وداعا أيها النور الشريف كتب احمد دحبور

مع انه ما من كبير على الموت، اذ ان كلا منا وارد هذا المقام، الا ان نبأ رحيل النجم الكبير نور الشريف قد أوجع ذاكرتي وروحي، وذلك انه، رحمه الله، قد زارنا غير مرة، فلفت أنظار ضيوف المجلس الوطني الفلسطيني، باشراقته وقوة حضوره، أما انا فقد اتيح لي ان أراه عن كثب وبعمق، اذ قدمني اليه المنتج الفلسطيني الكبير حسين القلا – الذي لا أدري اين هو الآن – وأغرتني عفوية النجم السينمائي المشع، بأن اطلب منه دعمنا بحضوره عندما كنت أقدم سهرة تلفزيونية بعنوان «على مرمى حجر»، وكانت مذيعتنا المعتمدة هي الراحلة العزيزة سعاد دباح رحمها الله، وكان النجم نور الشريف موجودا وفق مصادفة سعيدة، فقد كان ينزل ضيفا على المجلس الوطني الفلسطيني، ووجدتني أسأله بعفوية من غير مقدمات، ما اذا كان يرضى ان يشرفنا باطلالة تلفزيونية، وكانت المفاجأة انه وافق بلا تردد، ثم لما رأى امكانات سعاد دباح، زادت حماسته للمشاركة، وقد وصفها يومها – رحم الله الاثنين – بأنها من أهم الوجوه والاصوات التلفزيونية، وكانت الورطة التي لم أحسب لها حسابا، هي انه لا يوجد مخرج لدينا، فقد كنت أتولى بنفسي تلك المغامرة .. وأعطاني نور الشريف فرصة ان اقوم بمهمة الاخراج لذلك العمل الذي لا يزال موجودا .. وقعت هذه المناسبة عام 1988، أما المكان فهو ابو ظبي، عاصمة الامارات العربية المتحدة التي وفرت لنا ضيافة كريمة تليق بهذا البلد العربي الكريم .. وحين دخل نور الشريف الى الاستديو، فوجئنا بأننا أمام ابن بلد اصيل، شديد العفوية والتواضع، اذ انه ما كان ليدخل الا اذا سبقته سعاد، فهو باحترامه العالي للمرأة كان يرى ذلك واجبا، ثم لما ظهرت امكانات سعاد الاذاعية، لم يبخل بالثناء عليها بل أكد سعادته بخدمة عمل فلسطيني الى جانب مذيعة فلسطينية جميلة وقديرة .. وفي تلك التجربة المثيرة، لم يكن نور الشريف نجما لامعا شهيرا، بقدر ما كان أخا مصريا سعيدا بتقديم أي شيء الى فلسطين، وكان تواضعه العفوي الجميل يحمله على ان يسألنا عما اذا كنا راضين عن مشاركته النبيلة لنا، وعندما كنا نثني على ادائه كان وجهه الحميم يتخضب بحمرة التواضع ..

وكان من مفاجآته لي ولمجمل العاملين في تلك السهرة التلفزيونية، تلك السرعة الفذة في حفظ النص المكتوب له، فكنت اعطيه المادة المكتوبة ليمرر عليها عينيه واذا به يحفظها عن ظهر قلب، مع ضبط التشكيل وتلقائية القراءة، فيبدو كأنه هو كاتب الكلمة لا أنا، وما اكثر ما قاده تواضعه المدهش الى السؤال عما اذا كان اخطأ في القراءة او تلعثم .. حتى اذا انتهينا من تلك التجربة المثيرة، فوجئنا به يستأذن في أخذ نسخة من فيلم تلك السهرة، وكأننا نحن اصحاب الفضل في المساعدة لا هو ..

وأراه بعد بضعة أشهر من تلك الواقعة، ليبادرني بالتحية وكأني صاحب الذكرى الجميلة لا هو، ثم يسأل ما اذا كانت هناك فرصة لاحقة لتكرار التجربة .. وبذلك، ومن يومها، تكرس نور الشريف في مخيلتي، لا بوصفه نجما سينمائيا كما هو بالفعل، بل بوصفه، ايضا وايضا، انسانا دمثا نبيلا نادر المثال ..

وفي احدى المصادفات الشيقة، صحبته الى بيتنا في تونس، عندما كان ابني الوحيد لا يزال طفلا، ولكم ان تقدروا انبهار الطفل البريء برؤية النجم السينمائي الكبير، ولكن ابني العفوي، حاول ان يكحلها فعماها، او هكذا تراءى لي، عندما قال ببراءته غير المتلعثمة: ان نجمه المفضل هو محمود ياسين ..! ولم يتحرج ذلك النور الشريف من «وقاحة» الولد، بل قال ضاحكا: ان لك ذوقا سينمائيا لا بد من تبليغ محمود ياسين به .. ثم انه بادر الى احتضان ابني وهو يردد: انه جيل عجيب حقا!!

ولعلي استعيد، بسعادة، واقعة دخول النجم الكبير الى قاعة المجلس الوطني في الجزائر، تلبية لدعوة من الأخ أبي عمار، وتجمع المعجبون الموزعون بين الدهشة والسعادة لرؤية نور الشريف، – وكانت كذلك هناك، النجمة نادية لطفي – فكانت تلك من اللحظات النادرة التي تؤكد عمق العلاقة انسانيا بين مصر وفلسطين، وقد تم ارتجال أمسية أدبية على هامش المجلس كان نور الشريف نجمها المتميز حتى تعبت يده من فرط ما فرض عليه المعجبون من توقيع على دفاترهم وأوراقهم، حتى فاجأنا المخرج اللامع علي بدرخان بتعليق طريف قائم على فكرة تأجيل نور الشريف لنشاطه الفني وتفرغه للقضية الفلسطينية، وكان نور – رحمه الله – من أسعد الناس بذلك التعليق المعبر عن خفة دم المصريين وسرعة بديهتهم ..

اما المفاجأة الشخصية التي وصلتني من تلك الواقعة، فهي طلاقة لسان نور الشريف بالعربية الفصحى حتى انه لم يكن يحتاج الى وقت طويل لحفظ النص المكتوب، ولعل الشريط الذي وثق هذه الواقعة لا يزال موجودا، واذا كان كذلك فسأكون من أسعد الناس اذا جرى العمل على عرضه تلفزيونيا بعد هذه السنوات الطويلة .. ومن طرائف ذلك التسجيل، انه كان من المفروض ان يردد نور بيت أبي القاسم الشابي الشهير: اذا الشعب يوما اراد الحياة، واذا به يجري تعديلا للنص على الهواء مباشرة فيقول بدلا من «فلا بد ان يستجيب القدر»، وبشيء من الارتجال:

اذا الشعب يوما أراد الحياة

فلا بد ان يستجيب الحجر

وقد سعد أبو عمار، رحمه الله، بتلك اللفتة من نور الشريف وقال له: كنت نجما سينمائيا فأصبحت نجما شعريا .. أما نور، فانه بتواضعه المحبب، اكتفى بطلب نسخة من ذلك الشريط لأنه – على حد تعبيره – مجد ومفخرة له ..

وأراه بعد أشهر من تلك الواقعة، في فندق شبرد القاهري، ولما تحرجت ان اتقدم اليه مصافحا، هرع بنفسه اليّ وعانقني مرددا: لا بد ان يستجيب الحجر ..

رحمه الله، كنت حتى ذلك التاريخ، أتعامل معه بوصفه نجما سينمائيا كبيرا ففرضت عفويته وأريحيته علينا ان نتعامل معه أساسا بوصفه انسانا كبيرا، وهذا طبيعي، فالفنان الكبير الصادر عن مزيج من الموهبة والقناعة، هو انسان كبير بالضرورة .. ولقد كان كذلك رحمه الله .. فوداعا والى لقاء أيها النور الشريف ..

مواضيع ذات صلة

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

أهم الأخبار

المكتب الإعلامي الفلسطيني في أوروبا