللقاء، النظرة الأولى للصحفي بمجرد دخول صلاح التعمري إليه أبهرته، حيث لم يجد أمامه شخصاً منكسراً، بل “وقف أمامي رجل طويل القامة، يكاد يصل ارتفاع اطار الباب، يرتدي ملابس بالية، وقد غزا الشعر لحيته، دخل إلى الغرفة متردد الخطى، يبصبص بعينيه أمام الضوء القوي، يبدو أنه كان يقبع في عتمة تامة. … نظرت إلى الشخص الواقف أمامي، رجل عريض المنكبين، شعر داكن لكنه ليس معتماً، وقد كان جلده فاتحاً، اكتست العينان المتنقلتان بنوع من القلق بالحمرة، لعله التعب، قلة النوم، لكن لونه الأخضر انبثق من داخل حمرة العينين، لون أخضر غامق وفريد من نوعه، رغم أنه لم يكن قد حلق ذقنه، ورغم ملابسه البالية وعينيه المحمرتين، فقد كان وسيماً”.
حين سأله عن ألم معصميه من القيد، قال: نعم، بجفاء، لكن ليس هذا الشيء المروع هنا، ثمة ما هو أفظع من ذلك”. عندها شعر الصحفي أن ثمة ما سيحكيه عن المعاملة السيئة في السجن. حاول أن يدفعه لكي يحكي، ما هو الشيء الأشد ايلاماً؟. قال التعمري ما جعل الصحفي يستفز ويخرج عن شعوره: “ما يؤلمني أكثر، هو رؤية كيف أنتم اليهود، الشعب الذي عرف الكارثة، تتصرفون هكذا مع أسرى الحرب الذين يقعون بأيديكم”. حينها يقول اهرون بغضب أن الفلسطينيين يقتلون بلا تمييز، أولاد ونساء ورياضيون”، عندها قال التعمري: “إن من قتل النساء والأطفال بلا تمييز هم طياروكم، الذين يلقون قنابل النابالم على مخيمات اللاجئين”.
لم يتوقع الصحفي هجوما كهذا، ورغم أن لديه ما يقوله، حسب قوله، إلا أنه آثر عدم الانجرار وراء مساجلة طويلة التي لا معنى لها من الاتهامات المتبادلة، لذلك حاول أن يلطف الاجواء، لكن التعمري واصل استفزازه، أنت صحفي، وأين تعمل؟ وكيف أعرف أنك صحفي؟. أخرج له البطاقة، تفحصها بدقة ثم أعادها. ثم قال له حسناً، سل ما تشاء، وسوف أجيبك على كل سؤال.
لم يفتح الصحفي جهاز التسجيل إلا بعد ثلاث ساعات من الدردشة والنقاش، في محاولة منه للتعرف على الشخص الجالس أمامه، حيث شعر أنه أمام شخصية غير عادية، ويختلف عن كثير من الأسرى الذين التقى بهم، كان بالنسبة إليه صدمة ذهنية، يقول: “في الحقيقة فإن رغبتي في التعرف عليه تجاوزت متطلبات مقابلة من هذا النوع، وبكل بساطة لقد أثار الرجل فضولي، وأردت أن أعرف ما تخفيه عيناه الخضراوان المتقدتان”.
يسأله عن اسمه، قال: صلاح التعمري، وحين حاول أن يسأله عن اسمه الحقيقي، قال له هذا هو الاسم الكامل في حركة فتح، وهو ليس اسماً مستعاراً، وفتح ليست حركة سرية بل حركة تحرر، فتح هي حركة تحرير فلسطين، الحركة الصهيونية لدي الشعب الفلسطيني. عندها شعر الصحفي أنه يتمادى في حديثه، إلا أنه قر عدم الانجرار وراءه فلن يكون لذلك حد.
لقد كان الصحفي شاعراً بالعجز أمام ما يطرحه التعمري من أراء وأفكار ورؤى سياسية، ولكنه كان معجباً بشخصيته وسلوكه المتحدي واصراره على عدم تغيير رأيه، والاحساس بكرامته الشخصية. وما بهره أنه مصر على تسمية فتح بحركة وليس منظمة، فقد اعتاد، كما يقول اهرون، أفراد المنظمات الفلسطينية الذين كانوا يقعون في أسر الجيش الاسرائيلي على تسمية فتح بالعربية منظمة، ولكن اصراره على التحدث عن حركة، دل على أنه يعتبر الجانب الفكري والأيديولوجي من الصراع أكثر أهمية.
أخذ التحدث بينهما باللغة الانجليزية جانباً مهماً، أثار انتباه الصحفي أنه يتحدث الانجليزية بطلاقه، فكان فضوله أن يعرف أين تعلمها. قال: تعلمتها في جامعة عين شمس، فأنا حاصل على رسالة ماجستير في الأدب الإنجليزي عن الشاعر تي. اس. اليوت. أخذ يتحدث بالإنجليزية عن اليوت، والصحفي منصت إليه في محاولة للتعرف على شخصيته. كان في كل لحظة حوار يكون معرفة، ولكن في لحظة أخرى تتغير ملامح الشخصية، فيعود مرة أخرى للتعرف، شخصية مراوغة ولكنها مثقفة شعر نفسه أمام أستاذ يلقي محاضرة كما يقول. وكان الصحفي بين الحين والآخر، يسأل نفسه مستفسراً، محاولاً الوقوف على الشخصية الخاصة لهذا الرجل.
“كان المسجل في محله على الأرض مغلقاً، كان الحديث آسراً بحيث لم أرغب في التعامل معه الآن، إنني ببساطة نسيت وجوده”. هذا ما يقوله اهرون. كان حلم التعمري بعد أن أنهى دراسته في القاهرة أن يعود إلى بيت لحم يعمل مدرساً للإنجليزية، لكنه لم يستطع، وكان ذلك في عام 67، في تلك الأثناء احتللتم الضفة الغربية واغتلتم حلمي. ثم حكي عن انتقاله للأردن ومشاركته في معركة الكرامة عام 1968، وحينما ذكر الكرامة يقول اهرون: “ومرة واحدة انتفضت من اصغائي الهادئ، وقد أخذ بي الانفعال لوميض من الذكرى مر في خاطري”. يسأله هل كنت قائد فتح في الكرامة، وهو يكاد يصرخ. وكان التعمري غارقاً في هدوءه، ويرمقه بنظرات طويلة، ثم قال: “بحق الجحيم، إنني أتذكر في أحد جوانب ذاكرتي صوتك اللعين”. لقد تذكره التعمري ولم تخنه الذاكرة.
انفتحت ذاكرة اهرون لتروي حكاية الصوت اللعين، يقول: في هذا اليوم (21 مارس 1968) خرجت في مهمة صحفية بمرافقة القوات الاسرائيلية التي هاجمت الكرامة، فور دخولنا المكان، اقترب مني أحد الضباط، وأعطاني قائمة بأسماء رجال فتح، وطلب مني لأني أعرف العربية أن أبدأ بالمناداة عليهم لكي يسلموا أنفسهم. كان الاسم الأول في القائمة “صلاح” أتذكره الآن، وطيلة ذلك اليوم ظللت أردد هذا الاسم عبر مكبر الصوت عشرات المرات وربما مئات المرات، ظللت اليوم كله أنادي باسمه مرة تلو الأخرى، إلى أن كاد حلقي يجف. ولم يخرج صلاح، تركنا الكرامة نجمع موتانا وجرحانا، وانحفر الاسم عميقاً في ذاكرتي. والآن جالس أمامي يتذكر الصوت اللعين، أين كنت آنذاك، ألم تسمعني أناديك.
قال التعمري: “تنقلت طيلة اليوم بين مواقع مقاتلينا، تحت رصاص وقذائف دباباتكم، رأيتكم تقتربون، وميزت سلاح الهندسة التابع لكم يقتربون من البيت الذي كنت فيه ويحيطونه بالديناميت، جلست تحت إحدى الطاولات ، وبعد بضع دقائق طار البيت في الهواء، .. بعد ساعة انصرفتم أنتم، وبقيت أنا، وكما ترى لم أصب بأي خدش”.
شعر اهرون بالارتياح بعد أن كشف له السر بعد 14 عاماً، وفي ذات الوقت أحس أنه أمام حدث خارق، شيء لا يحدث مرات كثيرة في الحياة. وقد واصل التعمري حديثه عن تاريخه في حركة فتح، وبدايات نشاطه في لبنان، حتى أسره. وأكد رغم كونه عسكرياً أنه لم يلبس البدلة العسكرية أبدأ بل كان دائماً بالملابس المدنية، وأن مرجعيته القيادية كان ياسر عرفات مباشرة، وإليه يرفع التقارير، وتشعب الحديث بينهم، وتتالت مفاجئات التعمري، وانفتاحه واعتداله واتساع افاقه، وأكثر ما لفت انتباه الصحفي بشكل خاص المامه بموضوع التاريخ اليهودي، والكارثة، وتاريخ الصهيونية ودولة اسرائيل، وعن حرب 1973، وأشار في أثناء حديثه إلى مكتبته في بيته بصيدا، التي تضم العديد من الكتب التي اشتراها باللغة الإنجليزية عن اليهودية والتاريخ اليهودي.
حينما يشعر الإنسان بالنقص أمام الآخرين، يحاول أن يبرز ذاته، وهذا ما حدث مع الصحفي اهرون، إذ دفعته ثقافة التعمري وقدرته على الحديث بالإنجليزية، أن يسعى لإبراز ذاته وإمكانياته الثقافية والعلمية، يقول: “لم يكن التعمري وحده من حكى عن نفسه، فأنا كذلك أسهمت بنصيبي في المحادثة، مسترجعاً بين الفينة والأخرى مقاطع مختلفة من حياتي”، فأخذ يتحدث عن نفسه: بأنه حاصل على دكتوراه من جامعة كاليفورنيا في بيركلي في موضوع اللهجات العربية المحكية، وكان عنوان رسالته (تحليل اجتماعي – لغوي للهجة المحكية في غزة)، وأنه عاش في غزة نصف عام تقريباً لجمع مادة دراسته. وقد عمل ملحقاً صحفياً في السفارة الاسرائيلية بالقاهرة قبل ثلاث سنوات (1980)، وسكن في القاهرة مدة سنة. ويعمل في إذاعة صوت اسرائيل مذيعاً ومحرراً لنشرات الأخبار، ومراسلاً للإذاعة للشؤون العربية. ثم تحدث عن استقبال السادات في اسرائيل، وعن مشاركته في اللقاء الصحفي الذي جمع السادات مع الصحفيين في اسرائيل.
كان اهرون دائماً يذكر نفسه أنه “لم ينس كونه جالساً أمام ضابط كبير في فتح، عضو في منظمة التحرير الفلسطينية، تلك المنظمة التي لا يزال العدد الأكبر من فصائلها يرفض الاعتراف بحق دولة اسرائيل بالوجود ويؤمن بإمكانية تصفيتها، منظمة يراها أغلب الاسرائيليين العدو الأول الذي يجب محاربته بلا هوادة”. وكان شعوره أيضاً رغم الأحاديث المتشعبة بينهما دون قيود أو ضوابط أنه ما زال في نظر التعمري ممثلاً للمؤسسة العسكرية الاسرائيلية الصهيونية، التي تأسره، ولن تسمح له بالعودة إلى بيته. وقد نجم عن ذلك كله قسط لا بأس به من المناقشات الحادة أحياناً، ولم يكن بمقدور أية ألفة الجسر بين مواقفهم المتناقضة في مسائل معينة.
لقد اعتقد الصحفي أنه أمام أسير عادي لا يعرف غير اطلاق النار والقيام بعمليات العسكرية، ولكنه وجد نفسه أمام عقلية سياسية جبارة قادرة على أن تجيب على أي سؤال دون خوف أو وجل، بل أحياناً دون مراوغة أو بطريقة دبلوماسية. كشف التعمري عن موقفه من العنف، بأنه ضد العنف، ولكنه يدافع عن حقه كفلسطيني سلب وطنه، فنبذ العنف لا يعني الاستسلام للعدو، بل يستمر الكفاح والنضال بطرق أخرى، فكان واضحاً في اثبات حقه ونضاله، ومن حديثه مع اهرون يبرز البعد الإنساني لدى التعمري، وهذا ما أكده الصحفي بقوله: اتضح من حديث التعمري أنه لم يسفك في حياته الدم أبداً، وأنه ساهم في انقاذ حياة أناس أبرياء أكثر من مرة معرضاً نفسه للخطر في بعض الأحيان، حتى أنه في أحد الحالات المؤسية التي وقعت في أثناء الحرب الأهلية في لبنان، حال دون وقوع مذبحة جماعية، أنقذ حوالي ثمانين مواطناً مسيحياً لجأوا إلى الكنيسة في الدامور هاربين من غضب جمهور فلسطيني حاول التنكيل بهم في عملية انتقام.
يطرح التعمري موقفه من الصراع دون مواربة أو خجل بل واضحاً، ويعبر عن رأيه بكل جراءة، وحسب رؤية اهرون، كان التعمري يتحدث بلهجة الواثق من طريقه وأفعاله، لذا حاول أن يستفزه وتعرض لأصعب نقطة يمكن أن تثيره، فقد سأله عن موقفه الأخلاقي من عمليات ميونخ، وسافوي، ومعالوت التي نفذتها الحركة التي يفاخر أنه عضو فيها، وقد خيره بعدم الرد إذا لم يستطع. إلا أنه قال: لا يوجد سؤال أخجل من الرد عليه، لكل شيء تفسير يتعلق بالسائل، وبسبب السؤال، وبما أنه إذا كان ينوي اغلاق أذنيه وسماع الاجابات التي تتردد في عقله هو، أم أنه يرغب في الفهم حقاً”. صعقه الرد الذي ينطوي على السخرية من السائل، هل أنت تسعى للفهم، أن أنك تريد اجابة تتوافق مع ما علق في ذهنك من مؤسستك العسكرية. فما كان من اهرون إلا أن ينصت لقول التعمري: إن القتل من أجل القتل هو أمر بشع، وقتل الأولاد والنساء والأناس الأبرياء هو أمر فظيع ومروع، لذلك يجب أن نوجه الاتهام إلى أولئك الذين يقومون به حسب حجم جريمتهم، بمعنى عدد الأشخاص الذين قتلوهم، لقد قتل أولاد في مدرسة بحر البقر في مصر ودير ياسين وفي بيروت أيضاً، بأم عيني شاهدت القذائف تمزق أجسادهم إلى شظايا، لذلك لا بد أن ندين هذه الأفعال. … فإن رد فعل الأفراد على الظلم يتحدد وفق مبناهم النفسي والعقلاني، إذا صفعتني على خدي، فمن المحتمل أن أرد لك نفس الصفعة، ونتعادل، … ويتشعب حديثه عن موضوعات أخرى تتعلق بالعنف والنضال. إلى أن يسأله الصحفي: ألم يحدث أن سألت نفسك مرة عن السبب؟، قال دون تردد “بالطبع دائماً أتساءل عن السبب، لا بيت لي، والاسرائيليون يريدون تصفية وجودي كفلسطيني، لا أجد سبباً آخر لذلك، هذا هو تفسيري للأعمال الإرهابية (حسب وصفهم) سواء قبلت هذا التفسير أم لا”.
لم يكن لدى الصحفي رد على ما طرحه، فانتقل إلى سؤال آخر حول ما يتردد في الاعلام من محاولات فيليب حبيب التفاوض وخروج الثورة من لبنان، فكان سؤاله عن موقفه من الخروج. فكان رده أنه موافق على الخروج دون المساس بكرامة المقاتلين. وحول اقتراح يقدمه لياسر عرفات، قال: أثق بقدرته على الحكم، كما وثقف به دائماً. وعن وجهة الخروج قال: نحن الضحايا، مطالبون بحل هذه المشكلة، في الوقت الذي تبدو فيه الاجابة في متناول أيدينا، لنعد إلى بيتنا فلسطين.
استمر التسجيل ساعة واحدة، ولكن اللقاء استمر خمس ساعات من النقاش قبل التسجيل. يقول اهرون: بدا التعمري منهكاً جراء التركيز المتواصل، وضرورة وزن كل كلمة سيقولها. طلب إعادة الاستماع إلى التسجيل قبل بثه.
كان التسجيل يحمل ملامح من سيرته ونضاله وحياته الشخصية، وعن سير العمليات الفدائية وقوات الثورة في الجنوب اللبناني فور دخول القوات الاسرائيلية، وأحوال الناس الذين عادوا إلى سيرتهم الأولى عام 1948، ويشير إلى معركة مخيم عين الحلوة التي كانت من أقسى المعارك، فالقنابل التي ألقيت من الجو على المخيم أبادت المخيم، وتحول مخيم عين الحلوة إلى (متسادا – مذبحة) لدى الفلسطينيين، وفضل الكثيرون من المقاتلين الفلسطينيين أن يموتوا ويأخذون معهم إلى الموت الأطفال والنساء، شرط ألا يستسلموا. ثم يتحدث عن زواجه من الملكة دينا وهي الزوجة الأولى للملك حسين ملك الأردن، حيث كانت معه خلال المعارك، ثم طلب منها المغادرة إلى القاهرة حيث والدتها المريضة، وبقي معه في البيت أخته. وحديث عن ظروف معتقل أنصار، ويصف أحوال المعتقلين الفلسطينيين، بأنهم أكوام من البشر يتعرضون لأقسى معاملة من الضرب والاهانة، كان بينهم مدنيون كثيرون من أولئك الناس الذي عرف أنهم لم تربطهم صلة بمنظمة التحرير، وتعرف بين الوجوه على أصحاب مراكز مركزية في صيدا، في المدارس والمستشفيات والبلدية والمؤسسات العامة. وموضوعات أخرى كثيرة، لا تستوعبها مقالة محدودة.
غادر اهرون معتقل أنصار بعد أن ودع صلاح التعمري على أمل اللقاء مجدداً، وفي السيارة قال: لقد أسرني هذا الرجل بروعته، صلاح التعمري، أية قصة، قلت للمرآة في السيارة، أية قصة.
تواصلت اللقاءات بين الصحفي اهرون وصلاح التعمري بعد نقله إلى السجن داخل اسرائيل، ووضع في زنزانة قذرة، ويحكي عن تجربته في الزنزانة، ويصف نفسه داخلها بأنه في “حرب من أجل الاحتفاظ العقلي”.
وقد تمكن الصحفي اهرون من اخراج التعمري من سجنه، وأخذه في جولة داخل البلاد، وزيارة الكاتب الاسرائيلي عاموس عوز، والكارثة والبطولة (يا فاشييم)، ويشير الصحفي للهدف من تواصل الزيارة والحديث معه في محاولة لإقناع المسؤولين الاسرائيليين بهذا الأمر، فهو في نظره أكبر قائد فلسطيني يتم أسره، فقد كان التعمري آنذاك برتبة مقدم: “قلت، يحب تغيير النظرة إليه، يجب أن نريه وجه اسرائيل الحقيقي، لعله سيفهم أن دولة اسرائيل الحقيقية تختلف عن تلك التي تصورها أجهزة الاعلام الفلسطينية، تلك الأجهزة التي كان له أيضاً دور هام في تحريكها”. وهذا كان هدف المؤسسة العسكرية الاسرائيلية وهيئتها الرقابية من قلب الحقائق في الكتاب.
لكن صلاح التعمري كما يقول الصحفي اهرون “لم يتخل عن قناعاته وانتمائه الوطني، وأكد أنه ملتزم بالدفاع عن قناعته”، يقول التعمري: “إنني أدافع عن هذا الانتماء طيلة عمري، لأنني سلبت حق الانتماء إلى حيث أنتمي، إنني أقف في مجابهة الخطر الذي يتهددني، سوية مع أخوتي في المصير، لذلك فإنني شخصياً ملزم بالعثور على صيغة للمناورة، وليس بالضرورة أن تكون غايتي الحصول على السعادة، وإنما أن تكون معاناتي أقل”.

أخبار ذات علاقة

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

أهم الأخبار

اخترنا لكم

المكتب الإعلامي الفلسطيني في أوروبا